عاجل
الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
نساء "روز اليوسف" 

نساء "روز اليوسف" 

لم يختلف الحكاؤون والرواة على شيء، مثلما اختلفوا على الست روز اليوسف ومجلتها. فسال حبر كثير عنهما، وكُتب ما كُتب: لامها بعضهم لمعاركها السياسية، وتصّديها لرجالات السياسة في زمانها، وأنصفها بعضهم، وأثنوا عليها، لأنها احتضنت وأطلقت من صاروا، فيما بعد، من مداميك الصحافة المصرية.



والأهم في ذلك كله، أنها احتضنت، وشجعت، وأطلقت المواهب النسائية، وفتحت صفحات مجلتها لغير شابة، حملت القلم، وكتبت بحرية وجرأة، فبرز العديد منهن، إن في الكتابة أم الإدارة.

 

فمن هن نساء "روز اليوسف " ؟

الست روز 2-2 

 

فضّل يوسف وهبي الممثلة المغمورة أمينة رزق عليها فأصدرت المجلة للنيل منه ناصرت «الوفد» ثم عارضته ولم يغفر لها الحزب إسقاط نسيم باشا خاطبت عبدالناصر: إياك والحرية  فردّ عليها: أنا مع الحرية شرط أن لا تباع وتشترى. 

 

لما ذهب سمع الست روز في الناس، و ترامت السيرة في كل الآذان و بعض القلوب، إزداد من حولها و حواليها المعجبون بفنها، و هم من القامات في البلد، فنهجت نهج كبيرات الممثلات في باريس، فكان لها صالونها الأسبوعي في شقتها في بناية رقم ١٠ كان يملكها أحمد شوقي، أمير الشعراء في هاتيك الأيام، في شارع جلال المتفرع من شارع عماد الدين. كان يرتاد صالون الست قامات كبيرة مثل عبّاس محمود العقاد، محمد لطفي جمعة، محمود عزي، إبراهيم عبد القادر المازنى، إبراهيم رمزي، محمد صلاح الدين، الذي أصبح فيما بعد وزيرا للخارجية، كما كان يتردد على اللقاء الأسبوعي محمد التابعي، و كان في ذياك الوقت ناقدا للمسرح في « الأهرام »، و نِدّه في النقد في« كوكب الشرق » عبدالمجيد حلمي، و تكتمل شلّة النقاد اللواذع بمحمد جاد الناقد في « البلاغ ».

 

لو أن صاعقة سقطت على الردهة الصغيرة، لما ارتجفوا رجفتهم لكلام الست روز: « أفكر في إصدار مجلة »… وسكتت، دارت بعينيها على العيون المبحلقة في وجهها باندهاش و إستغراب. جحظت عينا عباس محمود العقاد، تلعثم  إبراهيم عبدالقادر المازني ، عدّل محمد جاد من جلسته على المقعد، بلع محمد التابعي  ريقا تجمد في حلقه، غرس أنامله في شعره، و هي كانت خصلة عنده لحظات الحرج.

 

وأعادت الست روز كلامها، ران صمت بليد على الجالسين حولها،  فأدركت بذكائها الحاد سبب ذهولهم، من ذلك الخاطر الذي كان مثل البرق بَرَق في رأسها:  فلم يحدث أن تركت ممثلة التمثيل، لتحمل القلم، و تنغمس في مهنة الصحافة التي عمل فيها سعد زغلول، مصطفى كامل، محمد عبده، بشارة تقلا، يعقوب صروف، إسكندر مكاريوس، فارس نمر… و غيرهم من القامات، ثم كيف يمكن أن يتقبل الناس أن تدخل امرأة في مجال هو حِكر على الرجال. أخذ الدهش ينجاب، و بدأوا يستسيغون الفكرة. « لما لا … ». قال محمود عزي و لم يكمل. طَلَع صوت العقاد رخيما: « مستعد للكتابة في المجلة من دون أي مقابل ». حكّ محمد لطفي جمعة رأسه كأنه يخلط الكلام فيه : « و… أنا حاضر يا ست ». وما أن هدأ الجالسون، حتى عاد الذهول يطفو على وجوههم: « سيكون إسم المجلة روز اليوسف ». إنعقد لسان بعضهم، و بعضهم الآخر إمتعض، كان المازني أول الرافضين أن تسمي المجلة على اسمها. و دار نقاش، و جدلوا  الكلام و أطالوه، فقطعت الست روز حبل الكلام، بإصرارها على الإسم، و فهموا أن خلف إصرارها مرارة مما فعله يوسف وهبي، و تنّكره لموهبتها و تفانيها، و لكل ما أعطته لفرقته و مسرحه. 

 

 

               Description: C:\Users\acc\Desktop\23142.jpg       Description: C:\Users\acc\Desktop\IMG_6586.JPG

روز اليوسف ويوسف وهبي في مشهد مسرحي

 

و لم يكن غريبًا ، كما قالت الست، تصرف يوسف وهبي معها، فهو  تنّكر أيضا لأستاذه عزيز عيد، و لأفضاله الكثيرة عليه، فكان يترك المسرح بسيارته الفارهة الفاخرة، و يترك أستاذه ينتظر خروج المتفرجين و الممثلين، ليجد له مكانًا في الكواليس، يرتاح فيه و ينام، لأنه لم يكن يملك مَسكِنا، و ما كان يتقاضاه من يوسف وهبي بالكاد يأتيه بالكفاف!  و مرارة الست روز من غدر يوسف وهبي و عقوقه، كان أيضا بسبب رفضه أن تؤدي الدور الرئيسي في تراجيديا « الذبائح » التي كتبها اللبناني أنطون يزبك، مفَضِّلا عليها أمينة رزق، و كانت وقتها ممثلة ناشئة  و مغمورة، فشعرت الست روز أن يوسف وهبي يريد أن ينساها الناس، وهي بعد في ذروة تألقها، و هي تريد أن يبقى إسمها على كل شفّة ولسان، في الشوارع، و الحواري، فينادي باعة الصحف الجوالين باسمها، و هم يلوحون بالمجلة، و كأنهم بذلك يقولون ليوسف وهبي: روز اليوسف أقوى من النسيان. و لذلك رغبت في إصدار مجلة فنية، للنيل منه، و من فرقته و مسرحه. و تلاشت علامات الإستفهام من عيونهم، و لم يرفض أحد من الجالسين ما قالته الست. و كان ما كان، و متى أرادت الست روز شيئا… كان. و بدأ التحضير للعدد الأول، في الشقة الصغيرة، التي تصلها بالصعود ٩٥ درجة.

 

كان محمود عزي، رئيسا للتحرير، و هو كان يدور بين فكيه لسان يرطن الفرنسية، وسبق له أن ترجم عن تلك اللغة غير مسرحية، حققت نجاحا على خشبات المحروسة. و هو الى ذلك من المتحمسين للست روز. و عزي هو الذي إقترح أن تُعنى المجلة بالثقافة، و أن يكون فيها صفحة يتيمة عن المسرح، تفشّ الست روز غليلها فيها من فرقة و مسرح رمسيس. و أعجبت الست روز بالفكرة، و إرتأت أن يتولى محمد التابعي كتابة صفحة المسرح، فهو ليس غريبًا عن النقد المسرحي، فهو يكتب فيه في « الأهرام » زمن رئاسة تحرير داوود بركات لها، و يوقع المقالات بالإسم المستعار « حندس » مستترا به،  فهو كان ،وقتذاك، مترجما في مجلس النواب. و قَبِل التابعي صاغرا، و سَنّ القلم، و أذاق يوسف وهبي العلقم. كان رأس مال المجلة خمسة جنيهات، كل ما وفرته و إقتادته الست روز من وقوفها الطويل على خشبة المسرح. و صدر العدد الأول ، زُيّن غلافه بلوحة فنية للإيطالي تيسيان، تمثل الربيع، و تحت إسم المجلة، كُتب إنها    « مجلة  أسبوعية أدبية مُصَوّرة »، و تنويهًا بأن ثمن الإشتراك ٦٠ قرشًا في السنة، و ثمن النسخة عشرة مليمات. أما المراسلات فتكون بإسم روز اليوسف، صاحبة و مديرة المجلة، على العنوان: نمرة ١٠ شارع جلال -  مصر.    

    

Description: https://www.vetogate.com/UserFiles/Galleries/2017/10/26/2927219/983.jpg  Description: C:\Users\acc\Downloads\IMG_6580.JPG   Description: روز اليوسف

العدد الأول من مجلة روز اليوسف                       روز اليوسف مع محمد التابعي و عبد المجيد حلمي 1927

 

 

وطُبِعت المجلة على ورق « ساتينيه »، عدد صفحاتها وصل الى ١٦ صفحة، ( بعد سنوات ثلاث صار عدد الصفحات ٢٨ صفحة، و سنة ١٩٣١ أصبحت ٦٠ صفحة). حوّل محمود عزي المجلة الى دوحة للشعر، قصائد أحمد رامي المقّفاة ناطحت أزجالا  نظمها علي شوقي، إبن أحمد شوقي، مع الممثل عبد الوارث عسر، تحت إسم « زعيزع »، و صفحة المسرح اليتيمة فيها من التابعي من اللواذع ما يكفي، و إزدحمت الأقلام على الكتابة، و تعددت مقامات القول في مقالات صافية مخدومة للمازني، العقاد، طليمات، رمزي و جمعة… و نادى المنادي على « روز اليوسف »، و شكت بين المجلات في أكشاك الباعة و محطات القطارات، و ما أحدا إهتم، و لم يُبَع منها سوى مئات قليلة من النسخ. وقفت الست روز في وسط الردهة، محوطة برواد صالونها و الأصحاب، الذين نصحوها بجمع الأوراق و تحديد خسارتها و الإحتجاب عن الصدور.

 

سمعت، إستكرهت قولهم، لم تصبح نهبًا لليأس و الإحباط، لملمت أشلاء خسارتها، و قررت بنبرة فيها نفحة التحدي المُضي في مشروعها، فليس من بلغ شأوها، أن يُستباح وقارها، و ثقتها بنفسها. و شمرت عن ساعديها، وإندارت على المعجبين بها في مصالح و إدارات و وزارات الدولة، تبيع الإشتراكات بنفسها، و الإشتراك بخمسين قرشًا، و جمعت ميزانية، سمحت لها بإصدار ستة أعداد، إلا أن التوزيع إستمر بالهبوط.

 

و فكّرت بمحمد التابعي رئيسا للتحرير، وافق بعد جهد منها، فأضاء مستقبل مجلتها. و معه مشت « روز اليوسف » المجلة والست على درب الشوك و المتاعب.

 

«العصمة للقارئ وحده»، كان محمد التابعي يُردد.  و القارئ طلّق «روز اليوسف» بالثلاثة، لأنه لا يريد أن يقرأ « الإبسنيون» (نسبةً الى الكاتب المسرحي النرويجي هنريك جوهان إبسن )، و العقّاديون، و اللُطفيون، والجامعيون، و المازنيون، و الرمزيون ( نسبةً الى عباس محمود العقاد ، و لطفي جمعة، و إبراهيم عبدالقادر المازني و إبراهيم رمزي».

 

وبجرّة قلم إستغنى التابعي، بوصفه رئيسا للتحرير، عن أقلام هؤلاء، فغرس سن قلمه على الورق، و بين الغلافين، سَكَب حبره على مقالات و تحقيقات و تعليقات، ما عدا القصة، فكان جهدًا موصولًا، و عطاء متماديًا. و صدرت « روز اليوسف » بغلاف ملوّن، و حُدد سعر النسخة بخمسة مليمات بدلا من قرش صاغ.  و إندار الباعة ينادون على المجلة ، و تصدرت المجلات في أكشاك باعة الصحف، و لأول مرة منذ صدورها، إرتفع توزيع المجلة الى ٢٦٠٠ نسخة.

 

كان زكي طليمات، زوج الست روز، في ذياك الوقت، في بعثة في باريس لدراسة فن التمثيل والإخراج في مسرح La Comédie Française  ومسرح l’Odéon ، عندما وصله العدد فبعث اليها رسالة، سكب فيها جام غضبه، مهاجما تدهور و إنحطاط مستوى المجلة! فقد كان طليمات يريدها دوحة للكتاب و الشعراء و المفكرين، مجلة الصفوة و خيرة المثقفين، و الست روز فضّلت المجلة نابضة بالحياة مع محمد التابعي، على أن تموت ببطء تحت أقلام الكتاب و الشعراء و المفكرين. كان محمد التابعي يرى أن ما يطلبه القارىء، هو مجلة خفيفة الظل، طريفة و ظريفة في مواضيعها ، و تبويبها و توضيبها، تفيد و تُسّلي في آن… أما الأدب العالي المقام فله مجلاته، و”روز اليوسف” ليست واحدة من تلك المجلات. و بصمت الست روز على رأي التابعي بالعشر و مضت ، و رئيس تحرير مجلتها، يتحديان العقبات، ويواجهان بعناد و إصرار الأزمات، فضُرب المثل بأنفتهما و عزتهما. وأسبوع بعد أسبوع، كانت المجلة تنمو و تكبر، و يكثُر قرّاؤها، فاصابتها أشواك النجاح الطاغي، فتآمر عليها المنافسون، و المعادون، و المراؤون.

 

جاء الست روز من طَرَح عليها تطعيم مجلتها بصفحات سياسية، فانتعشت الفكرة في رأسها، و أخذت تسعى للحصول على ترخيص يُجيز لها الكتابة في السياسة، فإصطدمت بعقبات كأداء، و عوائق وضعها في دربها المناوئون، و لم ترتد، و لم تفتر عزيمتها، فألحت بطلب لقاء أحمد زيور باشا، رئيس الحكومة، فكان لها ما أرادت. وما أنهت اللقاء، إلا بعد أن حصلت على المراد، فأمر الباشا، و أوامر الباشا نافذة، فحصلت الست روز على الترخيص السياسي.

 

كانت الشكوى من مشقة الوصول الى الشقة، والصعود ٩٥ درجة، تؤرق الست روز، و حدث أن عرض أحمد شوقي عليها، نقل مكتب المجلة الى “بدروم” في البناية المواجهة، التي يملكها هو أيضا، مقابل جنيهين في الشهر. فلم تتردد الست روز و قَبِلت العرض، و دفعت إيجار الشهر الأول، و بدل الصعود ٩٥ درجة، أصبح العاملون و الزوار، يهبطون درجات عشر الى الحجرتين اليتيمتين. و قامت الست روز، بما أوتيت من حس و ذوق، الى ستر عري النوافذ بستائر، فصّلتها و خاطتها بنفسها، و نقلت بعض المقاعد، و أريكة من شقتها. و راحت، بعد ذلك، تبحث عن طاولات للكتابة، تكون رخيصة الثمن، فما كان من إبراهيم خليل، حامل مفاتيح الخزنة، إلا أن إقترح عليها شراء طاولتي مكتب، تريد جريدة “البلاغ” بيعهما بمبلغ مقطوع قدره ١٢٠ قرشًا، فاشترتهما، و نقلت مائدة تصلح طاولة مكتب، فأصبح أثاث المجلة ثلاث طاولات مكتب، واحدة للست، و الثانية للتابعي، و الثالثة للخليل «دفتر دار» و« تحصلدار » المجلة. بادئ ذي بدء، عارض التابعي الترخيص السياسي، فهو، على ما قال للست روز، لا يحب الكتابة في السياسة، فكان أن إستنجدت الست روز بالصحافي نجيب جاماتي ، فأصبح يحرر في «روز اليوسف» الصفحتين السياسيتين. و حدث أن أصيب جاماتي بتوعك منعه من الكتابة، فطلبت الست روز من أحد محرري جريدة « البلاغ »،  وكان صديقا لها، أن يسد فراغ جاماتي، فأرسل تقريرا سياسيا، كان أعده أصلًا لجريدة « السياسة » الواسعة الانتشار في العالم العربي، التي كان يكتب فيها أيضا. و نُشر التقرير في « روز اليوسف »، على صفحتين… و لم تمض أيام، حتى كانت جريدة « السياسة » تكشف المخبوء، و تفضح المستور، و تحت عنوان: فضيحة صحافية بالخط العريض و على صفحتها الاولى، إتهمت « روز اليوسف » بنقل المقال حرفيا من دون إذن. و أُسقِط في يد الست روز، و عادت الى التابعي، لإنقاذها من المأزق الذي وضعت فيه مجلتها.

 

وبعد تمنع وتردد، إنصاع التابعي لرغبة الست، فكتب، و سبح قلمه بعدها على الصفحات، ليصبح من أهم كتاب المقال السياسي في الصحافة المصرية، و بصرير قلمه، كان يرفع سياسي و يسقط آخر، يحول المهرج الى زعيم، و الزعيم الى بهلول. و من أسبوع الى آخر، أصبحت الحكومات ترتعد أوصالها  كلما صاح المنادون « روز اليوسف ». مالت الى « الوفد »، و كانت منه و فيه و له، إمتشق التابعي قلمه اللاذع، و راح يهشم خصوم بيت الأمة  وأقيلت حكومة « الوفد » و تولى محمد محمود باشا رئاسة الحكومة. عَرَف التابعي أن « روز اليوسف »، على الرغم من كل ما كتبت و تصدت، و على الرغم من كل المعارك التي خاضتها، لم تصل الى الصادرة التي كان يصبو هو اليها، فوجد ضالته في محمد محمود باشا، الذي عطّل الدستور و الحياة النيابية، فانهال يهمشها، وينعر بمستطيل الكلام اللاذع رئيسها، مدافعا عن الدستور  والبرلمان.

 

و كما توقع التابعي من حملته القاسية، لم يستطع محمد محمود باشا تمالك أعصابه، فأرسل، بوصفه وزيرًا للداخلية، و رئيسا للوزراء، إنذارا صديقا، متهما المجلة بفاحش القول و مُنكَر الأقاصيص و الإمعان في الكذب  و الإختلاق، سُنّة مزرية بشرف الصحافة و مفسدة  للأخلاق ». غير أن الست روز سخرت من الإنذار و صدر المقال الرئيسي من المجلة بعنوان " سمعنا و أطعنا..غفرانك ربنا .. و إليك المصير" و واصلت المجلة الهجوم، و تصدر غلاف العدد التالي رسم كاريكاتوري لمحمد محمود باشا و هو يضع قدمه علي الدستور في طريقه الى مقعد الوزارة ، و حاصر البوليس المطبعة و صودرت المجلة. و دوى الخبر مثل الصاعقة، و رجع صداه عرج على مراكز الأحزاب، و بيوت السياسيين، و تناولته الصحف، حتى المناوِئة لمجلة « روز اليوسف ». خطب مصطفى النحاس باشا، و تصدى محتجًا على مصادرة  المجلة، فرد عليه أنصار محمد محمود باشا، فوصفوا حزب النحاس بأنه « حزب روز اليوسف »، فما كان من النحاس باشا أن صاح بأعلى صوت: « نعم … نعم نحن حزب روز اليوسف ». و حقق التابعي ما أراد، فالمصادرة ضاعفت توزيع المجلة، و زاد انتشارها، و أصبحت في الصدارة، لا ينازعها منازع، و لا يقوى عليها متسلط. و صمدت الست روز، مع التابعي، للتهديد و الوعيد، والويل و الثبور وعظائم الأمور، و واجهت  التعطيل،  و المصادرة و الحصار المالي،  برأس مرفوع، وب عنفوان ، و كِبر، وعِزة نفس. تحكي الست روز في مذكراتها عن تلك المرحلة الحرجة والصعبة من حياة مجلتها: « أسرعت الي بيت الأمة بغير سابق موعد و لا إستعداد و هناك كان يجلس مصطفي النحاس و مكرم عبيد    وحولهما بقية أعداء الوفد الكبار. و إلتف الجميع حولي يتأملونني لأول مرة و الدهشة ملء عيونهم .. فهذه إذا السيدة التي تصدر مجلة سياسية، و التي تدافع عن الوفد و تهاجم خصومه و تتفوق فى ذلك علي غيرها من صحف الوفد دون أن تعرف واحداً من الوفديين! ، و لم أنتظر حتي تنتهى دهشتهم، فقلت لمصطفي النحاس .. يا باشا صادروا المجلة .. و أنا عاوزة الإفراج عنها. وقال لى النحاس : - أقعدي يابنتي .. إيه اللى حصل ؟  و رويت القصة كلها . وقدمت له نسخة كنت أحملها من العدد المُصادَر .  و قال مكرم عبيد في لهجة خطابية :  - لك الفخار يا سيدتي! .. و قد سارت هذه الكلمة بعد ذلك مثلا ! ، و لم يأمر النحاس طبعاً بالافراج عن العدد كما كنت اتوهم) ». و تماديا في تحديها عسف الحكومة، قررت مع التابعي إصدار المجلة بأسماء أخرى عن طريق إستئجار رخصة مجلة أخري ، إستأجرت مجلة " الرقيب " التي كان يملكها جورج طنوس ، فصدرت بعطر و ملامح روز اليوسف فأقبل عليها القراء، لكن بعد أربعة شهور فاحت رائحة العنف و الهجوم علي الوزارة فعُطِلت، و تكرر هذا مع ثلاث محاولات للصدور تحت أسماء أخري ، مجلة " صدي الحق " فصدر عددها الأول ، ثم جاء دور مجلة    " الشرق الأدني " لتستمر في الصدور لمدة ثلاث شهور فقط، ثم مجلة " مصر الحرة " التي لحقت بسابقاتها ، فصدرت مجلة روز اليوسف بأربعة أسماء مختلفة في أقل من عام. و لم تيأس الست روز، و لا وهن القلم في أصابع التابعي، فأصدرا « صدى الشرق » و شعارها " اللي إختشوا " و أسفل الشعار عبارة " هذه المجلة تصدر بدلا من روز اليوسف "، و بالطبع صادرتها وزارة الداخلية في نفس يوم صدورها، ثم أصدرت " الصرخة " بحجم جديد و أفكار جديدة و صدر منها 53 عداداً ، لتوقفها الست هذه المرة بنفسها . و تُعيد إصدار مجلة روز اليوسف لتصدر اسبوعاً ، و تُصادر أسبوعاً آخر ، و أصبحت تذهب الي النيابة أكثر من ذهابها الى المجلة.

 

خلف الصوت، وقف شاب في مقتبل العمر، طويل القامة جسيما، يميل قليلا الى البدانة، تدور في وجهه عينان صغيرتان، يبرق فيهما سحر عجيب، ترحلان الى الوجوه، تمسح المكان بحشرية المعرفة. كان ذلك الشاب يدخل الى مكاتب المجلة، مسرع الخطى، يدفع  بأوراق  فيها خلاصة ما جمع من أخبار، ثم يدير ظهره للجالسين الى المكاتب، و يخرج.. و لم يكن هذا الشاب البدين، وحده الذي طرق باب « روز اليوسف »، ليدخل الى دنيا الصحافة، فما ردّت الست روز باب مجلتها في وجه أي موهوب أو موهوبة، فلقد كانت متعتها إكتشاف المواهب، و إحتضانها، و الدفع بها الى الإمام.  مدرسة، كانت مجلتها، تلمع فيها الأقلام الشابة الواعدة، و الوجوه الجديدة. في مذكراتها، كتبت الست روز عن ذلك الشاب: " كان يراني في بعض الأحيان وهو خارج منكس رأسه و لا يجيبنى ..و لمحت فيه بوادر الإستعداد للنجاح فسألته وهو خارج في أحدي المرات: ما اسمك ؟ فقال : مصطفي أمين. عرفت السيدة روز اليوسف إنه تلميذ يهرب من مدرسته ليتصيد الأخبار و يحملها إلي المجلة .. و يملك سيارة صغيرة جداً عتيقة جداً يستعملها في الجري وراء الأخبار، و تستطرد في الحكي: مصطفي مخبر بالسليقة، له العين اللمّاحة و الأنف الحسّاسة و الأصرار علي الوصول، و هو من اللحظة الأولي يحلم بامتلاك دار صحفية كبيرة و يعمل لذلك، و كان مألوفًا منه أن يسافر بسيارته بعيداً لكي يحصل علي خبر و يعود في نفس اليوم، فسألته يوماً الي أين هو ذاهب، فقال: إلى الإسكندرية، لأن سيدة تنتظره في ميدان " المنشية " لتعطيه خبراً.  و كان أول باب ثابت حرّره مصطفي أمين في مجلة روز اليوسف باب عن الطلبة بعنوان " لا ياشيخ ".  عارض الأستاذ محمد التابعي معارضة شديدة في نشر هذا الباب، و لكن السيدة روز اليوسف أقنعته ، و يحكي  مصطفي أمين في لقاء تليفزيوني مع الإعلامي طارق حبيب أعيد بثه مؤخراً علي فضائية " ماسبيرو زمان " إنه بعد مرور شهر علي تعيينه، إذ بروز اليوسف تخبره أنه تم اختياره نائباً لرئيس تحرير المجلة علي الرغم أنه لم يكمل تعليمه، وكان عمره آنذاك 17 عاماً ، موضحاً أنه أصيب بالدهشة لوجود عدد من المحررين الكبار  و معهم شهادات عليا، و أنهوا دراستهم .  و بطبيعتها الشابة المتمردة، إستهوت المجلة النجوم الجُدد في ساحة الصحافة، و إلتقطت السيدة روز اليوسف شباب لامع بتفوقه طرقوا أبواب المجلة منهم جلال الحمامصي، وكان صديقاً و زميلاً في الجامعة لمصطفي أمين ، وظهر في آفق المجلة شابان صديقان هما كامل الشناوي و يوسف حلمي، و طالب الطب الذي يكتب المواويل د. سعيد عبده ، ثم كريم ثابت الذي أصبح مستشاراً صحفياً للملك فاروق فيما بعد ، و عينت الست علي و مصطفي أمين براتب 8 جنيهات و محمد حسنين هيكل براتب 15 جنيهاً شهرياً ، و نجحت في جذب أحمد بهاء الدين و كان يعمل في مجلس الدولة و مرشحا لبعثة لدراسة الدكتوراه بجامعة السوربون. و جاءها شاب من طرابلس، عاصمة لبنان الثانية، مسقط رأس الست روز، فتحت له باب المجلة، إحتضنته، و عندها تعلّم سر المهنة، ليصبح من أهم صحافيي العال؜م العربي، و تصبح مجلته « الحوادث »،الأولى و الأوسع انتشارا، و الأكثر تأثيرا، و سيكون لي عودة الى سليم اللوزي، شهيد الكلمة الحرة، متى كان الحديث عن غربتي الثانية الى لندن، حيث كان هو، و« الحوادث »، و سنوات من العمل الى جانبه. و لحق بركب هؤلاء الموهوبين، إبنها إحسان، من زواجها من محمد عبد القدوس، فعمل محررًا، و تدّرج الى رئاسة التحرير .

 

و من عجب العجاب، أن ناشرة أهم مجلة أسبوعية سياسية عرفها العرب، بالكاد تعرف « فكّ الحرف »، تُوّقِع إمضائها بصعوبة، و إن كتبت، يتعب القلم بين أصابعها و هي ترسم به الأحرف، و لا تمر جملة تكتبها من دون أخطاء يعِفّ عنها التلميذ المبتدىء. و على الرغم من ذلك كله، كانت الست روز قارئة نَهِمة، ذوّاقة، حفّاظة لما تقرأ، و كانت من دون تردد، و كثير تفكير، تعرف ما إذا كان المقال الذي تقرأه يستحق أن يبرز على الصفحة الأولى، أو يُلقى جانبا، مع الشكر و الإمتنان لكاتبه. و ظّلت تحِن الى خشبة المسرح، الى الستارة التي تسدل على آخر مشهد. مرات، أبدت رغبتها بالعودة الى التمثيل، و مرات عدة، عارضها جميع من كانوا حولها و حواليها، من أصحاب و كُتّاب، و صحافيين كبار. و ألحوا عليها بأن لا تعود الى أضواء المسرح، بعدما سُلطت عليها أضواء الصحافة، و صارت تملك أهم مجلة تكتب بلسان عربي، و الأقوى أثرا و تأثيرا، و الأوسع انتشارًا.  و ظلّت تنتظر الفرصة لتعود الى… المسرح. سنة ١٩٣٤، أكلت النيران قرية « محلة زياد »، و تنادى الناس لجمع التبرعات لإعانة  المنكوبين، و إعادة إعمار تلك القرية الوديعة. فقررت الست روز أن تعود الى المسرح في ليلتين فقط، تُعيد فيهما تمثيل دور مارغريت غوتييه في « غادة الكاميليا »، فوقفت على خشبة مسرح « الأزبكية » و أبدعت، و ما جناه المسرح من تلك الحفلتين ذهب لإغاثة المنكوبين. تحكي الست روز : قبل حتي يرتفع الستار، كان محمد التابعي يجلس في الصفوف الأمامية و هو يهمس إلي أصدقائه من النقاد! يا ترى هتعهد تمثل بعد الإعتزال الطويل؟! و مثلت دوري و إيماني بفني يصعد بي الي القمة و كانت ليلتين خالدتين، و في فجر الليلة الثانية، غادرت خشبة المسرح بلا عودة إلي الأبد".

 

و يقع الفراق بين الست روز و محمد التابعي، فيحمل قلمه و أوراقه و يغادر « روز اليوسف »، و معه مصطفى أمين و رسام الكاريكاتور هاكوب صاروخيان. ظنّ كثيرون أن ذلك الفراق سيُرغم الست روز على الإحتجاب، إلا أنها أثبتت ما كان يدور دائما على لسانها، بأن المؤسسات لا تقوم على أفراد، إنما على نظام مؤسساتي متين. فقررّت إصدار جريدة سياسية يومية، و نجحت، وقت توّقع كثيرون أن تُخفق، و هددت « الأهرام »، الموغلة في القِدَم و الرسوخ، و إرتعدت أوصال جريدة « الجهاد »، الواسعة الانتشار. توّلى الدكتور محمود عزمي رئاسة التحرير، و إنضم عباس محمود العقاد اليها، تاركًا فراغًا في جريدة « الجهاد».  و جمعت الست روز أسرة تحرير ضخمة ضمّت أبرز المحررين في ذلك الوقت، د. محمد أبو طائلة رئيساً لقسم الأخبار ، د. رياض شمس لقسم الأحاديث، د. محمد على صالح لصفحة التجارة و الصناعة و توفيق صليب سكرتيرا للتحرير. و من بين المحررين المخبرين كامل الشناوي، لطفي عثمان، عبد الصبور قابيل، راغب عبد الملك، محمدحسين مخلوف، حبيب جاماتى وعلي بلبع، و لصفحة السينما أحمد كامل مرسى، والشباب يوسف حلمي، و صفحات التسلية و الصور والمجتمع يشرف عليها زكي طليمات و مصور الجريدة محمد يوسف، والرسام رفقى لرسم الخطوط و تبويب الجريدة بصفحاتها الستة عشر، و إختارت مقولة لسعد زغلول ليكون شعار الجريدة : " من كذب بالأمة أو داخله فيها الشك .. فليس منها " .

 

         

Description: C:\Users\acc\Downloads\IMG_6750.JPG       Description: C:\Users\acc\Downloads\IMG_6843.JPG

 

وطُبعت الجريدة بمطابع " جريدة البلاغ " تحت إشراف عبد القادر حمزة، و أدارت الست ماكينة الطباعة بنفسها بناء علي طلبه . و واجهت الست روز مشكلة التوزيع، فقد كان المعلم علي الفلاوي هو المتسلط و المتحكم في توزيع المطبوعات في المحروسة،  و ماهر فرج في الإسكندرية… فقررت دخول مضمار التوزيع فأسست شركة توزيع خاصة بها، مُستلهمة الفكرة من تجربة شهدتها أثناء زيارتها لباريس، فقد لاحظت أن معظم بائعي الصحف و المجلات من الفتيات، فقامت بتعيين 50 فتاه مصرية ليقمن ببيع الجريدة اليومية و المجلة الاسبوعية ، فأرادت أن تفتح لبنات جنسها باباً للعمل الشريف، باب تعمل فيه الفتاة الفقيرة بدلاً من الشحاذة أو جمع اعقاب السجائر أو الخدمة في البيوت، إلا أن التجربة لم يُكتب لها النجاح علي الرغم من أنها وضعت لها نظاماً جيداً، فقد تعرضت الفتيات للمضايقات و المعاكسات. كانت هذه المرة الأولي في أن يكون للأنثى دور في مجلة و جريدة روز اليوسف، فالسيدة روز اليوسف كانت المرأة الوحيدة في هذا العمل الصحافي الجرئ . و كانت هذه هي البداية..

 

و يُشكل محمد توفيق نسيم باشا الحكومة، فاعتبر مصطفى النحاس باشا، و معه قياديين آخرين في حزب      « الوفد »، إنه بعدما تم إنهاء عهد إسماعيل صدقي، و عبد الفتاح يحيى، فإن حكومة نسيم باشا، تُمثل الحل الأسوأ مع ديكتاتورية و تسلط الملك، و غدر الانجليز.  و لم يكن  « الوفد »، وراء تشكيل و إختيار الوزراء، و لا كان نسيم باشا وفديا، حزبيا، ملتزما، إنما كان مناصرًا، تربطه مع سعد زغلول باشا مصاهرة، فشقيق  الباشا متزوج من  شقيقة نسيم باشا، و كان سعد زغلول إختاره  وزيرا  للمالية في إحدى الحكومات التي شَكّلَها. و مع ذلك، ناصره « الوفد » و دافع عنه و عن حكومته، و دعمهما داخل البرلمان و خارجه. و حدث أن إستصدر نسيم باشا، قرارا ملكيا، بتعطيل دستور ١٩٣٠، هو دستور إسماعيل صدقي، و العودة للعمل بدستور ١٩٢٣! و نشب الخلاف بين الست روز و « الوفد » نادت به على صفحات جريدتها، و إنهال العقّاد في مقالاته  تهشيما بنسيم باشا و حكومته، و راح يطالب بعودة الدستور، و وقفت الست روز  تسانده. حاول مصطفى النحاس باشا أن يُقنع الست روز بالالتزام بسياسة الحزب، المهادنة للباشا رئيس الحكومة، فرفضت بجرأة و عناد التنازل عن حقها الصحافي، في إنتقاد الحكومة و محاسبتها، متى كانت تستحق الإنتقاد  و المحاسبة. و كان واضحًا مما كان يُكتب، أن غضب العقاد، لم يكن بسبب من سياسة نسيم باشا، فقط، إنما أيضا بسبب سياسات أحمد نجيب الهلالي، وزير المعارف. و مع تمادي الحملة التي أخذت توجع « الوفد »، صدر قرار بفصل الست روز و العقاد من الحزب، و التبرؤ من جريدة « روز اليوسف »، و شنّ « الوفد »، حملة مقاطعة الجريدة، و حصارها ماليا، لتركيعها. ثم سَيّر الوفديون تظاهرات حاشدة الى مكاتب الجريدة، رشقوها بالحجارة، و بالكلام النابي… فما كان من الست روز، إلا أن خرجت الى المتظاهرين الهائجين، منفردة، مرفوعة الرأس، و إندفعت تهتف بسقوط النحاس و حزبه. وصمدت، و ظلّت الجريدة تهاجم الإنجليز، و الحكومة، و القصر، و زادت عليهم « الوفد ».  و يعلن وزير الخارجية البريطانية أن دستور ١٩٢٣ لم يعد صالحا، و طالب بالعودة للعمل ببنود دستور ١٩٣٠ و هو الذي كانت جريدة الست روز تطالب به، و أُسقطت حكومة نسيم باشا، و لم يغفر « الوفد » للست روز. إستمر الحصار، و إشتدت  المقاطعة، و تفشى التنكيل، فهوى توزيع الجريدة، نتيجة ذلك كله، فأبت الإستسلام ، و تكاثرت عليها الديون حتي وصلت الى ٢٦ ألف جنيه، بينها ٦٠٠٠ جنيه لتجار الورق، و٣٠٠٠ جنيه لبنك مصر… فإقترضت من المعارف والأصحاب، باعت أثاث بيتها، و مجوهراتها، و حتى فساتينها. و إنقض عليها الدائنون، و لوحوا بمقاضاتها، وإنفض من حولها الكتاب و كبار الصحافيين... فقررت حجب الجريدة اليومية، و بقيت المجلة الأسبوعية، تعاند، تهاجم، تتصدى، تعارك، و تتعارك، و تتحمل قساوة الظروف، و غدرات الزمان… حتى تمكنت من أن تعيدها الى  صدارة المجلات. مجلة لا تزال في ضوئها يُستصبح به.

 

ويخرج العسكريون من ثكناتهم، و تهدر الدبابات في شوارع المحروسة، يطيح الجيش بالملك، و المملكة صارت جمهورية. و يتخذ الرئيس جمال عبدالناصر، بعد سنة على الثورة، قرارا بمصادرة بعض الصحف، فأرسلت الست روز تخاطبه: " انك بحاجة الي الخلاف تماماً كحاجتك الي الاتحاد، أن كل مجتمع سليم يقوم علي هذين العنصرين معاً ،    و لا يستغني بأحدهما عن الآخر ... لاتصدق ما يقال أن الحرية شئ يُباح في وقت و لا يباح في وقت آخر، فأنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع و يعيش .. "

 

و جاء رد الرئيس عبد الناصر .." أنا بطبعي أكره كل قيد علي الحرية ، أنا لا أخشي إطلاق الحريات ، و إنما أخشي أن تباع و تشتري كما كانت قبيل 23 يوليو، و مع ذلك فأين الحرية التي قيدناها؟ أنت تعلمين أن النقد مُباح و أننا نطلب التوجيه و الإرشاد ونُّلح في الطلب، بل أننا نرحب بالهجوم علينا إذا كان يقُصد منه صالح الوطن، وليس الهدم و التخريب .. ذلك لأنني اعتقد أنه ليس بيننا من فوق مستوي النقد أو من هو مُنْزّه عن الخطأ " .

 

ولكن حدث خلاف ما قاله عبد الناصر في رده على الست روز، فعندما كتب ابنها، إحسان عبدالقدوس في المجلة، ينتقد تصرفات بعض الضباط، أودِع السجن. و عندما أُفرج عنه، إتصل به عبد الناصر قائلا: « إيه… إتربيت، طيب تعالى بكرا إفطر معايا ».

 

.. و إنتقلت مؤسسة روز اليوسف الى مبنى جديد عصري صمّمه المهندس المعماري  المعروف سيد كريم ، لم تشهد السيدة روز اليوسف تأسيس المبنى الجديد بشارع القصر العيني و لم تدخله في حياتها فقد رحلت قبلها بعامين . أثناء مشاهدتها لأحد الافلام السينمائية في سينما ريفولي بقلب القاهرة، أصيبت بأزمة قلبية لكنها تماسكت و عادت الى منزلها ، لتدخل سريرها و تموت بعد رحلة طويلة من الكفاح، عرفت فيها معني الاعتماد علي النفس و السعي وراء الاحلام التي تأتي من العدم و تتحقق ، كانت تقول دائماً… " كلنا سنموت ، و لكن هناك فرقاً بين شخص يموت و لكن يظل حياً بسيرته و حياته ."      

                

و يرثي إحسان عبد القدوس أمه الست روز ": و قمت أسير فى العالم الآخر الذي أعيش فيه مع أمى.. و خرجت إلى الشرفة.. و فوجئت.. مفاجأة كادت تخلع قلبى.. لقد رأيت رجلاً يسير فى شارع.. و مركباً تطفو على صفحة النيل.. و عربة محمّلة بالخضار و وروداً جميلة فى الحديقة المجاورة.. و طلبة و طالبات.. و بائع الجرائد يصيح.. صباح الخير!  إننا لسنا فى العالم الآخر.. إن الحياة لم تتوقف.. و عدت من الشرفة، لأبحث عن أمى و أبشرها بأن الحياة لم تتوقف.. إن بابها مغلق.. أغلقوه بالمفتاح حتى لا أصل إليها.. و وقفت طويلاً أمام الباب.. ثم أقنعت نفسى.. أقنعت نفسى بأنها ماتت..  أمى.. ماتت..  و عدت أطوف بحجرات البيت.. و فى الحجرة التي تعوّدَت أن تجلس فيها لتقرأ، وجدت نظارتها موضوعة فوق العددين الأخيرين من روز اليوسف و صباح الخير.. و أخذت النظارة.. ووضعتها فى جيبى.. إنها لا تزال فى جيبى إلى الآن.. لعلى أرى بها ما كانت تراه.."

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز