مودي حكيم
نساء "روز اليوسف" 2-3
لم يختلف الحكاؤون و الرواة على شيء، مثلما إختلفوا على الست روز اليوسف و مجلتها. فسال حبر كثير عنهما، وكُتب ما كُتب: لامها بعضهم لمعاركها السياسية، و تصّديها لرجالات السياسة في زمانها، وأنصفها بعضهم، و أثنوا عليها، لأنها احتضنت و أطلقت من صاروا، فيما بعد، من مداميك الصحافة المصرية. و الأهم في ذلك كله، إنها إحتضنت، و شجعت، وأطلقت المواهب النسائية، وفتحت صفحات مجلتها لغير شابة، حملت القلم، و كتبت بحرية و جرأة، فبرز العديد منهن، إن في الكتابة أم الإدارة.
فمن هن نساء "روز اليوسف" ؟
سعاد ونيرمين ومديحة
الأمينة والمؤتمنة وست الدار
ما رؤي يوم في بيت الست روز، كان فيه الحزن، مثلما كان لحظة طَرَق الباب من حمل خبر وفاة محمود رضا.
خانتها دمعة، سالت على خدها، مسحتها الست روز بأصابعها، تمتمت بتلقائية، دعاء لراحة الموتى حفظته من زمن، و ما عادت تعرف مصدره.
ما كان محمود رضا، مجرد ممثل يؤدي معها على الخشبة، أدوارا، و يُجسد شخصيات، يحكي بلسانها حوارًا كتبه مؤلف، إنما كان صديقًا تعلقته، صفيا عندها. و كما ائتمنته على القليل و الكثير، إئتمنها هو على كتمات صدره، و ما كان يدور في حياته.
ومن مسرح إلى مسرح، كان يندار معها، تفرضه على المنتجين، و تلح على المخرجين، و لا تقبل عرضًا، إلا إذا كان محمود رضا معها، يمثل و يبدع، فأفنى عمرًا على خشبات المحروسة، و كان ذاكرًا للجميل، وفيًا للست روز.
و توّعك في علة عرضت له، فحَنَت عليه الست روز، وكانت عونًا و مددا. و كأنه أدرك إنه لن يبرأ مما ألم به، أوصاها بابنته سعاد، التي كانت كل ما خرج به من دنياه.
واشتّدت به العلّة، فأسلم الروح ذات عشية، و ترك لها وصيته وابنته سعاد.
تمسكت الرعدة بالبنت، التي كانت لم تزل في الإعدادية، لما رأت الست روز التي كان والدها يحكيها عنها.
مسحت الست روز عن وجه البنت، خجلها و إضطرابها، ضمتها الى صدرها و الى بيتها، فتربت سعاد مع إبنتها آمال من زوجها المخرج زكي طليمات، و إبنها البكر إحسان، الذي كان للبنت مثل الشقيق الكبير.
و أحبتها الست روز، أحبت فيها ذكاءها اللماح، و قدرتها الفائقة على الإستيعاب و الحفظ، و على دماثة أخلاقها.
و كانت الست روز خصصت لها موظفا، يصطحبها الى المدرسة كل صباح، و ينتظرها ، ليعيدها في نهاية النهار الى البيت.
و كما قست الست روز على ولديها، عندما يأتيان بما لا توافق عليه، إن في تصرفاتهما أم في نتائج دروسهما، كانت تقسو على سعاد.
يتذكر إحسان عبد القدوس، البنت التي دخلت حياة العائلة الصغيرة، فيكتب في مذكراته:
«أنا كنت تقريبا أخاها الكبير، جاءتنا تلميذة صغيرة، و لسه في المدرسة، و والدتي، الله يرحمها، حبتها زي بنتها، و تولت تربيتها و أمورها. .«كانت قاسية عليها جدا لكي تنجح في الشغل و في المدرسة »
و تفوقت سعاد رضا في دراستها الثانوية، و مالت الى دراسة المحاسبة و الإدارة، و تجّلت فيهما، و ما نقصها، و لم تتعلمه من الأساتذة و الكتب، تعلمته من الست روز، الني إئتمنتها على مالها، و مال مجلتها، حتى وصلت بكدّها، و إجتهادها، و أمانتها، و صدق تعاملها، الى منصب العضو المنتدب لمؤسسة روز اليوسف.
ويمنح إحسان عبد القدوس في مذكراته أيضا، شهادة لسعاد رضا:
"إن استمرار سعاد، و سعة عقلها، واستيعابها لمختلف الأجواء التي أحاطت بها، هو سر نجاحها، و وصولها الى منصب العضو المنتدب، وهي حققت ما فشلت فيه أختي، إبنة روز اليوسف، سعاد رضا عوّضته".
و تولت سعاد رضا هذا المنصب في نهاية السبعينات، و ظلت محتفظة به عن إستحقاق و جدارة، حتى سنة ٢٠٠٦، سنةً تقاعدها، و تركها "روز اليوسف".
في خواتيم ستينيات و بداية سبعينات القرن الماضي، كانت سعاد رضا المسؤولة عن قسم الإدارة و المحاسبة، ضمن باقة من الفتيات اللائي عملن في « روز اليوسف » و« صباح الخير»، منهن كوثر الشربيني والدة الزميل محمود سعد، و ليلى عبد المجيد زوجة الزميل صبري موسى الأولى ، و أم بكره محمد … و قد أسهو عن أسماء أخريات، و إن كانت وجوههن محفورة في الذاكرة التعبى من صروف الأيام، إلا أن إحتكاكي المباشر بسعاد رضا كان في لندن، عندما جاءت للكشف و مراجعة الحسابات المالية لمكتب « روز اليوسف»، الذي أسسّته وقمت بادارته في العاصمة البريطانية.
و لم يستغرق عملها طويلا، فقد وجدت جداء الحسابات متطابقا، والسجلات صحيحة الأرقام، فنال المكتب رضاها و إعتمادها. و توقعت
بعدما أتمّت المهمة التي جاءت للقيام بها، أن تسبقها شهوة التبضّع و الفرجة على محلات« ريجنت ستريت » الفاخرة، حيث مبنى المكتب، و القريب من شارع « أوكسفورد » ، الذي يؤمّه المصريون و العرب للتبضع و شراء الأزياء الفرنسية المعروفة الموقعة من بيوتات الموضة العالمية.
فوجدت سعاد رضا، تسعى في « وِست إند »، و في « شفستبري أفينيو »، شارع المسارح في لندن، تحجز لحضور العروض المسرحية.
ثم تدور على صالات السينما في « ليستر سكوير »، تنتقي الأفلام التي يروق لها مشاهدتها، و قد لا يسمح بعرضها في مصر.
و إذا كانت سعاد رضا قد تعلمت من الست روز إدارة الصحف، فإنها أخذت عنها الطيبة و المحبة، فما دخل قلبها الحقد، و لا تسللت الكراهية الى تصرفاتها، و كانت الى ذلك كله، مصدر الأمان و الطمأنينة لكل العاملين معها، إحتضنتهم، رعتهم، حملت همومهم، دخلت
بيوتهم، عاشت مشاكل أُسَرِهم، خففت عنهم، واست كثيرين، و منحت الأمل لكثيرين.
و أُقرن ما عرفته عنها و عايشته، و عاينته، بما ذكره الزميل إبراهيم عيسى، و هذا هو ما قاله:
الزملاء بيقولوا أن الأستاذ عادل حمودة بيعاملني باعتباري هاني شاكر، و هو عبد الحليم حافظ – و المعروف أن السيدة سعاد رضا وقعت قرار تعيين الكاتب الصحافي عادل حمودة كرئيس تحرير لروز اليوسف - فرّبَتت علي إبراهيم، و ردّت بعبارة لم ينسها حتي اليوم قائلة: "أنت عبد الحليم مش هو".
ما إلتقت شفاه، إلا و كان الحديث عنها حديث اللطائف و المحبة، مرّ على مكتبها كبار الصحافيين و الفنانين، و تركت في قلوبهم لها، كل التقدير و الإحترام، و أحلى الذكريات، لتفانيها، و صدقها، و صراحتها، و حرصها.
لقد عرفت سعاد رضا أن تتسلل الى قلوب العاملين معها، بحدبها، و حنانها، و تفهمها لمعاناتهم الحياتية و المهنية.
سنة ٢٠١٢، رحلت عنا سعاد رضا على أثر نوبة قلبية، كانت في السادسة والسبعين من عمرها.
ندى الله ثراها بمدى الرحمة… لها حبّة القلب.
سعاد و نرمين
الدنيا « عاشورا » و السنة ١٩٤٢.
فتحت نيرمين القويسني الباب على شاب بهيّ الطلة وسيمًا، و الى جانبه، أحمد جعفر، صديق العائلة، الذي جاءهم بطبق عاشوراء من صنع يدي أمه.
مدّت بصرها، تملأ عينيها بالشاب الوسيم، رفرف قلبها.
« إحسان عبد القدوس … ».
وصلها صوته كأنه الهمس المحبب. مد يده، دفنت نيرمين كفها الطري الناعم في حضن يد الشاب.
« نيرمين … ».
ردّت بنت الثامنة عشر سنة.
أنَسَت الى حديثه الحلو، و عباراته المُنمقة، يختارها بتأن ، و تنم عن ثقافة واسعة، فهو كان في السنة قبل الأخيرة من دراسته للحقوق، و إبن أهم و أبرز إمرأة في مصر، في ذياك الزمن، و في بيتها إلتقى الصفوة من الأدباء، و المفكرين، و الشعراء و… السياسيين.
ألقى بجسده فوق مقعد مريح، نزّه بصره على حيطان الغرفة، تعلقت عيناه على صورة فتاة على جمال أخاذ، داخل إطار مذهب، مُسّمر على الحائط.
إهتاج في ذهنه سؤال، فسأل، و مشروع إبتسامة ولهانة ترتسم على شفتيه، عن الجميلة في الصورة.
« إنها خالتي لولا… ».
صهلل صوت نيرمين… و أكملت:
« لواحظ عبد المجيد المهيلي ».
وقف قبالة الصورة، تجمّد، إستحسن جموده. كان يسمع و يقرأ عن « الحب من أول نظرة »، و لكنه لم يمسس قلبه إلا لحظتها، فعرف معنى أن يُحب الإنسان من أول نظرة.
بعد تخرجه في ٥ نوفمبر سنة ١٩٤٣، وضع إحسان خاتم الزواج في خنصر لولا، فدخلت حياته و بيته و وهبته عمرها و أولاده.
لم يخف أمام زوجته، إعجابه بابنة أختها نيرمين، لذكائها اللمّاح، و دقّة ملاحظتها، و طول أناتها، و دماثة خلقها، و إتزانها، و طلب منها مفاتحتها و إقناعها بالانضمام الى « سكريتاريا » مكتبه بعد أن تُنهي دراستها، فتُعاون مديحة عزت في أعمال السكرتارية، لمتابعة شؤون المكتب، و تراكم الملفات فيه، خصوصا بعدما أسندت له أمه، الست روز، رئاسة تحرير « روز اليوسف »، إضافة الى هموم و مشاكل الإدارة و المال، فبات في أمس الحاجة، الى من يسهر على تنظيم مواعيده و اجتماعاته، و يرتب ملفات القضايا و المشاكل الإدارية والمالية، والأهم ، أن يبعده عن الروتين الإداري، الذي قد يُعكّر عليه صفو الكتابة، و متابعة شؤون التحرير.
