أيمن عبد المجيد
مرسي عطاالله.. 58 عامًا قتالًا على الجبهة
من بيته العريق "الأهرام"، تلك المؤسسة الضاربة بجذورها، مسافة 147 عامًا، في عمق الصحافة المصرية والعالمية، يترجل فارس شجاع، لم يغمد سيفه طيلة 58 عامًا قتالًا على جبهة الدفاع عن الوطن، وبناء حصون الوعي.
مقاتل جسور، عرف معنى الوطن، وقدر مصر أم الدنيا، الضاربة بجذورها في عمق تاريخ الإنسانية مسافة 7 آلاف عام من الحضارة والتعمير والتضحية والرقي.
برحيله، ينتقل بطل حقيقي من ذهب إلى دار البقاء، تخسر الصحافة المصرية والعربية، جوهرة ثمينة نادرة التكرار في كنزها المهني، بطل حقيقي من أبطال حرب أكتوبر المجيدة، قاتل على الجبهة بفكره وقلمه، جنديًا حقيقيًا لا مراسلًا عسكريًا.
اليوم لا أكتب مقال نعي، لقيمة مهنية قديرة تستحق، أن نبكي فراقها، وأن نتألم لفقدان فرع مُثمر من شجرة الصحافة المصرية الوارفة، ظل يؤتي ثماره دون انقطاع على مدار 58 عامًا، منذ أن التحق بصحيفة الأهرام عام 1965، شاب مُقبل على الحياة، لم تتجاوز سنه 22 عامًا، وحتى اليوم السابق لرحيله عن عمر ناهز 80 عامًا، 14 فبراير الجاري.
لا أنعي أستاذا، بل بطلًا وكاتبًا نادرًا، أحببته من جيل العظماء، الذين لا يبعدهم عن سلاحهم إلا الموت، وكأنهم جنود مقاتلون على الجبهة، هؤلاء الذين يقسمون بأنهم لا يفرطون في سلاحهم، إلا بالموت، منهم الأساتذة: صلاح الدين حافظ، ومكرم محمد أحمد، وفقيد اليوم مرسي عطاالله.
اليوم لا أنعي، بل نحتفي بمشوار بطل عظيم، لعل في سيرته، ما تتعلم منه الأجيال الشابة، كيف تكون صحفيًا تلتحف برداء الوطن، تُقاتل في جبهة الدفاع عنه، تعي أبعاد أمنه القومي، ومكونات قوته وقدرته، تقاتل أينما كان موقعك دفاعًا عنه. في العام 1965، كانت الخطوة الأولى للشاب مرسي إسماعيل عطاالله، في بلاط صاحبة الجلالة، فور حصوله على بكالوريوس الزراعة، قادمًا من قرية السنطة بمحافظة الغربية، إلى محافظة الجيزة؛ حيث انتقل والده إلى العمل بوزارة الزراعة.
لم يمر عامان على الشاب المتدرب، بأكبر صحيفة عربية وأول صحيفة مصرية في العصر الحديث، حتى صُدم وشعب مصر، بل والعرب جميعًا، بنكسة يونيو 1967، التي فقدنا فيها سيناء، وفقدت سوريا الجولان، وفلسطين المزيد من أراضيها، كان أحد الآلاف التي لم يصبها الدور في التجنيد عند تخرجه في الجامعة.
خرج الرئيس جمال عبدالناصر، معلنًا التنحي متحملًا مسؤولية الكارثة، وكان الشعب من الإرادة والوعي، والإصرار على الصمود، ما دفعه للخروج للشارع رافضًا تنحيه، مدركًا لأهمية وخطورة اللحظة التاريخية، داعيًا إياه لمواصلة مهامه رئيسًا للدولة قائدًا أعلى للقوات المسلحة، لإعادة بناء قواتنا المسلحة وإزالة آثار العدوان.
اتخذ الزعيم جمال عبد الناصر- رحمه الله- قراره الحكيم، بإلحاق لأول مرة خريجي الجامعات المصرية ما دون سن الثلاثين، الذين لم يصبهم الدور لصفوف القوات المُسلحة، فقد أدرك قدرتهم على الاستيعاب السريع للأسلحة، والتعامل معها بكفاءة أعلى، تعزز من قدرة القوات المسلحة التي كانت تعتمد بالأساس على مجندين غير حاصلين على مؤهلات.
