
جبران والآنسة (لا)
بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني
خفض صوت التليفزيون محاولًا تجاهل إعلان المذيع عن يوم حار غدًّا.. وجوه الفتيات تتحرك أمامه برشاقة وخفة على شاشة الكمبيوتر.. تتقافز رسائلهن على شريط الدردشة أسفل موقع التواصل الاجتماعي.. لكن لا رغبة به للحديث مع أي منهن.. كن كثيرات على نحو ملحوظ.. ربما أكثر من كل ليلة.. كأن الحرارة تقودهن إليه.. معظمهن مواطناته.. هو لا يميل لمصادقة الغريبات.. ليس من العدل أن تجهد ذاتك في معرفة شخص ستظل طوال الوقت غير قادر على التفكير في إمكانية الوصول إليه.. ببساطة لا يملك مالًا للسفر ولا لتأمين خط إنترنت مستقل عن (محل الكمبيوتر) تحت بيته الذي يوصل الخدمة لعشرين شخصًا.. يصعب إجراء اتصالات منتظمة بهذه الخدمة البطيئة جدًّا والمتقطعة جدًّا.. وبالرغم من كل ذلك لفت نظره جملة استهلت بها الحديث (لا).. لم تقل سوى (لا)..
وجد نفسه يسألها :
- (لا) ؟ لماذا (لا)؟
- قالت أرسلتها بطريق الخطأ لكنني أحب كلمة (لا).. كانت فاتحة الخير علي في مناسبات كثيرة.. كلما قلت (لا) في بداية عمل حصلت عليه.
- وماذا تعلملين يا مدام (لا) ؟
- تعديل بسيط.. أنا الآنسة (لا).. أعمل كوافيرة من منازلهم.. كلما قلت لعميلة (لا) يعجبني مظهرك سأغيره تقبل استخدامي وتعطيني بقشيشًا جيدًا.. أنا ألون وجوههم بسلطان (لا).
- هل لو طلبت منك أن نتحدث قليلًا ستقولين (لا) ؟
- نعم.. كي تصر أكثر على محادثتي..
- الأمر بيدك آنسة (لا).
لم يسألها عن اسمها.. فضل أن يسميها الآنسة (لا) كما سبق وأسمى مصطفى أمين فتاته.. وراقها الأمر كثيرًا لأنها تتفاءل بهذه الكلمة.. ولم يزعجه -أمام شخصيتها وعشقها الشديد للألوان وثقافتها المفاجئة بمدارس الفن الكلاسيكية والمحدثة- أنها تحدثه من حي الفنار المتواضع في بيروت بينما هو يسكن شقة صغيرة في حي القلعة المصري.. ولا أمل في أن يزور أحدهما الآخر في المستقبل القريب.. هو يراجع لغويًا نصوص عربية لكُتاب مغمورين.. يحيا بصعوبة لكنه يفعل ما يحب كشاعر لم يقرأ له أحد..
أدركا بسرعة أن روحيهما متشابهتان جدًّا.. ربما لأن كليهما وحيد.. يشعر بجمال الحياة رغم القسوة وكأنه يتقن مصادقة الألم ويحترف مصاحبته حتى يختفي الشعور بالضيق.. بدأ يكتب شعرًا فيها حين أهدته صورًا حديثة لها بـ (فستان) وردي من تصميمها على شاطئ البحر المتوسط..
بعد أحاديث يومية تمتد لساعات بدآ يخافان من هذا الارتباط القوي بينهما.. وبدأت مساحات الحرية تقل في حياتيهما.. عندما صار كل منهما يعتقد أنه يفعل كل شيء في حياته إما لكي يرضى عنه الىخر أو لا يغضب منه ضاقت عليهما الأفعال.. بحثا عن تفسير لما يحدث لهما.. وقررا أن يفترقا لأن ما يحدث فوق قدرتهما على احتماله.. مرت ثلاث ليلات لم ينم أحدهما أبدًا.. في منتصف الليلة الثالثة جاءته رسالتها :
"أظنني سأنام بعد كتابة رسالتي هذه.. أدرك أن أهلي أسموني (مي) لسبب مهم هو أنهم يعلمون أنني سأحبك يا (جبران) مهما حاولت الهرب منك.. نم الآن فالحب يرعى من يعترف به"
كانت المرة الأولى التي يعرف فيها اسمها.. واندهش جدًّا أنه جبران الذي أحب مي من جديد وبنفس الطريقة.. لم يحاولا البعد مرة أخرى واستمرءا عذابات الأفعال الضيقة بفعل الحب بدون أمل لقاء.. حتى تغيرت الصور على جدران توقعاتهما.. الآنسة (لا) ستكون ماكيرة ممثلة لبنانية ناشئة حصلت على دور في فيلم تُصور بعض مشاهده في القاهرة.. سترى جبران بعد خمس سنوات من الحب المكتوب.. وهو الشيء الوحيد الذي فكرت به رغم أن الأمر كان يمثل نجاحًا مهنيًا كبيرًا لها.. أما جبران فشعر بقلق شديد لدرجة أنه نام 48 ساعة متواصلة دون سبب واضح..
وأخيرًا حضرت.. كانت القاهرة جميلة جدًا بتفاصيلها الكثيرة بالنسبة لمي.. كانت التفاصيل أكثر مما توقعت لدرجة أن أول كلمة قالتها لجبران في أول اتصال هاتفي بينهما : (مدينتك تفاجئني مثلك).. اتفقا على اللقاء غدًّا في بئر كليوباترا الذي كانت تلقى أنطونيو سرًّا عنده بالقرب من أبي الهول.. حيث كان تصوير الفيلم في اليوم الأول بالقرب من الهرم الأكبر.. ذهبت مبكرة.. كانت ترتدي ذات الـ (فستان) الوردي أمام المتوسط.. رآها من بعيد.. تشبه صورها جدًّا.. لكنها عصرية أكثر مما كان يتوقع.. تخيل أن الكتابة أعطت لإحساسه بها إيقاعًا أبطأ وأقدم.. لم تكن تمسك في يدها لوحة مفاتيح.. كانت واقعية تمامًا.. ارتبك حين رن هاتفها بنغمة (مايكل جاكسون).. هذا أقسى مما تخيله.. لكن فكرة أن هذا الجمال يمكن لمسه جعلته يحبس كلتا يديه في جيبي الجينز الأزرق القديم.. اقترب فرأته.. كان مختلفًا عن الصور.. أكثر شحوبًا وأنحل جسدًا لكنه كان لطيف الابتسامة.. شعرت ببعض الغرابة لكنها تجاوزتها سريعًا.. ركضت نحوه.. صافحته وقبلت خده الأيسر قبلة خاطفة.. أما هو فلم يخرج يديه من جيبيه.. تحدثا طويلًا محاولان كسر الجليد بينهما.. وألقيا نقودًا معدنية في بئر كليوباترا وتمنى كل منهما سرًّا أن يجد ما يبحث عنه كاملًا..
كانا يلتقيان لثلاثة أيام قضتها في القاهرة كل يوم في ذات المكان يتحدثان ويلقيان النقود ويتمنيان.. يفترقان على وعد باتصال هاتفي مسائي.. لكن كل منهما كان يشعر بغربة عن الآخر عند اللقاء أو الحديث.. وما إن يفترقا أو يغلقا خط الهاتف حتى يقتلهما الشوق للقاء أو حديث آخر.. كان الأمر محيرًا جدًّا.. لكن في المطار بدت الأمور فجأة واضحة جدّأ.. ذهب لوداعها.. وقفا أمام باب صالة المسافرين حيث يُمنع دخوله بعدها.. قالت :
- سعدت بهذه الأيام الثلاثة جدًّا رغم غرابة ما يحدث.
- مي.. كان يجب أن نتحدث قبل ذلك.. ماذا بعد؟
- لا أعلم.. أنا مرتبكة جدًّا بين صورتك وصورتك..
- أنا أيضًا.. لكنني الآن وأمام هذا الباب الذي سيعيدك داخل شاشة الكمبيوتر ثانية لأجل لا أستطيع تسميته.. أريدك هنا وللأبد.. لدي استعداد للمخاطرة بأي شيء مقابل إغلاق هذا الباب..
تزوج جبران من مي في كنيسة قديمة في عمق القاهرة الجميلة.. وعرفا أن كل ما نكتبه نفعله ولكنهما احتاجا لمزيد من الوقت كي يكتشفا أن أحلامهما تحققت..