د. حسام عطا
صدى غزة وجدار الصمت
لا شك أن عرض صدى جدار الصمت للمخرج اللبناني وليد عوني لهو تعبير عن إرادة سياسة ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة المصرية.
واختيار وليد عوني كمصمم رقص حديث هو اختيار صائب يذهب في اتجاه الصور والمشاعر والتعبير بالحركة عن الحرب في غزة. ففرصة التعبير بالصور أكثر تأثيراً من التعبير بالحوار، إذا ما كان المستهدف هو جمهور من فناني العالم الذين حضروا إلى مصر للمشاركة في الدورة الحادية والثلاثين لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي. وقد حصد عوني اللبناني الذي يعيش بمصر ومؤسس فرقة الرقص الحديث بدار الأوبرا المصرية شرف التفاعل الإبداعي الأول، والذي تأخر كثيراً مع الحرب على غزة في المسرح المصري.
وعرض جدار الصمت هو عرض عن الجدار الأشهر العازل في فلسطين العربية، وهو الجدار الحديدي العازل الفاصل بين المستوطنات وغزة، إنه الجدار الذي اخترقته المقاومة الفلسطينية، وتم عبر اختراقه اختراق ما يحتويه من تكنولوجيا متقدمة ليعبر المقاومون إلى المستوطنات التي تم الاصطلاح على تسميتها بجدار غزة.
وهو ذلك الجدار القوي الذكي الذي يحوي جدارا خرسانيا مقوى مزودا بأجهزة الاستشعار عن بعد، وغيرها من كاميرات المراقبة الكثيرة جداً وقد تم اختراق هذا الجدار عند تسع وعشرين نقطة، ليؤكد رجال المقاومة في غزة استحالة فصلهم عن أرضهم المحتلة.
وقد أطلق عوني عرضه بعنوان صدى جدار الصمت، في اختيار دقيق محسوس وحسي ومادي حمله دلالات رمزية مدهشة تأتي معظمها من الحركة الطبيعية للبشر كما نراها، لكن وليد عوني يجعلها جمالية وجديدة كأننا نراها للمرة الأولى.
وقد استخدم وليد قدرة الفن على أن يقول ما لا تقوله الكلمات، وهو ما يضطر الناقد لإيضاحه والحديث عنه رغم سيولته وتشظيه داخل عرض صدى جدار الصمت.
في جدار الصمت يخرج وليد عوني عن عادته في معظم عروضه السابقة وأبرزها الأفيال تختبئ لتموت عن الغموض الفني في الطرح الفكري، وغالباً ما يعمل وليد في عروضه على المشاعر الإنسانية والعذابات الوجودية، لكن عوني بلا شك واحد من كتيبة المبدعين العرب الأصلاء، وهم بطبيعتهم ينحازون للإنسان، ويعملون ضد القهر الإنساني والعدوان، وهو هذه المرة يصدح بصياح فني مرتفع الصوت متبنياً صوت أم كلثوم سيدة الغناء العربي، مع صوت السماء فيروز، وصوت موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، في إعلان يستعيد الوجدان المصري والعربي في الغناء الذي صنع الموقف العاطفي والسياسي مع القضية الفلسطينية قضية مصر وقضية العرب المركزية.
وفي هذا العرض يسير وليد عوني وراء المعادل الصوتي، وليس كما اعتاد أن يفعل بأن يأتي الرقص أولاً ثم تحضر الموسيقى، في هذه المرة صوت فيروز وهي تنادي يا قدس، مع رصانة عبد الوهاب وموسيقى إيقاعية وعمق وإشباع صوت أم كلثوم الجامع بين العزوبة والقوة ومزج مع صوت أوبرالي إنساني معبر عن ألم روحي عميق، يأتي الصوت كدليل للصورة يسبقها بخطوة.
وتنساب رؤى بصرية حركية للجدار وهو قائم حاجز ثم نره متفككاً، ويتحرك عبر سخرية هامسة في كل الاتجاهات إذ يفككه المقاومون ويلعبون به كما يلعب الأطفال الأقوياء في عرض صدى جدار الصمت، وأمام الجدار وخلفه تسير مجموعات من أهل غزة في دوائر لا نهائية من ملامح مسيرات النزوح والتهجير القسري وعذاب المدنيين في صور صدى الجدار الصامت، تصرخ الكثير من الصور للمقاومين الأبطال مرفوعي الرأس، رغم كل ما يحدث لهم ينادون بصيحة واحدة غزة، وهي الكلمة الوحيدة التي ينطق بها العرض بقوة، فلم ينس العرض مع مشاهد القسوة والإبادة الجماعية أمرين، الأول هو بسالة المقاومة وانتصارها الواضح وتحديها لترسانة الأسلحة والقوة وصمودها حتى الآن رغم كل ما يحدث.
جدار الصمت لا يمكنه إنكار الصمود الحي المتصل، والصدح بهذا الصمود ضرورة فهمها العرض جيداً.
والأمر الثاني هو المستقبل إذ يعمد العرض إلى وجود صبية تلهو بالجدار وباللعب عليه والذهاب شمالاً وجنوباً، كما ترقص طفلة مبهجة قوية أمامنا رقصة القوة والمستقبل في إشارة إلى فلسطين الأم القادرة على إنجاب الأجيال التي ستبقى محافظة على حقوقها المشروعة.
يستخدم عوني أيضاً جدار الصمت كي يستنطق التاريخ والصراع التاريخي القديم حول القدس ليبقى أصحاب الأرض في مدينة السلام يتحدون الغزاة، يظهر ذلك في تلك المبارزة بين إمبراطور تاريخي ومقاوم فلسطيني معاصر.
تخرج الورود والأزهار من الجدار الأسمنتي الصلب، ويعانق أهل غزة الماء، به يتطهرون الماء سر الحياة، نكتشفه مدهشاً عندما نراه في جدار الصمت، وصدى الماء هو حلم البقاء وسر الوجود وعلامة الانتصار.
يستخدم عرض صدى جدار الصمت الريش الملون كأسهم يرشقها الرجال في أرض الجدار سلاح ملون بسيط لكنه قادر، ككل الأسلحة التقليدية والمصنعة يدوياً من بقايا ترسانات السلاح المتقدم.
لا يحمل عرض صدى جدار الصمت تتابعاً سببياً للمشاهد، المشاهد تنساب بالكوابيس والأحلام والرؤى بلا ربط، إلا الرابط الشعوري العام.
صدى جدار الصمت يحق لوزير الثقافة أ.د أحمد فؤاد هنو أن يُحتفيَ به، لأنه الوزير الذي كسر جدار الصمت في الإبداع المسرحي المصري عن الحرب على غزة.
وهو الدور المهم الذي بحدوثه تستعيد وزارة الثقافة المصرية موقعها الطبيعي في فهم المؤسسة الثقافية الرسمية المصرية لطبيعة التكامل والتضاد بين عالمي الثقافة والسياسة والتكامل بالتضاد بين السياسة الثقافية والسياسة الواقعية في الحرب والسلام. لعلها تكون بمثابة إشارة حقيقية تكسر جدار الصمت في الإبداع المصري حول غزة وفلسطين كي تشرحه لمن لا يفهمه جيداً وكي تزين به وعي ووجدان الأجيال القادمة في مصر والوطن العربي.
ولفلسطين وغزة من قلبي سلام.