طارت نيرمين بزهوها، ستصبح سكرتيرة « الأستاذ »، المولعة بقصصه و رواياته، و كان ينشر بعضها في « روز اليوسف »، و تمنّت أن يأتي اليوم الذي تلتقيه فيه.
لم يُدِر في خلدَها لحظة واحدة، إنها ستصبح المؤتمنة على أسرار و كتمات صدر « الأستاذ »، و حافظة خزانة تاريخه الصحافي على مدى أربعين سنة و حتى اللحظات الاخيرة، و هو يعاني سكرات الموت، سنة ١٩٩٠.
كان يقول عن نيرمين إنها « نصف عقلي ».
و لا يترك الكلام عنها عند هذا الحد:
« هي مديرة مكتبي، المؤتمنة على كل لحظات حياتي، على مدى أربعين عاما ».
و هي ترد:
« هو أبي الروحي، و أستاذي، و زوج خالتي، منه تعلمت الكثير، و أدين له بالكثير ».
و عندما يلّحون على نيرمين، في المقابلات على الورق أو على الشاشة الصغيرة، تحكي نتفًا من أسرار « الأستاذ »:
« كانت أم كلثوم صديقة مقرّبة لإحسان عبد القدوس، و إنها تقوم بزيارته كل يوم خاصة أن منزلها لم يكن بعيداً عنه ، و أن احسان لم يكتب خصيصاً لأي فنان سوي لصديقه عبد الحليم حافظ و الرئيس جمال عبد الناصر، و أن نجيب محفوظ تعلم منه كتابة السيناريو ».
و تكشف نيرمين عن « الأستاذ »:
« لعب دوراً كبيراً في تهريب اثنين ممن إغتالوا أمين عثمان و هم السادات و شخص آخر " لم تتذكر اسمه " كان يحتاج السفر الي سوريا ... فقام بتهريبه ».
دار حديث كثير عن علاقة إحسان عبد القدوس بجمال عبد الناصر، و جدلوا الكلام طويلا عن صداقة قديمة، جمعته بأنور السادات. إلا أن ما لا يعرفه كثيرون، هو أسباب الفتور بين « الأستاذ » و جمال عبد الناصر، و الفراق مع أنور السادات:
تغيرت العلاقة بين إحسان و عبد الناصر، ثم السادات، بعد سجن العديد من صحافيي روز اليوسف و منهم الرسام جمال كامل و كان صديقه المقرّب و يعتمد عليه إعتماداً كلياً ، و هذا ما دعاه أن يكتب خطاباً إلي عبد الناصر يطلب منه العفو عن جمال ، و السادات حضر عُرس إبنه أحمد عبد القدوس ، و لكن كان على خلاف معه لانضمامه للإخوان المسلمين ».
ما شعر إحسان عبد القدوس بالمرارة، بعد الثورة، مثلما شعر عندما داهم العسكر بيته و إقتادوه الى السجن، فلقد كان بين قلّة من الذين دافعوا عما حدث في ٢٣ يوليو ١٩٥٢، و كتبوا بإيمان . تحكي نيرمين بأسى:
" بعد تجربة السجن القاسية و هو المدافع عن الثورة و حاميها إعلامياً، إهتزت علاقته بعبد الناصر، و تحولت العلاقة من صداقة الى علاقة برئيس جمهورية ، و بدلاً من كان يناديه " چيمي " أصبح يناديه " يا ريس ".
كانت متعة و شغف ، إحسان عبد القدوس الروائي، هي الإستماع إلي حكايات الناس، يستمع للرجل و يُنصت للمأوى و يبحث في طيّات أحاديثهم عن نسيج لقصة درامية أو رومانسية يصنع منها رواية ذات مغزي و دلالة ليعبر عما يكتبه عن نبض المجتمع و ينقل منه و اليه صورة حيّة ، فقصة " عاشت بين أصابعه " هي قصة الفنانة نجاة الصغيرة مع الشاعر كامل الشناوي.
القصة المعروفة في الوسط الصحافي و الثقافي كتبها إحسان ، و أضاف اليها الكثير من مُخيلته.
أما رواية " من أطلق هذه الرصاصة " فهي مستوحاة من قصة وقعت لنيرمين القويسني و زوجها الزميل جمال حمدي عند عودتهما من رحلة الي الفلبين فعند وصولهم لمطار القاهرة و استقلوا سيارة للعودة الي منزلهم، سقط شخص مغشياً عليه أمام سيارتهما غارقاً في دمائه فالتف الناس حولهما، و أخرجوهم خارجها ، و تم القبض علي الزوج جمال حمدي و إقتياده للمخفر و حُجز هناك حتي خرج تقرير الطب الشرعي بعد تشريح الجثة و اكُتشْف أنه مات أثر طلقة اخترقت رأسه ، و أفُرج عن جمال، و خرج من القضية بريئاً، فكانت الرواية التي كتبها إحسان هي قصة معاناة نيرمين و جمال .
في مقدمة قصة " زوج خديجة "، كتب إحسان يشكر الكاتبة السيدة أمينة السعيد رئيس تحرير مجلة " حواء " فهي أوحت له بهذه القصة عن حكايات طلبة الجامعة .
تعلمت نيرمين الكثير من الأستاذ و نصائحه في حياتها و عملها معه و منها أن القلم هو الذي يُشعل الثورات و يوقظ الشعوب ، و القلم هو الذي يرسم الطريق للغد، و ينيره ، و يُحي ضمير الإنسان لمستقبل أفضل، فأحبّت الكتابة، و لم تكتب إلا عندما إنتقلت مع الأستاذ الي جريدة الأهرام، و بعدوفاته أصبحت علماً من أعلام مجلة " نصف الدنيا "، و من كتاباتها سلسلة مقالات تطلب أنصاف إحسان عبد القدوس بعد وفاته من شدّة ما تعرض له من هجوم في حياته، و إتهامه بكتابة الأدب المكشوف. فدعت الكتّاب و الدارسين الى إعادة إكتشافه و تدريس أسلوبه في المقال و القصة و الرواية و ككاتب سياسي بشكل موسع .
تركتنا نرمين القويسني عن 85 عاماً لعالم آخر في فبراير " شباط " 2019.
مديحة عزت في شبابها و شيخوختها
رأتها الست روز تختال بتنورة تلف خصرها الضامر، و تنزل على الجسد النحيل حتى الركبتين، و قميص حرير، يتجانس لونه مع لون التنورة، و تطّوق عُنَقها بشال تعقده الى الخلف، تدور في وجهها الدقيق الملامح، عينان ساحرتين، تلمعان ببريق حيوي، يفيض السحر على ضفاف أجفانهما، تعبثان بهما في المكان، ثم تنزههما على الوجوه.
و راقبتها الست روز و هي تقف مع إبنها إحسان، و قد نشب بينهما نقاش حول إحدى رواياته، و سمعت تموجات صوت تلك الفتاة الجذابة، و نبرتها الجريئة، و هي تدافع عن وجهة نظرها، و ترسم أشكالًا في فراغ المكان بيدها و هي تتكلم.
نازعت الست روز فكرة أن تطلب من تلك الفتاة أن تكون سكرتيرة لإبنها إحسان، الذي سيعقد في مكتبه سلسلة من الاجتماعات السرية، مع « أصدقاء »، على قدر من الأهمية، و يجب أن يحاطوا بالتكتم ، و لا تريد أن يكشف نجيب، سكرتير « الأستاذ »، هوياتهم، او حتى يتعرّف عليهم.
دَنَت الست روز ببطء من الفتاة، سألتها عن إسمها:
« مديحة عزت ».
أجابتها، و قد ندت عنها ضحكة مقتضبة حملّتها كل إضطرابها.
و عادت الست روز تسألها عما إذا كانت، بعد إنتهاء اليوم الدراسي في المدرسة الثانوية، تتولى مهام السكرتيرة الخاصة للأستاذ رئيس التحرير، و إذا قبلت إستأذنت والدها، الذي كان على صداقة مع الست، و من المعجبين القدامى بفنها.
إتسعت عينا مديحة دهشة، فهي لم تكن تتوقع ما سمعت من الست روز، ثم، إنفلش الفرح على وجهها البهي، و هزت رأسها علامة القبول، من دون أن تنطق بكلمة.
و طلبت الست روز الإذن من والد مديحة. وافق. فأصبحت بعد إنتهاء الحصص في المدرسة، تنتظر إبراهيم، سائق الست، في بيتها في « الدقي »، لينقلها الى المجلة، و بعد إنتهاء لقاء « الأصدقاء » في مكتب « الأستاذ »، يعيدها إبراهيم الى بيتها.
« أصدقاء » الأستاذ، الذين يصرفون الساعات الطويلة في الحديث، و النقاش، و الجدل، و التداول، تعددّهم مديحة على أصابعها:
جمال عبد الناصر و مصطفى لطفى - رئيس إدارة الأسلحة و الذخيرة الذي أمّد جمال بمستندات الأسلحة الفاسدة – و ثروت عكاشة و أحمد أبو الفتح ، و كان الجميع يحضر بالملابس المدنية ثم شخص آخر لاتعرف إسمه يحضر بعدهم، تحكى عنه السيدة مديحة :
كان فى منتهى «الألاطة» و الشياكة رغم ملابسه البسيطة يا دوب بنطلون بنى و قميص بيج و حزام جلد يجمع بين اللونين البنى و البيج و فى قدميه «شبشب» رومانى كما كانوا يطلقون عليه، لونه بنى، و يدخل بلا استئذان و لا حتى سلام، فقط يرفع يده بالتحية و لا ينطق. و كان اسمه فى الكشف الذي أعطاه لها الأستاذ إحسان و الذي طلب ألا يدخل عليه غيرهم.. كان إسمه الأسطى محمد. و يوم و التانى و جاء يدخل فمنعته.. سأل و قال: خبر ايه يا آنسة؟ قلت له: نفسى أعرف إنت مش شايفنى.. مش عجباك.. مش تستأذن السكرتيرة إللى هى أنا. ضحك رحمة الله ضحكته الرائعة قائلا: أولا إنتى تعجبى الباشا، ثانيا أنا عارف إنك عارفة أنا مين، ثالثا ممكن أدخل بقى؟
و دخل… سمعت الست الجدال، ترقرقت ضحكة على شفتيها، و قالت:
« بكرة حتضحكي لما تعرفي ده مين؟ ».
كان الرجل « الأليط »، أنور السادات.
كانت مديحة عزت ، صفية الست روز، و موضع ثقتها، و كاتمة أسرارها، و لها وحدها تحكي الست كتمات صدرها. و هي كانت المرسال الذي يحمل رسائل الست الى جمال عبد الناصر، الذي كان يكنّ لمديحة كل الود.
و لم تبق طويلا في مكتب « الأستاذ »، فعندما دخلته نيرمين القويسني، خرجت منه مديحة الى قسم التحرير.
شقّت في صفحات « روز اليوسف »، مشي القلم، فلم ينحدر قلمها شيئا من المنازل العالية في الذوق، و الطلاوة، و النضارة، دقيقة المعاني، لها صحة اللغة و عافيتها، الى رهافة حس، و توّقد ذهن.
إمتازت بالتعليقات القصيرة، التي كان لها طنطنة و دوي، فاستحقت لقب « شهرزاد الصحافة »، الذي أطلقه عليها إحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي.
تجمعت على تحقيقاتها و تعليقاتها، عيون آلاف القراء، الذين أخذوا بأسلوبها، و بوسع أفقها، و بقدرتها على إستيعاب الأمور، بكل دقائقها، و إستشراف كل جديد.
و كانت مديحة أول من كتب في الصحافة العربية، عن فرقة « البيتلز » Beatles البريطانية لموسيقى الروك، بعدما كانت حضرت أمسية لتلك الفرقة في « أثينا ». و كتبت ، وقتذاك، تتنبأ ان الخنافس الأربعة: جون لينون، بول مكارتني، جورج هاريسون، و رينجو ستار، سيشكلون ظاهرة ستبقى على الزمان. و هكذا كان.
و ظاهرة « الهوس بفرقة البيتلز »Beatlemania تفشّت و إنتشرت في جميع أنحاء العالم. و حسب « كتاب غينيس للأرقام القياسية » ، فان مبيعات الخنافس الأربعة وصلت الى مليار و٦٠٠ مليون دولار.
و تمضي مديحة، و القلم بيدها مرهوب الصرير، فتحقق سبقا صحافيا، عندما كشفت أمر « جمعية شهود يهوا » السرية التي كانت تعمل في المحروسة لصالح الدولة العبرية.
و لها فُتحت أبواب مكاتب رجال ثورة ١٩٥٢، فأدارت معهم أحاديثا و حوارات ، أثارت ما أثارت من جدل.
و ما أجادت مديحة في كل ما كتبت، إجادتها في « تحياتي الى زوجك العزيز »، التي تناولت فيها مشكلة المرأة المصرية، مُسلِطة الأضواء الكاشفة على الشخصية المصرية، بكل ما فيها من طيبة، و خفة دم، و « فهلوة »، و عشق للأمان و الإستقرار.
و في نباهة عزّ نظيرها، إبتكرت زاوية « أريد عريسا »، فكانت سبّاقة في محاربة مشكلة العنوسة، من جهة، و فكرة التواصل الاجتماعي، من جهة أخرى.
و كان الفضل لمديحة، و لزاويتها، في بناء الأسرة من خلال تواصل الناس بعضها البعض، و إتمام زيجات ما كانت لتحصل و تتم.
« لهلوبة »، وصفتها، و لم يبالغوا، فهي إن أرادت شيئًا كان، و لن يقف أي عائق أمام حصولها على مبتغاها، بخفة دمها، و ظرفها، و حديثها الحلو. إتصلت يوما برقم الهاتف 29414 منتحلة شخصية معجبة بالشاعر كامل الشناوي تحت إسم " ميرفت" معلنة إنها تحبه و تطلب رؤيته ، و بعد إلحاح و وصلة غزل في الشاعر الكبير، أخبرها بإنه بالبيت حتي الثالثة عصراً و بعدها بمكتبه بجريدة الجمهورية ، لكن يمكن أن يراها بعد التاسعة مساءً ، و إتفقا أن يلتقيا في مقهي " جروبي " بمصر الجديدة، و في الموعد المحدد فوجئ كامل الشناوي بمكالمة من المعجبة تعترف له بإنها زميلته الصحافية مديحة عزت، واثقة بأنه سيصفح عنها فهو يحب شقاوتها الصحافية.
مديحة عزت و كامل الشناوى
منحها أنور السادات وسام النيل، في أول عيد للإعلاميين، و عاد حسني مبارك و كرّمها مرة ثانية بمنحها وسام النيل أيضا، و منحتها نقابة الصحافيين جائزة « الرواد ».
٦٥ سنةً عمر مديحة عزت مع الحبر و القلم و الورق، و الجري وراء الخبر، و هي لعمري، أقدم الصحافيات المصريات في مهنة المتاعب.
« سِتّ الدار » و الدار دار « روز اليوسف ».
سنة ٢٠١٨ رحلت عن هذه الفانية، كانت في الثامنة و الثمانين.