عاجل
الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
عالم ما بعد الحرب الروسية- الأوكرانية "١"

عالم ما بعد الحرب الروسية- الأوكرانية "١"

لحظة تاريخية، تلك التي بدأ فيها الجيش الروسي اجتياح الأراضي الأوكرانية، فهي لحظة فاصلة بين عالمين لكل منهما حساباته، ومعادلاته، وقيم نسبية لقواه وأقطابه، بل وشعاراته، وما خلّفته الدبلوماسية، والدعاية السياسية من صور ذهنية.



 

 

العالمان هما عالم ما قبل الحرب الروسية- الأوكرانية، وعالم ما بعدها، بما تخلفه من تحولات جيوسياسية، وصدمات كاشفة، لما سمي قبلها بالشرعية الدولية للحروب، ومفاهيم حق الدول في حماية دوائر أمنها القومي من التهديدات المحتملة، وما غير ذلك من قياسات القوى الفعلية على الأرض، وقدرات القوى العالمية على الردع العسكري والسياسي والاقتصادي، بل ومدى فاعلية المنظمات الدولية ذاتها، ومدى نفوذ ما يتشكل من تحالفات عالمية جديدة.

 

 

وفي تلك السلسلة من المقالات التحليلية، التي نغوص- بإذن الله- خلالها في أعماق أسباب ومكونات وتأثيرات تلك الحرب ونتائجها عالميًا، وإقليميًا، ودروسها المستفادة محليًا؛ نبدأ بجذور الأزمة، وتفكيك مكوناتها لإعادة تركيب مكونات المشهد لرؤية الصورة الحقيقية، وما تنبئ به من تأثيرات ونتائج، وتحولات استراتيجية في توازنات الأقطاب العالمية.

 

 

الجذور والأهمية الجيوسياسية

 

 

تمثل أوكرانيا أهمية جيوسياسية، بالغة لكلٍ من روسيا والاتحاد الأوروبي، فموقعها الجغرافي جعلها حلقة الوصل بين روسيا، التي تحد أوكرانيا من الشمال الغربي، فيما يحدها من جهة الغرب دول الاتحاد الأوروبي، ومن ثم باتت البوابة الشرقية لروسيا للوصول لدول الاتحاد الأوروبي.

 

 

وسياسيًا، بموقعها الجغرافي هذا، تقع بين اتجاهين سياسيين متنافسين، هما الاتحاد الروسي، بما لروسيا من اتجاهات سياسية وطموح تنامي النفوذ السياسي في أوروبا، والمناطق الاستراتيجية في العالم، وبين الاتجاه السياسي المناقض، الذي تمثل أمريكا رأس حربته، وما يتماهى معه من دول الاتحاد الأوروبي، فباتت أوكرانيا منطقة تجاذب سياسي يسعى كل من طرفي التنافس السياسي إلى جذبها لتدور في فلكه.

 

 

كما تمثل أوكرانيا أهمية أمنية كبيرة لكل من الطرفين، فهي أكبر الدول الأوروبية بعد روسيا مساحة، تفوق مساحتها أكبر دول الاتحاد الأوروبي، كما تعد أراضيها طريقًا رئيسيًا لوصول ٧٠٪؜ من الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي، فضلًا على تقدمها صناعيًا، وما تملكه من ثروات معدنية، وقدرة تصديرية لأهم سلعة عالمية، باحتلالها المركز الرابع عالميًا في صادرات القمح.

 

 

والأهم أنها خاصرة الأمن القومي الروسي، وفي الوقت ذاته بالغة الأهمية لدول حلف شمال الأطلسي "الناتو"، حال الانضمام له، تستطيع أمريكا والحلف استغلال الأراضي الأوكرانية للتواجد العسكري على الحدود الروسية، وهو ما يمثل لروسيا تطويقًا وتهديدًا أمنيًا إلى جانب محاصرة طموح تمدد نفوذها في أوروبا.

 

 

ولذا تزايدت أهمية أوكرانيا للقوى العظمى، المتنافسة على تمدد النفوذ في أوروبا، فهي واسطة العقد في الاتحاد السوفيتي، التي ظلت جزءًا منه منذ ١٩٢٣ وحتى أغسطس ١٩٩١، عندما قرر شعبها الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، في استفتاء شعبي، فكانت بداية تفكك القطب الثاني عالميًا، وبهذا التفكك واستقلال غالبية دول الاتحاد السوفيتي دخل العالم مرحلة أحادية القطبية؛ لتبسط أمريكا نفوذها عالميًا.

 

 

لكن رغم استقلال أوكرانيا، أو انفصالها عن الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١، في فترة تآكل الاتحاد وتصدعه عقب الهزيمة في أفغانستان، واستنزافه خلال الحرب الباردة مع أمريكا، في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن روسيا سعت جاهدة- طيلة تلك السنوات- لضمان ولاء حكومات أوكرانيا، لضمان مصالحها مع كييف وأمنها القومي.

 

 

وفي العام 2014، اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم، وضمتها بالقوة العسكرية للأراضي الروسية، ولم تستطع أمريكا والاتحاد الأوروبي فعل شيء أكثر من عقوبات اقتصادية بحق روسيا، سرعان ما تجاوزت موسكو آثارها، لتشتعل مواجهات مسلحة في إقليم دونباس، شرقي أوكرانيا، بين القوات الحكومية وميليشيات انفصالية تدعمها روسيا، تمثل 17% من سكان أوكرانيا البالغ 43 مليونًا، ويتحدث المتمردون اللغة الروسية ويدينون بالولاء لروسيا.

 

 

تلك المواجهات دفعت الألمان والفرنسيين للتدخل في وساطة بين روسيا وأوكرانيا، انتهت بتوقيع اتفاقية مينسك، نسبة إلى اسم عاصمة بلاروسيا، التي جرت فيها المفاوضات، ومن أهم بنودها: وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، ومنح إقليم دونباس- الذي يسيطر عليه الموالون لروسيا- ميزة الحكم الذاتي، لكن الصراع مع المتمردين استمر، ولم تنفذ بنود الاتفاقية بالدرجة الكاملة.

 

 

قرع طبول الحرب

 

وبهذه الأهمية الجيوسياسية، لأوكرانيا، وفي ظل نجاح أمريكا والاتحاد الأوروبي في ضم الدول الأوروبية، التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي، لحلف الناتو خاصة التي ترتبط بحدود مع أوكرانيا، مثل المجر وسلوفاكيا ورومانيا، بات الحلف العسكري الأقوى قريبًا من روسيا، يحتاج فقط ضم أوكرانيا ليحكم الطوق على الروس.

 

 

ويضم الحلف العسكري، الذي تأسس عام ١٩٤٩، بقيادة أمريكا 30 دولة أبرزها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا، وفي الوقت الذي انخرطت فيه أوكرانيا 2014 في اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، فإن الخطورة التي أقلقت روسيا هي سعي الإدارة الجديدة لأوكرانيا، برئاسة فولوديمير زيلينسكي للانضمام إلى حلف الناتو، واتخاذ سياسات تتجه بأوكرانيا إلى الغرب، وتبتعد بقوة عن روسيا.

 

 

القرار الذي سيغير موازين القوى العالمية

 

ومع ذلك التنافس على النفوذ، واتخاذ زيلينسكي وإدارته خطوات متسارعة باتجاه الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو؛ تزايدت المشاحنات السياسية الروسية- الأوكرانية، والمعارك السياسية بهدف الوصول لحلول سياسية، في حين استهدفت روسيا استعادة الولاء من قبل كييف، أو على أقل تقدير منعها من الانخراط في التحالفات مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فإن حكومة أوكرانيا الحالية تمسكت بحقها في الانضمام لحلف الأطلسي.

 

 

تمسك كييف بالانحياز للمعسكر الأمريكي، زاد من الصراع المسلح مع متمردي إقليم دونباس، الموالين لروسيا، وفي حين دعمت أمريكا إدارة كييف، دعمت روسيا المتمردين، الذين يتحدثون اللغة الروسية.

 

وفي ظل وعود أمريكا وحلف الناتو بأنهم داعمون لحكومة كييف، تزايدت تلميحات فلاديمير بوتين بدبلوماسية فرض العضلات، بحشد قوات على الحدود مع أوكرانيا، ومع فشل الحلول السياسية اندلعت الحرب فجر الخميس الماضي، بعد أيام من إعلان بوتين الاعتراف باستقلال دولتي الإقليم الموالي له، حيث اجتاحه لتأمينه، والانطلاق منه إلى العاصمة كييف.

 

ليتخذ بذلك فلاديمير بوتين قرارًا، مثّل صدمة عالمية، لما يسيره من اضطرابات سياسية واقتصادية وما يخلفه من تبعات، تعيد تشكيل موازين القوى في المعادلة الدولية، ويضع أمريكا وحلف شمال الأطلسي في مأزق بالغ الخطورة، خاصة مع تنامي الانتقادات من الرئيس الأوكراني لرد الفعل الضعيف بحسب وصفه من أمريكا والاتحاد الأوروبي والناتو تجاه اجتياح الجيش الروسي لبلاده.

 

الآثار العالمية المترتبة على الحرب

 

تتنوع الآثار المترتبة على تلك الحرب، سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا، وموازين القوى على خارطة النظام الإقليمي الأوروبي الذي سيعاد قطعًا تغييرها بالقوة، ويمكن قبل الولوج للآثار- التي أراها تلوح في الأفق- بالتفصيل، ومحاولة بحث أهداف روسيا ومبررات قرارها، وكذا سر موقف إدارة كييف، الذي بلغ بالأمور حد الصدام المسلح.

 

١- "كل الاحتمالات محسوبة بدقة وجاهزون لمواجهتها"، عبارة قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقطعًا تقديره للموقف باجتياح أوكرانيا أن أمريكا وحلف الناتو لن يستطيعوا التدخل عسكريًا لمواجهته، وسيتم الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية والسياسية للأسباب التالية في اعتقادي:

أ- أن هناك تجربة سابقة عام ٢٠١٤ بضم شبه جزيرة القرم، ولم تتجاوز ردود الأفعال العقوبات الاقتصادية والمعارك الدبلوماسية.

ب- أمريكا خرجت منهكة لتوها من أفغانستان، ولن تتورط في حرب جديدة.

ج- أمريكا تضع صراعها الاقتصادي ومعارك النفوذ مع الصين أولوية في تلك المرحلة، وهذا يرجح عدم دخولها حربًا مسلحة.

د- ستكتفي أمريكا بحماية خطوط نفوذها الأقرب لروسيا بالتواجد العسكري في ألمانيا وغيرها من دول حلف شمال الأطلسي.

هـ- حلف شمال الأطلسي لن يخوض حربًا لصالح أوكرانيا، لأنها لم تنخرط في عضويته بعد، ومن ثم لا تتوافر فيها ما تقتضيه المادة الخامسة من الاتفاقية للدفاع المشترك.

٢- إذًا الاحتمال الأرجح الذي ستلجأ إليه أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي هو الرهان على تكبيد روسيا أكبر قدر من الخسائر الاقتصادية والسياسية، عبر عقوبات اقتصادية مغلظة وحصار دبلوماسي.

 

وهو ما أعلن حتى الآن فعليًا، من قرارات بتجميد أرصدة بوتين ووزير خارجيته، وكذا أعضاء البرلمان الروسي؛ لموافقتهم على قرار الحرب، ومحاولات إخراج المؤسسات البنكية الروسية من نظام سويفت المالي، ومحاولة استصدار قرارات بمجلس الأمن والأمم المتحدة لإدانة روسيا، مع دعم أوكرانيا بالسلاح والمال للصمود بما يكبّد روسيا خسائر، ومحاولة انتزاع إدانات دولية لتكبيد روسيا خسائر سياسية.

 

 

في المقابل لعبت روسيا على الضربة العسكرية الخاطفة للسيطرة في أقصر مدى ممكن، واعتمدت على توازنها الاقتصادي، وامتلاكها ما يفوق ٦٢٥ مليار دولار كاحتياطي نقدي، وامتلاكها حق الفيتو في مجلس الأمن، لتعطيل أي قرار يدين حربها، وهو ما حدث بالفعل، وتعطل قرار مجلس الأمن الذي يتشكل من ١٥ دولة، خمس منها تملك حق الفيتو.

 

ويشترط القانون الحاكم لمجلس الأمن لصدور أي قرار أن يحظى بموافقة ٩ دول أعضاء، على أن يكون بينهم الخمسة دائمو العضوية، وهم أمريكا وفرنسا وروسيا والصين وبريطانيا، ومن ثم يستحيل صدور قرار في حال رفض روسيا، وهو ما حدث بالفعل، حيث وافق على القرار 11 دولة واستخدمت روسيا حق الفيتو وامتنعت الصين والهند والإمارات عن التصويت ففشل القرار.

 

وهو الأمر الذي أعتقد أنه سيكون له تداعيات تدعم موقف مصر والدول المطالبة بإصلاح منظومة الأمم المتحدة وأجهزتها الرئيسية، فموقف روسيا هذا هو موقف أمريكا التي احتلت العراق، وعطلت- بحق الفيتو- قرارًا يدينها، وتستخدم ذات الفيتو في حماية إسرائيل وتعطيل قرارات عدوانها بحق الفلسطينيين، وقد تستخدم غدًا الصين إذا ما احتدم صراعها مع تايوان، وهذا وضع الشريعة الدولية على المحك من جديد.

 

 

وفي حين أعلنت إسرائيل إدانتها للاجتياح الروسي، فقد ردت روسيا بإعلان اعترافها بالجولان أرضًا سورية محتلة، وهو نموذج لما تكشفه الحرب من تكتلات سياسية، وما يترتب عنه من آثار حول العديد من القضايا الإقليمية والمحلية.

 

 

لكن السؤال الآن ما هي الآثار المترتبة على الموقف الأمريكي الضعيف والخيارات المتاحة أمام إدارة جو بايدن؟

 

 

١- جو بايدن ينتهج سياسة تجنب الصراعات المسلحة، خاصة أنه لا تهديد مباشرًا للأمن القومي الأمريكي.

٢- لا تعتمد أمريكا على ثروات تتفرد بها أوكرانيا كالنفط العراقي والنفط الليبي، فالمصالح الاقتصادية المحرك الرئيسي للسياسة الأمريكية، وليس كما يزعمون ويضللون العالم، عندما يقررون العدوان المغلف بأكاذيب من عينة حقوق الإنسان، أو امتلاك صدام للسلاح النووي.

٣- لا توجد قواعد عسكرية للأمريكان في أوكرانيا تستوجب حمايتها.

٤- لن يُغامر الغرب في صدام مسلح يؤدي إلى اشتعال حرب عالمية جديدة، فقد تعلموا الدرس من الحربين العالميتين الأولى والثانية.

٥- كما يدرس بوتين كل الخيارات، فقد درس جو بايدن كل الخيارات، وفي تحليلي للأحداث، رغم أنها ما زالت في قمة تصاعدها، فإن الاثنين حددا الاحتمال الأقرب لتحقيق مصالحهما في المنافسة الاستراتيجية، بأن ينتهي الاجتياح ومع الضغوط الاقتصادية والسياسية إلى مفاوضات تثمر تقسيم أوكرانيا، لثلاث دول مستقلة، اثنتان منها بإقليم دونباس تنضم لاحقًا للاتحاد الروسي، بينما أوكرانيا توالي أمريكا والاتحاد الأوروبي.

 

السؤال المهم: لماذا خاب ظن زيلينسكي؟!

 

زيلينسكي يعاني فقدان الوعي الجيوسياسي، فلقد خدعته أماني ردع حلف الناتو عسكريًا لبوتين، وهو ما دفعه للتمسك بموقفه المتحجر بشأن المفاوضات، لكن عندما استفاق على الواقع المرير، وانهالت على كييف الضربات بدأ يُطالب بالتفاوض، لكن أعتقد فات الأوان، فالروس والأمريكان حددوا أهدافهم ومكاسبهم المتوقعة، والخاسر الوحيد هو الشعب الأوكراني والإنسانية.

 

إن شاء الله للحديث بقية

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز