وليد طوغان
مصر تكتب التاريخ
الإرادة.. والقدرة.. وروح الانتصار
يبقى الإيمان بالوطن.. وبقدراته وبقداسة ترابه كلمة السر فى كل المعارك.. على اختلاف أنواع المعارك.. والحروب.
وثق انتصار أكتوبر 73 ملامح إرادة مصرية أسقطت فى الوحل جيش عدو كان قد روج أنه لا يُقهر.
تتزامن ذكرى النصر المجيد هذا العام مع اشتعال كامل فى الإقليم. يبقى جيش مصر حافظًا، وتبقى مصر بقيادة سياسية واعية واحة للاستقرار.
لمصر خطوطها الحمراء ومكانها ومكانتها. تبقى مصر رمانة الميزان فى المنطقة.
للصدفة دلالة.. وإشارات.
الاستمرار على طريق الاستقرار وصولًا للتنمية بوحى من ذكرى نصر أكتوبر هى الأخرى حربٌ بمعنى الكلمة. فى المعادلة مصر كبيرة بالموقع والأثر، لذلك تندلع الحروب بين حروبٍ تقليدية وحروبٍ أخرى غير تقليدية.. وتتلون أشكالها.. وتتغير ملامحها.. مثل الحيّات.
فى إقليمٍ ملتهب، وفى ظروفٍ عالمية شديدة التعقيد وشديدة التشابك، تعمل الحروب المضادة على وقف طموحات الدول المحورية. تتحايل الحروب المضادة على إرادات الشعوب بألوان مختلفة من حيل الشياطين.
يعرف المصريون جيدًا ماذا جرى، وما الذي حدث.
يعرفون الآن ما الذي يجرى، وكيف تصدت مصر لما يحاك أو يدبر بليل. المصريون يعرفون جيدًا أن هناك من سعى، ويسعى للفوضى، واستمرار احتلال الأرض.. ويعرف المصريون أن هناك فى الإقليم شخصيات مأزومة تسعى للخلاص خوفًا من المستقبل.. وخوفًا على نفسها، لذلك تسعى للدماء، والقتل والتشريد.
يعلم المصريون جيدًا أن هناك من يحاول تسوية أزماته على حساب مصر، وعلى حساب أرض مصر.. كما يعلم المصريون أيضًا أن هناك من حاول وما زال يحاول أن يلبس الشيطان مسوح الرهبان.
علم المصريون جيدًا، فى أوقات مضت، أن هناك من ساعد، وما زال يساعد أصحاب الشعارات على الفت فى عضد الدولة، وعلى إحداث الكسور فى عمود البلد الفقرى.
من يتصور أن عرض تخريج طلبة الكليات العسكرية.. هو مجرد احتفال بتخرج دفعات جديدة عليه أن يراجع نفسه، وأن يراجع قدراته على الإدراك.
كان الاحتفال استعراضًا بسيطًا لعينة مما لدى مصر من خيرة أبنائها، تعلموا وتدربوا وفق أحدث البرامج ووفق أحدث أساليب القتال.. لينضموا إلى حماة السماء والبحر والأرض.
فى مصر جيش رشيد، هذا صحيح، لكن فى مصر أيضًا جيش قادر. يكتسب الجيش المصري العظيم قدرته من وطنيته، ومن إيمانه، ومن عقيدة صلبة لا تلين.
عادة ما تكتب مصر التاريخ.. أو قل إن مصر مستمرة فى كتابة التاريخ.
(1)
فى تاريخ الشعوب محطات فاصلة.
تغير تلك المحطات الفاصلة وجه الواقع، وتتحداه، وتهزمه، فتخلق تلك المحطات الفاصلة واقعًا جديدًا.. وعالمًا جديدًا.. بملامح جديدة.. وآفاق جديدة.
فى تاريخ الشعوب.. محطات فاصلة. تغير وجه التاريخ، وتغير الجغرافيا والحسابات والمعادلات.
فى أكتوبر 73 غيّر المصريون الواقع، وغيروا الخرائط، وأعادوا رسم الظرف والتوقيت والمعانى على طريقتهم.. وبإرادتهم.. فامتثلت الظروف والتوقيتات والمعانى.. لإرادتهم. فى التاريخ محطات فاصلة، تضيف إلى المستقبل آفاقًا جديدة، كثيرًا ما لم تكن تلك الآفاق متصورة.. أو محتملة.. أو مسبوقة.
تتشابه محطات الإرادة المصرية فى حفظ الوطن وصون أراضيه.
فى أكتوبر 73 عبرت الإرادة المصرية إلى الجانب الآخر من قناة السويس.. وفى يونيو 2013 عبرت الإرادة المصرية بالوطن من فخ المؤامرات الكونية فى محاولة لاختطاف وطن.. وتغير ملامح شعب.. وتغيير هوية حضارة.
ما زالت المؤامرات مستمرة، وما زالت المحاولات تجرى على قدم وساق. لكن ما حققه أبناء هذا البلد على الأرض فى أكتوبر، يمكنهم أن يحققوه مرة أخرى على الأرض إذا اقتضت الظروف.
عودة لانتصار أكتوبر المجيد الذي ثنى فصلًا شديد الحساسية من التاريخ المصري، ليضع المصريون فوق مشاهد قبور شهداء تراب هذا الوطن أكاليل الغار والفخار.
لكن تبقى المعارك مستمرة. تبقى مكايدات السياسة، ومؤامرات أصحاب الذقون مستمرة. تمر ذكرى أكتوبر المجيدة، ويظل لنا فيها عبرة.. وعظة. نستمد من روح أكتوبر إصرارًا على مزيدٍ من الانتصارات فى الطريق للتنمية والبناء.
استعاد المصريون الأرض فى أكتوبر 73. واستعادوا الدولة والوطن فى 2013. تبقى المعارك مستمرة.. وإن اختلفت الأسلحة.. وطرق التعبئة. تختلف مع الزمن طرق الحروب وملامحها.
فى الطريق للجمهورية الجديدة هناك من يلقى الألغام فى طريق التنمية.
يظل هناك فى الطريق للجمهورية الجديدة من يرمى بفخاخ التشكيك.. وأباطيل الإثارة فى معارك تتخذ فيها الكلمة محل السلاح.. ويغوص فيها «البوست» على مواقع التواصل كما الألغام فى التراب.
فى ذكرى عبور أكتوبر من كل عام نستعيد دفاتر من أيام إرادة وطن ونصر مستحق.
ومن عبور أول لقناة السويس نستلهم عبرًا من إرادة فولاذية للمصريين عبرت بهم فى 30 يونيو ستار الإخوان الأسود، وستائر الإرهاب السوداء هى الأخرى فى الطريق لجمهورية جديدة حيث التنمية واستعادة الهوية واستعادة الوطن.
كانت أكتوبر معركة كرامة لاستعادة الأرض. وكانت يونيو معركة استعادة هوية واستعادة وعى.
والمعارك على اختلافها مستمرة بعد يونيو.. كما كانت مستمرة بعد أكتوبر.
فى أكتوبر 73 قدم الشعب أبناءه لجيشه تأسيسًا لمعركة كرامة يتداولها التاريخ بالعزة والإجلال.. وفى 30 يونيو لبى الجيش نداء شعبٍ يستغيث من بعبع الإخوان.
كانتا معركتى الإرادة.. والإصرار على استعادة تراب الوطن.. بقدسية أراضيه.
فى معركة أكتوبر حارب الجيش لكرامة الوطن وأرضه.. وفى 30 يونيو وقف الجيش مع أبناء الشعب لاستعادة دولة أراد تجار الأوطان وضعها على الطريق للهاوية.
انتصر الشعب فى الحادثتين.. فالانتصارات تولد من رحم الكبرياء. والمستحقات تولد من رحم الحقوق.
(2)
فى أكتوبر 73.. كسر المصريون المعادلات.. وحطموا الأساطير. كسروا معادلات القوة، وغيروا مصطلحات التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية.
تغير منحنى التاريخ فى أكتوبر 73.
وبعد حوالى 40 عامًا من نصر أكتوبر المجيد، أعاد المصريون الكرة من جديد فى 30 يونيو 2013.
كما لو أنها نفس الروح.. ونفس القدرة. أعاد المصريون تغيير الواقع، وأعادوا ترسيم الخرائط وأوقفوا عجلة النار.
فى أكتوبر 73 كان البطل محمد أنور السادات. فى 30 يونيو 2013 كان البطل عبدالفتاح السيسي.
فى 73 تغيرت خرائط الشرق الأوسط، وأعيدت موازين القوى للتموضع على خرائط الإقليم الملتهب، فاستعادت خطوط الحدود وضعها الصحيح، واستعاد المصري كرامته.. قبل أرضه. فى 30 يونيو 2014.. توقفت عجلة النار.
عجلة نار 2011 كانت كبرى مهولة حارقة خارقة. لكن استطاع المصريون وقتها إيقاف الزمن، فأوقفوا الشمس فى الأفق، واستعادوا الدولة والهوية.
فى 73 كان الجيش المصري درعًا وسيفًا. أعاد الواقع نفسه، فتكررت المعادلة، ووقف الجيش المصري بقيادة عبدالفتاح السيسي متوحدًا مع إرادة المصريين دفاعًا عن المصريين.
كانت المواجهة مع غول إرهاب بدا فى الأفق، وأسنانه المدببة تسيل منها دماء الشعب.. وتتساقط تحتها أحلامه.. وآماله.. وتنسحق تحت أضراس الإرهاب كل أمل فى مستقبل أفضل.. أو حتى الأمل فى مجرد دولة.. بمعنى الدولة.
فى أكتوبر 73 كان هناك من يسعى لتغيير الخرائط باحتلال الأرض. وفيما بعد 2011 كان هناك من سعى لتغيير الخرائط من القلب.. من الداخل، باختطاف الدولة، واختطاف الشعب.. واختطاف الوطن.
فى أكتوبر بدت روح الإرادة.. ثم روح الانتصار، وفى 30 يونيو كانت روح الإرادة وروح الانتصار، نفس الروح التي يستعيدها المصريون الآن، والعالم حولهم يشتعل، والمنطقة حولهم تمور مورًا من الحديد والنيران، ومحاولة استلاب الحقوق، مع محاولات تصفية القضايا. لكن لدى مصر ثوابت، لا تنسى ولا يمكن تجاهلها.
استعادت مصر الأرض فى 73.
يظل كل تاريخ إشارة إلى ما استطاع هذا الشعب تحقيقه من انتصارات أشبه بالمعجزات. على رأس كل انتصار يقف قائد. تتطلب المراحل التاريخية الفاصلة، كاريزما، يدخل الحرب على كافة مساراتها.. ثم يوجه للتنمية.. على كافة محاورها.
على رأس كل مرحلة فاصلة من مراحل الشعوب، يبدو فى البرواز قائد للحرب.. هو هو نفسه قائد السلام.
تتوج الانتصارات عادة بما بعدها من استقرار وسبل للبناء. تتوج الانتصارات عادة بما يليها من تأكيد التفوق على الرسوم البيانية لمتطلبات المستقبل.
لا تبنى الدول بالحروب هذا صحيح. لا تؤسس التنمية إلا على الاستقرار.. وهذا صحيحٌ أيضًا، لكن تظل الحروب لأجل الأرض والعرض هى التي تفتح الباب الواسع للطريق للمستقبل.
تظل أكتوبر واحدة من أكبر ملاحم التاريخ المصري. وتظل 30 يونيو واحدة من أكبر الملاحم الشعبية فى التاريخ الحديث أيضاً.
مرة أخرى استعادت مصر الأرض فى 73.. وفى 2013 استعادت الدولة.. واستعادت الهوية. بروح أكتوبر.. هزم المصريون إخوان الإرهاب، وبروح أكتوبر أكمل عبدالفتاح السيسي تطهير جيوب مصر من براثن الأذى فى معارك ضروس ضد سرطان الإخوان والإرهاب.
بدأ عبدالفتاح السيسي.. بروح أكتوبر ملاحم التنمية، واستراتيجيات إعادة تأسيس الدولة.. بمعنى الدولة.
تبقى المعارك مستمرة.. على شاشات فضائيات معادية.. ومن على قنوات ممولة. تبقى معارك قاذفات الهدم دائرة على ودنه. تبقى المعارك مستمرة والتوحش فى استخدام السلاح يبقى هو الآخر فى الجوار.
لكن تبقى إرادة وطن هى الأبقى.. وتبقى إرادة شعب مستمدة من انتصارات الماضى فى الطريق لمزيد من الانتصارات فى المستقبل.. إشارة.
هى إرادة وطن لا تلين.
فقد أثبت التاريخ.. أن أى رهان مضاد على إرادة المصريين.. لا يمكن أن يكتب له النجاح.
(3)
تدرس حرب أكتوبر للآن فى الأكاديميات العسكرية.
تدرس من حيث الدقة فى تنفيذ المهام.. ومن حيث القدرة على هزيمة الصعاب.. ومن حيث الإصرار فى إنزال إرادة أبناء شعب.. ظل يتطلع للجانب الآخر من القناة.. حيث الثأر المستحق.. فى انتظار القرار.
فى الأحداث الكبرى يبقى القرار هو الفيصل. فى الأزمات الكبرى يبقى القرار الشجاع حُكمًا ومعيارًا.. فالقرارات هى فى محطات التاريخ.. مصنع الرجال.. واختبار العزيمة والقدرة.
وقد كان.. عبر الجندى المصري بمعداته ومهماته.. وعبر بعضهم وعلى ظهره ما لم يكن متصورًا أن يحمله الرجال.. مع ثقل الوزن.. وارتفاع ساتر ترابى حمى به العدو.. خط بارليف. كان خط بارليف نفسه أسطورة كبرى.. تحطمت.. وانهارت.. وتهاوت.. وتداعت فى أقل من 6 ساعات.
لذلك كانت أكتوبر حرب إرادة قبل أن تكون حرب تحرير.
راهن الرئيس الراحل أنور السادات على إرادة شعب. راهن آخرون ضد إرادة هذا الشعب. دائمًا ما تكسب الرهانات على إرادة المصريين.. تسقط الرهانات المضادة من حالق فى أودية الجبال. تسقط الرهانات المضادة فى سلال مهملات التاريخ.
الإرادة جين مصري. فى التوقيت المناسب يخرج أبناء هذا الشعب.. يطوقون الأزمات، ويقتحمون الصعاب.. ويهزمون تماثيل الملح.. وينحتون فى الصخر.
لا تنمية بلا استقرار. وسيناء التي تحررت بالحرب أولًا ثم بالدبلوماسية ثانيًا، سوف تظل شاهدة على قوة مصر وشعبها وقواتها المسلحة ومؤسسات دولتها.
وعلى مر التاريخ.. وفى المستقبل، ستظل سيناء رمزًا لصلابة الشعب المصري على سحق المعتدين والغزاة.
انكسرت موجة الإرهاب، وتشتتت.. وامتصتها رمال سيناء، بصلابة أبناء هذا البلد.
سحق المصريون قوى الشر، وهى التي توهمت يومًا ما أن فى مقدورها إضعاف عزيمة المصريين، أو النيل منهم، أو المساس بهم.
دحر الشعب المصري الإرهاب.. وشبت قواتنا المسلحة مرتقية درجتين، مقدمة أبناءها الأبرار شهداء، حماية للأرض فى ملحمة جديدة من ملاحم الفداء.
يظل الموقف المصري شديد الوضوح، من رفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم إلى سيناء أو أى مكان آخر. ويظل الحفاظ على الأمن القومى المصري هدفًا أسمى. والحفاظ على القضية الفلسطينية من التصفية هدفًا آخر لا جدال فيه.
هناك من يعمل على إعادة ترسيم الخرائط، وإعادة تسمية المناطق وتغيير أسمائها بعد تغيير ملامح الجغرافيا، وربما ملامح التاريخ.
لا تقبل مصر لا هذا ولا ذاك.
لا تغيير الأسماء ممكن.. ولا تغيير الجغرافيا سوف يحدث. يبقى لدى مصر كل الوسائل التي تتيح لها الحفاظ على معادلة أمنها القومى، ومحدداتها فى الحفاظ على القضية الفلسطينية حية.
رسمت مصر الخطوط الحمراء من قبل على الخرائط فى الغرب. استجاب العالم.. وتوقفت عجلة النار.
هذه المرة ترسم مصر الخطوط الحمراء فى الشرق أيضًا.
كل الخيارات مفتوحة أمام مصر حفاظاً على أمنها القومى.
اختارت مصر التنمية والبناء هذا صحيح.. وسيناء النهاردة غير سيناء زمان هذا صحيح أيضًا، لكن سياسات التنمية، لن توقف أبدًا سياسات أخرى، لو اقتضت الظروف انتهاجها حفاظًا على الأرض.. وصونًا للعرض.
تعمل مصر بجهود مضنية على وقف الحرب فى غزة، وفق خطط تستشرف المستقبل، وتبنى بالتدريج موقفًا يسير فى اتجاه حلول ناجزة.
للإنصاف.. مصر على خطوط المواجهة الأكبر.. والأوسع. مصر قادرة على إيجاد الحلول.. وهى قادرة أيضًا على أن تستخدم كل ما لديها من بدائل.. حسبما تقتضى الظروف.
تعمل مصر وفق قوة رشيدة.. ووفق منطلقات العدل.. بحيث لا يمكن أن تجرى فى النهر.. إلا ما يحفظ أرضها .. وحقوق الآخرين .