

د. حسام عطا
لا أرض أخرى.. الأوسكار بين اليهودي التائه واللاجئ الأبدي.. قراءة درامية
يفعلها الإبداع على الدوام، إذ يبقى الفن الحقيقي قادرا على الإشارة نحو العدالة والحرية والقيم الإنسانية.
وإذ يستشرف الفن رحيق التاريخ والحق ويستهدف سلام الإنسان، يأتي فيلم لا أرض أخرى ليفوز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل، وذلك في النسخة السابعة والتسعين من الجائزة الأبرز عالميا في لوس أنجلوس مارس 2025. إذ تنحاز هوليوود والعقل الأمريكي الإبداعي إلى الحق الإنساني، هذا النور الذي يبقى الأوسكار في دوره التاريخي الذي يتناقض مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وإنحيازها الدائم لإسرائيل حتى في حربها الأخيرة على قطاع غزة، والتي أسماها العالم الحر حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الأكثر شراسة، والتي هي حقاً عار على الإنسانية. وفي ظل إيقاف إسرائيل لعملية دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وفي ظل تعليقها الغريب على مخرجات القمة العربية في مصر، وعلى خطة الحل وإعادة إعمار غزة في ضوء رؤية تكاملية لعملية السلام، وفي ظل الإشارة الأمريكية لخطة مصر بشأن غزة والتي وافق عليها الإجماع العربي، ووصفتها الإدارة الأمريكية بأنها خطة غير واقعية، وكذلك الإشارة الإسرائيلية لرفض إسناد إدارة قطاع غزة للسلطة الفسلطينية. وفي ظل ما يبدو واضحاً جلياً بشأن التصدع الحاد في السياسة الدولية وتعثر الدبلوماسية، وعدم الإكتراث بالمنظمات الأممية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، يأتي فيلم لا أرض أخرى ليستشرف الغد الممكن المستحيل معاً في فلسطين عبر الرؤية الإنسانية للتعايش المشترك بين البشر. ولعل عملية إنتاج الفيلم التي يشترك فيها فلسطيني وإسرائيلي معاً هما باسل عدرا ويوفال إبراهام، قد حققت عبر هذا التعاون خطوة هامة في طريق فشلت فيه إسرائيل منذ نشأتها حتى الآن في محاولاتها المستمرة للحوار الثقافي والفني مع العرب والفلسطينيين. ولكنه تعاون رفضته إسرائيل لأنه تعاون حقيقي إنساني الطابع وليس ذلك النوع من التطبيع الثقافي الذي سعت إليه طويلاً ولم تحصل عليه. لأن تعاون عدرا الفلسطيني وإبراهام اليهودي الإسرائيلي هو تعاون أفراد ينتمي كل منهما إلى الإنحياز الإنساني للحقوق المشروعة. ولأن التعاون الاقتصادي والمعاهدات بين الكيان الصهيوني وبين السلطة الفلسطينية ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية واتفاقات إبراهام الأخيرة مع عدد بارز من دول الخليج مثل الإمارات والبحرين، لم تطفأ بعد ألم وحزن وعدوانية وشراسة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين، فلم يزل الضمير الحي للشعوب العربية حاضرا في رفض التطبيع الثقافي ورفض أية محاولات لاعتراف نسبي بدولة الاحتلال على الصعيد الخاص بعالمي الفن والكتابة في الوطن العربي. ولذلك فإن السيد ميكي زوهار وزير الثقافة في دولة الاحتلال قد تصرف بطريقة خاطئة إذ أهدر فرصة تاريخية في مجال التطبيع الثقافي والعمل الإبداعي المشترك والذي سعت إليه حكومته سنوات طوال، وهي فرصة الاعتراف الإنساني عبر الفن، وهو إعتراف الضمير الحي. إذ إن الضمير المصري والعربي ظل يعرف أنه بدون حل عادل للقضية الفلسطينية فلا حوار ولا اعتراف ثقافي فني، إذ يبقى هذا السلام منقوصا للأبد طالما لم يحصل على هذا الاعتراف. ولأن فيلم لا أرض أخرى كان فرصة ذهبية لإسرائيل، فقد أهدرتها تماما بتجاهل وسائل الإعلام للفيلم هناك، وبإعلان وزير الثقافة في حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة بأن الفيلم والجائزة لحظة حزينة في تاريخ السينما العالمية، مما يخرج هذا الفيلم من إمكانية التفسير بأنه تعاون فلسطيني إسرائيلي فني مشترك، لأنه تعاون أفراد يمثلون أنفسهم وتجربتهم الإنسانية الحرة. وإذ نجح الفيلم في دفع عدد من كتاب تيار الممناعة والصمود في باب الحوار الثقافي مع الكيان الصهيوني للكتابة عنه والاحتفاء به، فذلك لأنه تعاون فني بين بشر سليم الفطرة جمعهم النزوع الطبيعي للفطرة الإنسانية، ولذلك فالكتابة التي تحتفي بهذا الفيلم هي ذات الكتابة التي تفهمت منطق البشر الحر، فليس هذا الفيلم إنتاجا فلسطينيا إسرائيليا مشتركا كما نشرت عدد من المواقع الإخبارية العربية بدون حذر. إنه تعاون أفراد ينظرون نحو الغد، ويحلمون بالعيش المشترك بعيدا عن خطط التهجير القسرى والإبادة الجماعية. أما ما سبب إزعاجا للكيان الصهيوني بشأن الجائزة التي حصل عليها الفيلم فيأتي لأن الفيلم يسجل بشكل توثيقي ممارسات التهجير للفلسطينين في الضفة الغربية قبل اندلاع طوفان الأقصى بسنوات خمس، رغم حضور الالتزام التام من السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والفلسطينين هناك باتفاق السلام، وبالسعي نحو حل الصراع وغياب تام لفكرة المقاومة من السلطة التي تدير القطاع فلسطينيا. ومع ذلك تقوم إسرائيل بتدمير منتظم للمنازل الفلسطينية في الضفة الغربية. ولا شك أن جيل باسل عدرا المولود في فلسطين 1996، وإبراهام المولود هناك قبله بعام 1995، هو جيل نشأ على أوضاع مستقرة بحكم قوة الأمر الواقع، لا قوة ما يجب أن يكون. إلا أنه جيل مختلف نشأ وهو يسمع ويرى يوميا أحاديثا عن إمكانية التعايش المشترك. ومن هنا وعبر التعاطف الإنساني والألفة التي نشأت بين عدرا وأبراهام تم هذا العمل، وسهل الصحفي الإسرائيلي المتمتع بحقوقه المدنية هناك، للفلسطيني المبدع توثيق أحداث الإخلاء القسرى في منطقة مسافر يطا بالضفة الغربية، ومكنه أن يوثق لحظات هجوم جنود إسرائيلين على المدنيين المساكين هناك من أجل إخلاء المنطقة لصالح إنشاء منطقة تدريب للجيش الإسرائيلي. إنها الإنسانية ذاتها التي تفهمها العرب جميعهم في شاعر فلسطين الكبير محمود درويش إنها إنسانية ريتا الفتاة الإسرائيلية اليهودية التي قال فيها محمود درويش: إني أحبك رغم أنف قبيلتي ومدينتي وسلاسل العادات، ولكن درويش فارقها عندما ذهبت للجندية في سلاح البحرية الإسرائيلية، وكما قال في أكثر من تصريح تبقى ريتا أسما خياليا ولكنها لا تخلو من ملامح التجربة الإنسانية، لكنها حقا كانت واحدة من خيبات الأمل للشاعر الكبير. إنها قصة الحب المشترك بين مراهق فلسطيني ومراهقة إسرائيلية جمعتهما طبيعة الحياة اليومية المتداخلة المشتركة، لم يكتب درويش نهايتها مثلما حدث في روميو وجوليت لشكسبير، بل كتب الأمر الواقع نهايتها مع إدراك درويش لعلاقة ريتا بالبندقية، إلا أن خيال وحرية الشاعر هو تعبير حقيقي عن قصص ممكنة للحب تحدث عند التعايش المشترك الإلزامي بين شعبين هما في حالة صراع حتمي مستمر، بينما حياتهما متداخلة جدا. ورغم أن الأمر الواقع ومعطيات التاريخ المعاصر وانحياز العالم الغربي والولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل، ورغم كل أحاديث الحلول الممكنة، يبقى الإصرار الحادث الآن على التهجير القسري والتطهير العرقي حلا غير عملى على أرض الواقع. فرغم الصبر الكبير لمصر الكبيرة القادرة، وتداعيات الواقع وشروطه القاسية، فإن الشاب إبراهام حقا هو الذي رفع راية إدراك إسرائيلي واقعي لاستحالة نجاح خطة اليمين الإسرائيلي الحالي في عملية التهجير القسري والتطهير العرقي للفلسطنيين، وعلى الحكومة الإسرائيلية ودوائر الدعم الغربي والدعم الأمريكي المطلق إدراك ذلك، لأن تلك الخطة حقا ضد الإنسانية وضد منطق التاريخ، ولأن الفلسطنيين هم جزء من كل كبير من العرب والمسلمين، وليسوا قبائل بدائية، وليست أرض فلسطين صحارى ومستنقعات كما تصورها الرواية الصهيونية، وكما حكاها اليهودي التائه الذي يحاول إعلان الفلسطيني كلاجئ أبدى. ولذلك فإن اختيار إبراهام الصحفي الفلسطيني لأخوة الإنسانية مع عدرا الفلسطيني هو الإختيار السليم وفقا لفكرة الصدمات الثقافية والجوار البشري الأنثربولوجي الذي استجاب له عدد من طاقم الفيلم الإسرائيليين أيضا، من أجل إعلان رفضهم لفكرة التطهير العرقي، وهو المستقبل الممكن عبر التعايش الإنساني المشترك القادر على تغيير الأمر الواقع، وتحويل الحقوق المشروعة إلى واقع ممكن، رغم كل شروط الأمر الواقع بالغة القسوة في الصراع الدائر الآن في فلسطين، وهو الصراع الجزئي المشتعل في الصراع العربي الإسرائيلي التاريخي، والذي لن تقدر إسرائيل على حسمه عبر التطهير العرقي بلا شك، بكل حسابات الأمر الواقع أيضا وبكل إنحيازات السياسة الدولية في عالم ما بعد السياسة. وهكذا يبقى الإبداع حاضرا كي يرشد الجميع نحو الحلول الإنسانية، حيث حقا وصدقا وتاريخا ومستقبلا لا أرض أخرى لأهل فلسطين إلا أرضهم فلسطين الحرة لا مزيد.