د. عادل القليعي
فلسفة الأخلاق طبيعتها وخصائصها (5 – 10)
حضارات الشرق القديم ودورها في بناء الفكر الأخلاقي عند فلاسفة اليونان.
لعل الذي سيقرأ العنوان لأول وهلة سيواجهني بسؤال، هذا السؤال هو: هل اقتصر دور حضارات الشرق القديم في تأثيرهم على الفكر اليوناني في مجال الفكر الأخلاقي فقط؟! أجيب عن هذا السؤال وأقول، بمنتهى الموضوعية، ودون أدنى تعصب لحضاراتنا الشرقية: لم يكن التأثير مقصورًا على الأخلاق فقط ويشهد بذلك بعض المستشرقين المنصفين.
من أن حضارات الشرق القديم، وعلى وجه الخصوص الحضارة المصرية القديمة، كان لها دور فاعل ومقوم رئيس في بناء الحضارة اليونانية سواء في الجوانب النظرية أو الجوانب العملية، وكذلك في النواحي السياسية.
ودليلي على ذلك، زيارات العديد من أئمة الفكر اليوناني في مختلف مناحيه لمصر، ففي المجال السياسة زيارة صولون المشرع السياسي الاثيني، واستفادته من قوانين حمورابي، وكذلك زيارة المشرع اليوناني ليكورج واضع قوانين إسبرطة.
أيضا زيارة فيثاغورث وأخذه فكرة وحدانية الإله، وفكرة التناغم والهرمونية، ثم زيارة أفلاطون، ومن قبله سقراط.
انظروا معي لعلم الحساب والهندسة والفلك ومعرفة فصول العام ومواسم الزراعة والحصاد.
ألم يتحدث عن ذلك القدماء المصريون؟
انظروا إلى بناء الأهرامات، انظروا إلى فن التحنيط، إلى علم الأصباغ والكيمياء وأن كلمة كيمي الأرض السوداء الخصبة أرض مصر، هذا بالنسبة لبعض الجوانب العملية.
أما الجوانب النظرية فكرة التوحيد، وفكرة الخلود، خلود النفس والبعث ودفن أغراض الموتى معهم في قبورهم اعتقادا منهم بحياة أخرى.
إذًا للحضارة المصرية دور فاعل في بناء الفكر اليوناني نظريًا وعمليًا، بما يدحض الفرية والشبهة التي كان يتغنى بها بعض المستشرقين وهي أن الفكر الفلسفي خلق يوناني عبقري أصيل، وما الشرقي إلا ناقل ومقلد، شهد بذلك بعض المستشرقين المنصفين أمثال زيغريد هونكه، وكذلك وول ديو رانت وغيرهما.
لذلك سنقف ونتصدى بكل ما أوتينا من حجة عقلية ودليل دامغ لكل من تسول له نفسه العبث بحضاراتنا الشرقية ومقدراتنا وقيمنا وفكرنا وثقافتنا.
لكن ثم سؤال، ما هو الدور الفعال الذي لعبته حضارات الشرق القديم في بناء الفكر الأخلاقي عند اليونان؟
إذا نظرنا بعين الاعتبار وتصفحنا بعض مؤلفات من كتب عن حضارات الشرق القديم، مثل فجر الضمير لبريستيد، وقصة الحضارة لويل ديو رانت، وتاريخ العلم لجورج سارتون، والفلسفة اليونانية من منظور الفكر الشرقي لمصطفى النشار، وأظن أن هذه المؤلفات ليست منا ببعيدة، لكن نريد تصفحها جيدًا، من سيتصفحها سيجد ضالته المنشودة.
نبدأ بفكرة الفضيلة علم والرذيلة جهل مقولة سقراط الخالدة، ألم يتحدث المصريون القدماء عن الفضائل واقتنائها، والرذائل واجتنابها، ألم يتحدث القدماء المصريون عن العواطف الحارة والوجدان والحب والعطف والمودة ومعاملة الزوجة باحترام وطاعة الأبناء آباءهم واحترام الزوجات لأزواجهن.
فكرة العدالة التي نجدها عند أفلاطون وتغني بها وأن العادل هو من يجعل قوته العاقلة تسيطر على قوتيه الشهوية والغضبية، وفكرة العدالة والماعت المصرية ألم يستمدها أفلاطون من الحضارة المصرية القديمة الإله ماعت إله العدل.
فكرة الوسط الأخلاقي ممن استقاها أرسطو، اقرءوا إن شئتم الأسفار الأربعة لكونفوشيوس حكيم الصين وانظروا وتأملوا حديثه عن الوسط الأخلاقي وأن الإنسان لا يميل بالكلية إلى طرف دون طرف بل لا بد له أن يوفق بين جانبيه المادي والروحي حتى تتحقق له السعادة.
كذلك انظروا أيضًا إلى هذا الحكيم الصيني ومدرسته، إذ يقول في حديث ماعت عن الواجب الأخلاقي وأن الإنسان يفعل الفعل ولا ينتظر نتائجه، الواجب الأخلاقي هو الأحرى والأجدر بالاحترام.
كذلك فكرة خيرية الأفعال وشريتها ألم يتحدث الفرس عن الهين، إله للخير واله للشر، اله للنور واله للظلام، إذا ثم خير وثم شر.
كذلك ألم يتحدث الهنود عن افعل ولا تفعل، الأخلاق في جانبها السلبي، وجانبها الإيجابي جانبها السلبي لا تفعل، كأن يقال لك لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ، كل ما هو شائن ورذيل لا تفعله.
وفي جانبها الإيجابي إتيان الفعل، كن أمينا، كن عفيفا، شجاعا، محبا، كريما، ودودا، عادلا.
إذا أردنا حقا أن نؤسس لفكر موضوعي يقوم على دعائم موضوعية رصينة فلا بد أن نتوخى الدقة والأمانة والموضوعية في مناقشة موضوعاتنا دون أدنى تعصب لجنس ولا عرق ولا عصبية.
فالفكر الإنساني نسيج واحد وكل واحد ودوما نعلي من شأن وقيمة هذه المقولة الفكر ليس له دين ولا وطن نناقش الفكرة أيا كانت ديانة قائلها، مسلم، مسيحي، يهودي، بوذي، وأيًا كان موطنه، غربيا أو شرقيا، شماليا أو جنوبيا.
الحكم والمعيار الذي نحتكم إليه هو العقل فبه نحكم على كل ما يطرح أمامنا من أفكار ومن خلاله نميز بين الحق والباطل، الصواب والخطأ، الجميل والقبيح، الخير والشر.
ونقول لهؤلاء العنصريين أحاديي النظرة: كفاكم هذه الترهات وعودوا إلى رشدكم ولا تظنوا أن التاريخ ينسى وأنه سيقوم من بينكم من سيدافع متذرعا بموضوعيته وبعلمه الحقيقي، وسيرد الحقوق لأهلها وأصحابها وسينصف الحضارات الشرقية مثلما حدث وسيحدث.
وأقول لهؤلاء الشرقيين ومنهم الحضارة العربية والإسلامية: كفاكم استكانة وأفيقوا من سباتكم الذي طال كثيرا، وأعيدوا مجد آبائكم، لا بالتغني بأمجاد الماضي، ولكن بتشمير سواعد الجد والعود الأحمد المبارك إلى مكتباتنا وإزالة الغبار عن تراثنا لا عن موروثنا في كل العلوم.
تحرروا من مركزيتكم هذه، وانطلقوا إلى الأمام، مدوا أيديكم ونقبوا في بطون وأمهات الكتب، ودعكم من هذه الدوائر متحدة المركز حتى نعود سيرتنا الأولى.
أستاذ الفلسفة الإسلامية – آداب حلوان