عاجل
الأربعاء 31 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
صفعة قوية على وجه أكبر منظمة دولية.. عالم ما بعد الحرب الروسية- الأوكرانية «2»

صفعة قوية على وجه أكبر منظمة دولية.. عالم ما بعد الحرب الروسية- الأوكرانية «2»

صفعة قوية جديدة، على وجه المنظمات الدولية، صدى صوتها سيدوي كثيرًا في آذان كل من يُعمل عقله، لتنبت في الأذهان مزيدًا من الأشجار في غابة الشك، في مصداقيتها، تزيد كثافتها مع كل أزمة سياسية كاشفة، أحد الخمسة الكبار بالعالم أصحاب "الفيتو" أطرافها.



 

المنظمات الدولية، منها عامة دولية، كالأمم المتحدة، التي تفتح باب عضويتها لجميع الدول المستقلة، وعامة إقليمية، كالاتحاد الإفريقي أو جامعة الدول العربية، تضم المنتمين للإقليم ذي الخصائص الواحدة، جغرافية أو قومية.

 

والخاصة من المنظمات، منها ما هو عالمي يضم جميع دول العالم، تنشغل بقضايا خاصة كمنظمة العمل الدولية، ومتخصصة إقليمية كالجماعة الأوروبية للطاقة الذرية.

 

في 28 يونيو 1914 بسراييفو، قرعت الحرب العالمية الأولى طبولها، أشعلت شرارتها طلقات نارية خرجت من فوهة سلاح متطرف صربي، متجهة إلى جسدي الأرشيدوق فرانز فرديناند، ولي العهد النمساوي المجري، وزوجته الأرشيدوقة صوفي، غادرا الحياة، فبدأت المأساة، التي لم يُسدل ستارها إلا بعد أن خلّفت ١٠ ملايين قتيل، خلال أربع سنوات دامية.

 

لا يشغلنا الآن أطرافها، ومن انخرطوا في جبهتيها المتصارعتين، ما نستدل به أنها كارثة حقيقية، لم تشهد الإنسانية مثيلًا لما خلفته من دمار، ومعاناة الشعوب، وضحايا عددهم ناهز العشرة ملايين، متخطيًا ضحايا الحروب التي شهدتها المئة عام السابقة عليها.

 

تلك الصدمة دفعت العالم للتفكير في تأسيس منظمة عالمية، تستهدف منع اشتعال حروب تالية، تتبنى السلم والأمن وتنزع فتيل النزاعات والصراعات قبل انفجارها.

 

لم ينتظر البابا بنديكت الخامس عشر، انتهاء الحرب، فأرسل عام 1917، خطابًا للقوى المتحاربة، يدعوها لوقف إطلاق النار، مقترحًا، تشكيل منظمة تعمل على حل النزاعات، وتعزيز السلم بين الدول، وما أن وضعت الحرب أوزارها ١٩١٨، حتى نادى الرئيس الأمريكي ويلسون في خطاب له بالكونجرس بتأسيس "عصبة الأمم".

 

انتهز المتصارعون الفرصة، وهم يوقّعون معاهدة فرساي 1919، لإنهاء الحرب وما ترتب عليه من مكاسب المُنتصرين، ليضعوا ملحق عهد عصبة الأمم، ويتحدد مقرها في جنيف، بعد رفض الكونجرس الأمريكي الانضمام لها.

 

والغريب أن ألمانيا انسحبت بعد التوقيع، فيما كانت الصين ضمن الدول الـ37، المدرجة بملحق عهد العصبة، غير أنها لم توقّع، لتبدأ العصبة مهمتها الخطيرة نوفمبر 1920.

 

احترقت عصبة الأمم، بنيران فشلها في تحقيق السلم والأمن الدوليين، وصراعات قوى الاستعمار، في زمن كانت فيه معظم دول قارات العالم تحت نير الاحتلال، انسحبت 16 دولة فأزهق روحها، وفي 31 يوليو 1947، أغلقت حساباتها بالبنوك، لتوارى عصبة الأمم الثرى.

 

دروس التاريخ تؤكد، أن المنظمات الدولية، ما هي إلا آلية للسيطرة وبسط النفوذ على الدول الناشئة الساعية للنهوض، وما القانون الدولي إلا عصا غليظة يلوّح بها الأقوياء في وجه الدول النامية، تضعها العظمى تحت أقدامها حين يصطدم بمصالحها ورغباتها.

 

في الأول من سبتمبر 1939، دارت رحا الحرب العالمية الثانية، تحصد الأرواح، في صراع دامٍ بين دول الحلفاء: "أمريكا والصين وبريطانيا والاتحاد السوفيتي"، في مواجهة دول المحور: "ألمانيا"، بقيادة هتلر الذي أشعل الحرب، لتنضم إليه "اليابان وإيطاليا"، حتى أطفأ الله نارها سبتمبر 1945. 

 

الطريف أن دول الحلفاء المنتصرين، بقيادة أمريكا، أطلقوا على أنفسهم الأمم المتحدة، لتوصيف حالهم خلال إعلان تحالفهم 1942، والحرب في قمة اشتعالها، وهو المصطلح الذي أطلقه للمرة الأولى الرئيس الأمريكي روزفلت، ليبدأ التفكير في وضع ميثاق للمنظمة وهيكل واختصاصات.

 

والأطرف من خلال الغوص في أعماق نشأة تلك المنظمة، نكتشف أن المشاورات أخذت شكلها الجدي في روسيا 1943، ثم في اجتماعات تالية بالعاصمة الإيرانية طهران، ثم الأمريكية واشنطن، لكن الأكثر دلالة هو أن أربع دول من خمس دول، يمتلكون حق الفيتو، اليوم، شاركت في مفاوضات التأسيس، هي: "أمريكا وروسيا والصين وبريطانيا".

 

ليُعقد المؤتمر التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة بسان فرانسيسكو إبريل 1945، الذي شهد صياغة المسودة النهائية للقانون المنشأ، بموافقة 50 دولة، لتنضم بولندا، الدولة رقم 51 عقب المؤتمر مباشرة.

 

وما ينبغي أن يعلمه شبابنا، عن عظمة مصر، وقوة دبلوماسيتها، أنها بالرغم من اشتراط القانون التأسيسي، استقلال الدولة كأحد أهم شروط الانضمام للدول المؤسسة، فإن مصر- التي كانت في ذلك الوقت تقاوم الاحتلال البريطاني- نجحت في أن تكون أحد الخمسين دولة المؤسسين للأمم المتحدة.

 

فقد استفادت مصر من نظام الانتداب، الذي وضعته عصبة الأمم قبل أن توارى الثرى، لتصبح مصر، أحد أربع دول فقط بالقارة الإفريقية، ضمن المؤسسين، وهم: مصر، وجنوب إفريقيا وإثيوبيا وليبيريا.

 

بيد أن الدول الخمس الكبار، التي تمثل فقط 2.5% من إجمالي عدد الدول الموقعة على القانون التأسيسي، استحوذوا على مزايا حق الفيتو، الذي يعطي أيًا منهم حق تعطيل صدور أي قرار لا يحقق مصالحهم.

 

وبخلاف عضوية المؤسسين، أتيحت للدول الراغبة، بعد بدء عمل المنظمة فعليًا عام 1951، التقدم بطلبات اكتساب العضوية، والتوقيع على معاهدة الإنشاء للالتزام بأهدافها، ويشترط لقبولهم موافقة ثلثي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليصل عدد الأعضاء الفعليين الآن 193 دولة.

 

ويبقى السؤال هنا عن الهدف الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة، والإجابة بحسب ميثاقها: حفظ السلم والأمن الدوليين، وتطوير العلاقات الدولية بين أعضائها، وتعزيز العلاقات التعاونية، وتعزيز حقوق الإنسان، وأن تكون المنظمة مرجعًا للدول الأعضاء.

 

وقياسًا على الواقع، يتضح- بما لا يدع مجالًا لأي شك- أن دول التحالف، المؤسسين، والمحتكرين للميزات التفضيلية، بامتلاك حق الفيتو: "أمريكا- روسيا- بريطانيا- فرنسا- الصين"، باتوا من أقوى الخصوم المتصارعين، فروسيا وأمريكا حلفاء الحرب العالمية الثانية، أعداء ما بعدها لعقود من الصراع، انتهاءً بالحرب الباردة التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي 1991.

 

والصين تخوض مع أمريكا صراعًا اقتصاديًا، وحرب نفوذ حامية الوطيس، فلم تنجح المنظمة لا في حفظ السلم والأمن الدوليين، ولا تعزيز العلاقات، ولا إنهاء الصراعات عند الرجوع إليها للفصل في النزاعات.

 

كبار المؤسسين، أصحاب الفيتو، يوظفون تلك المنظمة لمصالحهم الخاصة، ويستخدمون الدول النامية الضعيفة من القارات الخمس، وقودًا تصويتيًا في ساعات الحسم، فإن لم يسعفهم التصويت، أنجزهم الفيتو.

 

ولنا في مجلس الأمن ذكريات سيئة، وواقع أكثر دلالة، وهو أحد أهم الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة المعني باحتواء النزاعات وإصدار قرارات تحفظ الأمن والسلم الدوليين.

 

ويتكون مجلس الأمن والسلم الدولي، من ممثلين لـ15 دولة، 5 منهم دائمو العضوية، ويحق لأي منهم استخدام حق الفيتو لتعطيل أي قرار، حيث تعتمد آلية التصويت على أنه يشترط لاتخاذ القرارات موافقة 9 أعضاء من بينهم الخمسة أعضاء الدائمون، وهم: "أمريكا وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا".

 

وبناء على ذلك عندما غزت أمريكا العراق، لم يستطع مجلس الأمن إدانتها، لامتلاكها حق الفيتو، فضلًا على سيطرتها على عدد من الأعضاء الدائمين وغير الدائمين، وعندما غزت روسيا بالأمس القريب أوكرانيا، وفي ظل الحرب الدائرة، ورغم إدانة أمريكا وبريطانيا وفرنسا الهجوم الروسي، فإنهم لم يستطيعوا استصدار قرار إدانة لروسيا.

 

فقد استخدمت روسيا حق الفيتو، فتعطل القرار الذي وافقت عليه 11 دولة، بما يفوق النصاب القانوني، لكن فشل القرار؛ لأنه ليس كل الخمسة المحتكرين للميزة التفضيلية موافقين، فروسيا معترضة، والصين امتنعت عن التصويت، ومعها من غير الدائمين الهند والإمارات.

 

ولعل امتناع الهند والإمارات عن التصويت، مجرد حسابات سياسية، ورسائل معنوية أكثر منها مؤثرة بأي حال من الأحوال على تعطيل القرار.

 

وهذه السيطرة على مجلس الأمن الدولي، تتضح خطورتها من مهامه، فهو أحد أهم الأجهزة الرئيسة الستة للأمم المتحدة، والوحيد صاحب الحق في إصدار قرارات ملزمة، بحسب المادة الرابعة من الميثاق، ويلزم الميثاق الدول بالامتثال لقراراته، ويحق له فرض جزاءات أو السماح باستخدام القوة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو استعادتهما.

 

إذن تلك الأجهزة التي تمتلك قوة الردع، مشلولة، بفعل فيتو الكبار المتصارعين، الذين في كل الحالات هم الأطراف الرئيسية في العدوان، فكيف لهم أن يحفظوا السلم والأمن الدوليين.

 

وفي حال كون المعتدي من عملائهم بالوكالة يحققون له الحماية، والنموذج الصارخ، أمريكا والكيان الصهيوني، المسمى إسرائيل، فما من قرار تسعى الدول العربية لاقتناصه ضد احتلال فلسطين وجرائم جيش العدوان الإسرائيلي، إلا وتعطله أمريكا بهذا الفيتو اللعين.

 

ويبقى السؤال: ما الحل حال كان أحد أطراف الصراع عضوًا دائمًا يستخدم حق الفيتو، لغلِّ يد مجلس الأمن عن اتخاذ قرارات، كما حدث بالأمس من روسيا؟

 

هنا وفق الميثاق، يمكن بطلب من مجلس الأمن، ودعوة الأمين العام للأمم المتحدة، عقد جلسة طارئة للجمعية العامة، السلطة الأعلى، والمشكلة من الدول كافة، ذات التصويت المتساوي، بواقع صوت لكل دولة، لبحث قضية الأمن والسلم الدوليين، لاتخاذ قرار مناسب، لكن يُشترط لاتخاذ هكذا قرار أن يحظى بموافقة ثلثي أعضاء الجمعية العمومية.

 

والخلاصة:  ١- عالم ما بعد الحرب الروسية- الأوكرانية، يختلف عما قبلها، فقد تصدعت التحالفات الدولية السابقة، وتصدع نظام القطب الواحد، ليبدأ بزوغ عالم ليس ثنائيًا بل متعدد الأقطاب، تفرضه موازين القوى الجديدة.

 

٢- أحدثت تلك الحرب، شروخًا عميقة في جدار مصداقية وفاعلية أجهزة الأمم المتحدة، نظرة مدققة من بين تلك الشروخ، تجعلك ترى بوضح، مآلات الانهيار في تلك المنظمة العاجزة عن أداء دورها وأهداف نشأتها. 

 

٣- عالم ما بين الحرب الروسية- الأوكرانية، يدفع الدول الناهضة لضرورة حتمية، للمشاركة في تأسيس نظام جديد لإدارة العالم، بإعادة هيكلة منظمة الأمم المتحدة، لتتسع أجهزتها لتمثيل عادل ومتوازن لكل دول العالم، لتصبح قادرة على اتخاذ القرار الصائب وقادرة على تنفيذه.

 

وحال مقاومة القوى الخمس المتصارعة للإصلاحات الدولية، سيكون في اعتقادي أمامها احتمالان:  الأول: تنامي الصراع، بما يدفع أعضاء للانسحاب من عضويتها، لتتفكك تدريجيًا ليكون مصيرها نفس مصير عصبة الأمم، لتبدأ الأقطاب المتعددة التي بدأت في البزوغ في إقامة نظام جديد قادر على الوفاء باحتياجات البشرية، المراعي للتوازن الجديد للقوى.

 

الثاني: تحول الدول الأعضاء لمنظمات إقليمية وتحالفات دولية ضمن أقطاب جديدة، تجد فيها تعزيزًا لقدراتها الدفاعية، وتوفر الحماية البديلة، ليصبح السلام نتاج قوى الردع التنافسية المتنامية، لا فاعلية منظمات تحكمها قوانين دولية.

 

وللحديث، إن شاء الله، بقية.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز