أيمن عبد المجيد
شيخ الساخرين الحكائين.. عاصم حنفي وداعًا
كثيرون هم من احترفوا مهنة الصحافة، بفنونها الزاخرة، قليلون هم ورثة القلم الساخر الجاد، ونادرون من يواصلون العطاء المهني حتى النفس الأخير.
ليس كل ساخر يملك ناصية الكلمة، ينصاع له قلمه صاغرًا معبرًا عن روحه المرحة، وقفشاته المحرضة على البهجة، وليس كل كاتب ساخر حكاء ماهرًا، فالكاتب الصحفي الساخر العظيم الراحل أحمد رجب ملك "نصف كلمة"، كان مُبدعًا في سخريته "المختصر المُفيد المُبهج"، "التويتة الساخرة"، قبل أن يعرف العالم التدوينات القصيرة، على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر".
بينما أنجبت مدرسة روزاليوسف، مختلف صنوف الإبداع الفكري والمهني، فقد أهدت الصحافة العربية، جواهر نادرة يملكون موهبة الكتابة الساخرة ومهارة الحكي المُمتع في آنٍ واحد، ملك الساخرين الحكائين محمود السعدني رحمه الله.
وهذه موهبة فطرية، تصقلها خلطة سحرية من خبرات الحياة، وظروف النشأة وما يليها من صعوبات وتحديات، فالسعدني نشأ في أحشاء الأحياء الشعبية، ناسجًا العلاقات والصداقات مع حرافيش المجتمع وولاد البلد، محتفظًا بخيوط تلك العلاقات، وهو يصعد سلم مهنة صاحبة الجلالة، وما سببته له من متاعب وعلاقات مع قادة الفكر والفن والسياسة بل والرؤساء والملوك، فوجدت موهبته معينًا زاخرًا وخلطة نادرة للأفكار والقفشات.
الكاتب الصحفي المُبدع عاصم حنفي- رحمه الله- ابن نجيب لمدرسة السعدني، جمع بين امتلاك ناصية القلم الساخر، ومهارة الحكي وتوليد النكات والقفشات الطارئة على مجريات الأحاديث في لقاءات الصفاء، في العمل مع الصحفيين والكتاب، أو في جلساته مع الأصدقاء والجيران على مقهى شارع المواردي على بُعد أمتار من بيته العريق "روزاليوسف".
فكما السعدني، ولد كاتبنا المُبدع عاصم حنفي- الذي انتقل إلى دار البقاء، مساء أمس رحمه الله- في حي المواردي الشعبي، لوالد من الطبقة المتوسطة يحيك الملابس في دكانه، نشأ في قلب المجتمع، صادق حتى النفس الأخير أبناء الحارة المصرية، جلسته المفضلة على مقهى المواردي.
لكنه في الوقت ذاته تحدث بطلاقة الإنجليزية والفرنسية، وزار عواصم العالم في جولات مكوكية، غاص خلالها في أعماق المجتمعات والثقافات العربية والأوروبية، فقضى في لندن 6 سنوات، فقد دعاه استاذة محمود السعدني للانضمام إلى كتاب صحيفة 23 التي أسسها بالمهجر، عقب تركه مصر في أعقاب اتفاقية السلام مع إسرائيل 1979.
ومن لندن للعمل، إلى جولاته لإسبانيا وعواصم أوروبية عدة، جمعها في كتابه الفريد، "بالطول والعرض"، لكن سويسرا كان لها النصيب الأكبر من زياراته وكتاباته بل وحياته ذاتها، فقد تعرف في شبابه على فتاة سويسرية مثقفة، أصبحت شريكة حياته، شريكة وفية تعشقه ويعشقها.
ولد 1952، في ذلك العام الزاخر بالأحداث السياسية، الذي شهد ثورة يوليو، وشب في فترة الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية، فاحتك بالمعارك الفكرية، درس بكالوريوس زراعة بدافع من تنسيق الثانوية العامة، فامتلك مزيجًا من الخبرات والثقافات أثرت في تكوينه ووظفتها الموهبة.
في رمضان الماضي، على مائدة إفطار عائلية تجمع جيل رواد مجلة “صباح الخير” الجميل مع جيل الشباب، تضم ما لذ وطاب من طعام منزلي صنع أيدي الزميلات الفضليات، كان الاستاذ عاصم حنفي مصدرًا للبهجة صحبة زوجته، بقفشاته ونكاته المبهجة.
كان اللقاء الأخير هناك في العناية المركزة، حيث لا وعي، صراع مع المرض، كما كان في صراع مع الحياة، مع فارق كبير بين الصراع الصامت والصراع الضاحك الساخر.
أترككم مع شهادة كاتبنا القدير الراحل محمود السعدني عن ابنه الساخر عاصم حنفي الذي ذهب إليه: "إذا كانت كل الطرق تؤدي إلى روما، فكل الظروف التي أحاطت بالكاتب عاصم حنفي كانت تؤدي به إلى السخرية. السخرية من نفسه ومن الناس ومن الزمان. فهو ولد ونشأ وعاش في حي من أغرب أحياء القاهرة حي يلتصق من الناحية الغربية أرقى وأفخر أحياء القاهرة وهو حي جاردن سيتي ويجاور من الناحية الشرقية حي المديح وتلال زينهم والبغالة وشارع السد".
وبأسلوبه الساخر الجميل يروي السعدني بدايات حنفي في تقديمة كتابه "بالطول والعرض"، ظروف نشأته، وعمله موظفًا في أحد مصانع الدلتا، ليكتشف أن "أكثر الناس تشدقًا بالاشتراكية هم أشدهم نهمًا إلى المال العام، وأن أكثر العمال تشنجًا هم أقلهم عطاء وأبعدهم عن الثورية، وعندما انتابه القرف استقال من المصنع وآثر أن يعيش عاطلًا في القاهرة، وفي بداية عهد الرئيس السادات وجد نفسه في الصحافة، بجريدة تابعة لمنبر من المنابر، ولكنه أخطأ البداية الصحيحة، فانهمك في كتابة مقالات ثورية عن الحنجوري المتشامخ والشواشي العليا للبرجوازية.
ويضيف السعدني: "ولكن العبد لله لمح بين سطور الحنجوري عينًا ناقدة ساخرة، وروحًا قلقة لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب، وأشرت له على الطريق فاندهش واستنكر، ثم جرب نفسه مرة ومرة فإذا به يعثر على نفسه، وصار عاصم حنفي من الكُتاب الساخرين واستطاع أن يفرض سخريته على الصحف المصرية والعربية أيضًا".
تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته.