12:00 ص - الثلاثاء 5 أغسطس 2014
وجدت الفرشاة صعوبة وهى تنساب بين تجاعيد عينيها.. غارت بعض ألوان الظلال فى أخاديد من الصور الجميلة.. وإنساب الكحل يرسم طريقًا فاتنًا لنظرة شقية لم تكبر.. مازالت عيناها جميلتين.. أحمر شفاه زهرى ارتجف مرارًا كلما حاولت التدرب على خطاب الشكر الذى ستلقيه بعد ساعات معدودة.. يبدو أنها اعتادت الصمت أو أن الصمت يقول أكثر..
طرقات ابن أختها على باب غرفتها.. دعته للدخول..
- جميلة بحق..
- لا تبالغ.. متى كان هناك جميلات بعد التسعين؟!..
- الآن وأنا أراكِ أمامى..
- لم أعد أستطيع مشاهدة تفاصيل أفلامي التى مثلتها.. هل مازلت أشبهنى يا كريم ؟
- مهما طال بنا العمر نظل نشبه أنفسنا..
- تعودوا على رؤيتى صامتة بلا صوت.. من الأسهل أن أدعى الخرس.. فالكلام صعب جدًّا يا بُني..
قبل أن ترتدى ثوبها العنابي الجميل أخذت تراجع أشرطة افلامها الصامتة الثلاث.. هى الشخص الوحيد الباقى على قيد الحياة.. كانت طفلة فى الحادية عشرة من عمرها.. موهوبة فى جذب الآخرين بعينيها الواسعتين الشقيتين.. لذا جذبت ابن عمها المخرج لأن يكلم الجمهور بعينيها.. وفعلًا كانت شريفة صدقي الطفلة التى حركت الأحداث بصدق عينيها البريئتين.. حاولت بالأمس أن تدقق النظر فى وجه تلك الطفلة لكن عينيها لم تسعفاها.. هى فقط تريد أن تعرف هل ما زالت تشبهها..
ارتدت ثوبها المساير لخطوط جسدها القديمة فى حنان.. يتسع حين تتسع أمارات السن الكبير ويضيق حين تتضيق الأمارات.. لم يكن للسنما بريق فى الوقت الذى مثلت فيه شريفة.. فأفلامها الثلاثة انتاجًا أهليًا فى باريس.. عرضت فى صالات عرض يملكها أصحابها .. لكنها اليوم بعد مرور ما يقرب من ثمانين عامًا تجد صورها فى صفحات الكثير من المجلات وبرامج التليفزيون كآخر من بقى من السينما الصامتة فى البلاد.. ظهرت صورتها إلى جوار صورة تلك الطفلة التى كانتها ومع ذلك لم تعرف هل مازالت تشبه نفسها أم لا !..
هى تذكر كل التفاصيل الماضية لكنها رفضت السماح بإجراء أي حوار إعلامي معها.. لم يكن هناك سببًا واضحًا لذلك.. لكنها ترفض بشدة.. تعتبر أن التواصل مع هذا العالم الجميل بالكلام يفسده على نحو ما.. حتى أن ابن عمها طلب منها فى أحد مناماتها الكثيرة هذه الأيام أن تصمت عن السر.. لذا صمتت..
دقات ابن أختها على الباب مرة أخرى.. تعلم أنها تأخرت.. دقت الساعة سبع دقات فى الخارج منذ فترة.. كانت وحيدة منذ مات زوجها من عشرين عامًا حتى دعاها ابن أختها لتقيم مع أسرته بعد عودته من لندن.. هو أجمل ما حصلت عليه.. تحكي له كل ليلة عن أفلامها الثلاثة وعالمها القديم ولا يمل حتى تغرق هى فى النوم..
كان ينتظرها فى سيارته.. جلست إلى جواره.. كانت زوجته تجلس خلفها .. ربتت على كتفها.. قالت : (تبدين جميلة)..
فى المسرح المفتوح بالأوبرا جلست فى الصف الثالث وحدها.. حيث أوصلها المضيف برفق.. طلبت أن يكون ابن أختها معها.. رفض المضيف بداية ثم تحت تاثير سحر سنها مع عينيها المعبرتين ببراءة وافق أن يغير مكانه ليجلس خلفها تمامًا.. سيكرمونها بعد قليل كأحد وراد السينما.. هى الناجية الوحيدة من عصر سينما تحترم الصمت.. تأكدت من خطاب الشكر فى حقيبتها السوداء الصغيرة.. بدأت المراسم.. الكثير من الخطابات والكثير من الموسيقى.. كانت منزعجة جدًّا من كل هذه الضوضاء رغم جمال وإبهار الألوان والحركة.. حتى أنها لم تلتفت لاسمها حين طلبوا منها الصعود لاستلام درع التكريم.. ربت المضيف على يدها كي يوصلها لأعلى المسرح.. لكنها طلبت أن يتولى ابن اختها ذلك.. تسلمت الدرع.. صفق الجميع فى هيبة حضرة الزمن مجسدة فيها.. أعطت الدرع لمرافقها.. شرعت فى قراءة ورقة الشكر.. لكنها لم تتمكن من الكلام .. انتظرها الجميع بلهفة.. تصدرت عيناها المعبرتين عن الذعر والحزن كل الكاميرات.. تجمدت.. بكت وتركت المسرح.. تسلم ابن أختها الميكروفون قال: (اعذروها فقد شكرتكم بطريقة الفن الذى كرمتموها عليه)..
فى اليوم التالى تصدرت صورة عينيها بعض الصحف وتحتها خبر دخولها غرفة العناية المركزة.. كتب صحفي مشاكس فى إحدى الصحف : (قلبها الصغير لم يتحمل عالم لا يحترم سوى الضجيج)..