وكان عطاالله الشاب، أحد هؤلاء الذين التحقوا بالتجنيد، للقتال على الجبهة، ليقاتل في سلاح يناسب خبراته، فقد اختير للعمل بالمخابرات الحربية فرع المعلومات والتقديرات، قبل أن يلتحق بعضوية نقابة الصحفيين عام 1971م.
وسرعان ما أثبت عطاالله كفاءة، وحظي بثقة قيادته، فأصبح مساعدًا للمتحدث الرسمي للقوات المسلحة اللواء عزالدين مختار، ففي أغسطس 1973، مع بدء العد التنازلي لحرب تحرير سيناء، تم تأسيس أول مكتب للمتحدث الرسمي للقوات المسلحة.
في هذا العام وقبله كان عطاالله يشارك في حرب المعلومات، والخداع الاستراتيجي، والحرب النفسية، مجندًا بسلاح المخابرات الحربية، وفي الوقت ذاته يؤدي دوره في الصحافة بتكليف رسمي من القيادة العامة للقوات المسلحة.
فور تأسيس مكتب المتحدث الرسمي، كلف اللواء عز الدين مختار مساعده، بكتابة مشروعي بيانين الأول يفيد إغارة قوات العدو على قواتنا، وتصدي قواتنا له، بينما البيان الثاني: "ردًا على العدوان الغادر، الذي قام به العدو ضد قواتنا، يقوم الآن بعض من تشكيلات قواتنا الجوية بقصف قواعد العدو وأهدافه العسكرية في الأراضي المحتلة".
روى أستاذنا مرسي عطاالله، أنه صاغ بالقلم الرصاص البيانين، وتم تعديلهما من اللغة الصحفية، التي اعتاد الكتابة بها، إلى صياغة الأدبيات العسكرية، وتم عرضهما على القيادة واعتمادهما، ليضعهما اللواء عز الدين في خزينته.
بينما تحركت ماكينة الحرب، وبدأ العد التنازلي لساعة الصفر، خرج ديفيد إليعازار، رئيس أركان جيش الاحتلال بتصريحات عنترية، يهاجم فيها مصر ملوحًا باليد الطولى لجيش الاحتلال، فصدر تكليف رسمي للمقاتل مرسي عطاالله، بكتابة رد بالتنسيق مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، رئيس التحرير آنذاك، للنشر في الصفحة الأولى.
كان الرد في الصفحة الأولى بالأهرام عدد 5 أكتوبر 1973، يتحدث عن أن مصر لن تحارب، في ضوء خطة الخداع الاستراتيجي، وكانت الموضوعات التي يكتبها الأستاذ هيكل وحدها التي توقع بـ"المحرر العسكري"، وما دون ذلك ممن يكتبون عن الحرب يمنحهم صفة "المراسل العسكري"، فوضع للمرة الأولى إلى جوار اسم مرسي عطاالله "المحرر العسكري".
هنا كان الإعلام يؤدي دورًا بالغ الأهمية في المعركة، فقد كان العدو الصهيوني يطالع صفحات الأهرام خاصة والصحف المصرية عامة، لاستقاء المعلومات وتحليلها، لدرجة أن وحدة بالاستخبارات الصهيونية كانت تحلل صفحة الوفيات، لتتبع خريطة العائلات المصرية، خاصة عائلات القادة والضباط. وكان أن عممت وكالة أنباء الشرق الأوسط بالخطأ، خبرًا كان موجهًا للقيادات المسؤولة فقط عن رفع درجة استعداد القوات، التقطته أجهزة الرصد لدى المحتل، فجاء تهديد إليعازار، فكان رد عطاالله في الأهرام تمويهًا وتداركًا.
يوم السبت 6 أكتوبر، الساعة 12 ظهرًا، أي قبل ساعتين من العبور، اجتمع المتحدث الرسمي مع هيئة مكتبه، وأخرج البيانين، وأجرى بروفة تواصل لاسلكي مع الرقيب اللواء طلعت خالد، وكيل وزارة الإعلام، أملى عطاالله عليه البيان، دون أن يعلم أنه سيتلقى أمر إذاعة الأول بعد أقل من ساعتين.
ومع العبور العظيم، وتهاوي دفاعات المحتل، صدر البيانان كما سمعهما الجميع، ليبدأ البيان الثالث بسم الله الرحمن الرحيم، كاشفًا حقائق العبور، والانتصارات، التي أعادت لمصر كرامتها، وللإعلام المصري مصداقيته، فبات إعلام العالم يتابع بيانات القوات المسلحة بثقة مطلقة.
أنهى البطل مرسي عطاالله، خدمته العسكرية بعد انتصار أكتوبر المجيد، وبعد أن أدى واجبه على أكمل وجه، كغيره من أبطال مصر، خرج محملًا بكنز من الخبرات.. وحجم التضحيات بالروح والدم من شهداء مصر في سبيل تحرير الوطن، جعله يظل طيلة عمره مقاتلًا دفاعًا عن الوطن، وفاءً لدماء الشهداء، وإدراكًا لتنوع الأسلحة الجديدة في حروب تزييف الوعي.
عمل عطاالله بالديسك المركزي للأهرام، ومديرًا للتحرير، وكتب العديد من مانشيتات الأهرام المهمة، أبزرها مانشيت "كارثة عربية مفزعة"، تناقلته عن الأهرام وكالات الأنباء العالمية، وكان ذلك عام 1990، عندما جاءه خبر غزو العراق للكويت، وهو مدير لـ«الشفت المسائي» يومها.
أسس عطاالله صحيفة الأهرام المسائي، عندما اختاره الكاتب الصحفي القدير إبراهيم نافع- رحمه الله- رئيس مجلس إدارة الأهرام، لتأسيس ورئاسة تحرير صحيفة مسائية، فحقق نجاحًا كبيرًا، جعلها في غضون عام من أهم الصحف الأعلى توزيعًا في مصر.
عطاالله المقاتل، واصل مسيرته، رئيسًا لمجلس إدارة الأهرام، وقبلها رئيسًا لنادي الزمالك، ومؤسسًا لمجلة الزملكاوية وغيرها من التجارب المهنية الرياضية. عند توليه رئاسة مجلس إدارة الأهرام، سعى لتحقيق إصلاحات حقيقية، فبدأ التطوير، ووضع ضوابط، لمن يعملون في الفضائيات، دون تقديم جهد داخل الأهرام، دعاهم لتوفير جزء من وقتهم للأهرام أو الحصول على إجازة من دون مرتب، فثار عليه البعض، لكنه كان مقاتلًا، يومها كتبت مقالًا مؤكدًا ضرورة إحداث توازن يضمن العطاء المهني للمؤسسة الأم، إلى جانب مساعي تحسين الدخل من الخارج، فاتصل بي شاكرًا بود، موضحًا بعض الزملاء العاملين في الفضائيات لقاء أجر بالملايين، يحمّلون المؤسسة فاتورة هاتف مكالمات دولية من مكاتبهم تصل إلى 200 ألف جنيه، لإعداد حلقات برنامجهم، وهو ما دفعه لاتخاذ قرارات حاسمة.
ترك منصب رئاسة مجلس الإدارة، وواصل كتابة عموده اليومي "كل يوم"، لم يوقفه عن القتال في جبهة الوعي مرض، فكان مقاله قبل الأخير يوم 12 فبراير حول زلزال جنوب تركيا وشمال سوريا بعنوان "عندما تغضب الطبيعة"، وكان آخر مقالاته يوم 13 فبراير قبل رحيله بساعات.
في 2011، وما تلاها من أحداث شهدت محاولات النيل من جيش مصر، كان مقاتلًا، مؤكدًا أن القوات المسلحة التي خرجت منها طليعة ثورة 1952، هي التي حمت ثورة 25 يناير وشبابها، وبدونها لم يُكتب لها النجاح، وسرعان ما وقف رافضًا انحراف الإخوان بالسلطة، داعمًا لثورة 30 يونيو، التي حافظت على هوية الدولة الوطنية.
رحم الله أستاذنا المُقاتل في جبهة تحرير الأرض، وفي جبهات بناء حصون الوعي، وأسكنه فسيح جناته.