عاجل
الأربعاء 5 فبراير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
محاولة لفهم عصرى للقرآن الكريم

محاولة لفهم عصرى للقرآن الكريم

تظل كتابات مصطفى محمود «27 ديسمبر 1921 - 31 أكتوبر 2009»، ودعوته إلى تجديد الخطاب الدينى من الرؤى المهمة التي استندت إلى إعمال العقل والإيمان بالفطرة معًا فى قراءة النص القرآنى.



ويُعد كتابه «القرآن.. محاولة لفهم عصرى» من أهم كتبه التي أسست لخطاب لا يُصادر على السؤال بل يسعى إلى الاستماع الذي يؤدى إلى الفهم والوعى، والإيمان العميق.

 

العقل والفطرة

تناول فى كتاباته العديد من القضايا الفكرية والدينية وبدأ رحلته بكتابه الشهير «رحلتى من الشك إلى الإيمان»، ثم كتاب «حوار مع صديقى الملحد»، و«لغز الحياة»، و«لغز الموت»، والعديد من الكتب التي دعت إلى إعمال العقل والفطرة معًا فى تجديد الخطاب الدينى فيقول فى كتابه «رحلتى من الشك إلى الإيمان»: «إن الله أنزل الإنسان إلى الدنيا بفضول مفطور فيه ليتعرف على مجهولاتها ثم يتعرف على نفسه، ومن خلال إدراكه لنفسه يدرك ربه، ويدرك مقام هذا الرب الجليل فيعبده ويحبه، وبذلك يصبح أهلاً لمحبته وعطائه، ولهذا خلقنا الله»، هكذا كتب مصطفى محمود منطلقًا من المعنى القرآنى للآية الكريمة «وفى أنفسكم أفلا تبصرون» سورة الذاريات، آية 21.

ملامح خطابه الفكرى

اعتمد مصطفى محمود على إعمال العقل والفطرة معًا فى مناقشة قضية الإيمان من خلال رؤية عميقة تؤكد ما وقر فى القلب، وصدقه العمل، فأما حديث الفطرة فيقول فى كتابه «رحلتى من الشك إلى الإيمان»: «الشعور بالحق يملؤنا تمامًا، وإن كنا نعجز عن الوصول إليه، إننا نشعر به ملء القلب وإن كنا لا نراه حولنا، وهذا الشعور الطاغى هو شهادة بوجوده، إننا وإن لم نر الحق، وإن لم نصل إليه، وإن لم نبلغه فهو فينا وهو يحفزنا، وهو مثال مطلق لا يغيب عن ضميرنا لحظة، وبصائرنا مفتوحة عليه دومًا، ولحظة التأمل الصافى تقودنا إليه، والعلم يقودنا إليه، ومراقبتنا لأنفسنا من الداخل تقود إليه، وبصائرنا تهدى إليه».

الضمير  قدس الأقداس

والدين هو الذي يُقيم الضمير، والذي يراه كاتبنا قدس الأقداس، وقد تركه الله حُرًا بالفعل فيقول مصطفى محمود فى كتابه «رحلتى من الشك إلى الإيمان»: «كل واحد يتصرف على وفاق طبيعته الداخلية فيكون فعله هو ذاته، وليس فى ذلك معنى من معانى الجبر، لأن هذه الطبيعة الداخلية هى التي نسميها أحيانًا الضمير، وأحيانًا السريرة، وأحيانًا الفؤاد، ويسميها الله السر «يعلم السر وأخفى» سورة طه آية 7».

ونقول عنها فى تعبيراتنا الشعبية عند الموت «طلع السر الإلهى، أى صعدت الروح إلى بارئها، هذا السر هو ابتداء حُر ومبادرة أعتقها الله من كل القيود ليكون فعلها هو ذاتها، وليكون هواها دالاً عليها».

شوق الروح إلى الحق

ويؤكد مصطفى محمود فى خطابه على فكرة التأمل، والاستبصار بالنفس، وقراءة أحوالها فيقول فى كتابه «رحلتى من الشك إلى الإيمان»: العجب كل العجب لمن يسألنا عن برهان على وجود الله، على وجود الحق، وهو نازع إليه، بكُليته مشغوف به بجماع قلبه، فالحق فى القرآن هو الله، وهو أحد أسمائه الحُسنى، وكل المؤشرات الداخلية فى النفس الإنسانية تدل عليه، نراه رؤية بصيرة لا رؤية بصر، وتبرهن عليه أرواحنا بكل شوقها وبكل نزوعها.

إعمال العقل

ويعتمد خطاب مصطفى محمود بعد حديث الفطرة على إعمال العقل، ويتجلى هذا فى سائر كتاباته، ومنها كتابه «القرآن محاولة لفهم عصرى» فيقول متأملاً قضية الإيمان «إن الحرية ثغرة كبيرة يدخل منها الشك، ويتسلل منها هواة الجدل من الملحدين فأول ما يقوله الواحد منهم ليقيم الحُجة على الدين أن يهتف محتجًا «إذا كان الله قدَّر علىّ أفعالى فلماذا يحاسبنى؟ وإذا كان كل شىء يجرى فى الدنيا بمشيئة الله فما ذنبى؟»، وهنا دعا مصطفى محمود إلى تقديم جواب شافٍ من الفلسفة ومن الدين ومن صميم القرآن ذاته فيقول فى كتابه «القرآن محاولة لفهم عصرى»، «إن حرية الإنسان حقيقية برغم ما يقوم حولها من حدود ومقاومات، وأن الإنسان حر حرية مطلقة فى منطقة ضميره فهو يستطيع أن يُضمر ما يشاء، وحر حرية نسبية فى منطقة الفعل والعمل بحسب ما يقوم حوله من حدود ومقاومات، والقرآن يقرر أن حرية الإنسان كانت بمشيئة الله ورغبته، وأن ما يجرى من حرية الإنسان لا يجرى إكراهًا من الخالق، ولا إكراهًا للمخلوق، «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعًا أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» سورة يونس آية 99.

لقد أراد الله للإنسان أن يكون حُرًا مختارًا «لا إكراه فى الدين قد تبين الرُشد من الغَيّ» سورة البقرة آية 256. وبهذه الحرية التي قبلها الإنسان مختارًا حقت عليه المسؤولية والمحاسبة، وأشار القرآن لهذا فى أكثر من آية، ومنها «كل نفسٍ بما كسبت رهينة» سورة المدثر آية 38.

تأمل وتدبر

ومن ملامح خطاب إعمال العقل فى كتابات مصطفى محمود أنه لم يقف فى جمود أمام تفسير المفسرين لآيات القرآن الكريم، وإنما وقف موقف المتأمل على أساس أن تدبر معانى القرآن الكريم واجب وتكليف «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» سورة «محمد - آية 24».

ومن هذا التدبر ما قاله مصطفى محمود عن فكرة الإهباط من السماء أى هبوط آدم إلى الأرض بعد أن عصى ربه فغوى فيقول فى كتابه «القرآن محاولة لفهم عصرى»: «إن النشأة لم تكن من خارج الأرض ولا من مكان فى السماوات فلا إهباط إذن، وإنما هو إهباط معنوى ومجرد انتقال من مكان على نفس الأرض دون مبارحتها»، وقد اعتمد فى تفسير ذلك على الآية الكريمة: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» سورة «هود - آية 61».

بل إنه يناقش معنى الشجرة التي أكل منها آدم وحواء فعصيا لأنهما خالفا الأمر الإلهى «فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة» سورة «الأعراف - آية 19».

فيتساءل مصطفى محمود عن الشجرة: هل هى رمز أم حقيقة، ثم يناقش كلام بعض المفسرين فى قولهم إنها شجرة المعرفة وأنها رمز فيقول: «هو تفسير غير مقبول، فالله لم ينه الإنسان عن طلب المعرفة، بل على العكس يحضه على طلب العلم، و«قل رب زدنى علما»، سورة «طه - آية 114»، لكن مصطفى محمود رغم رفضه لكلام بعض المفسرين فإنه يقول: «لا يمكن القطع فى هذه المسائل فالعلم لله وحده، وقصة الخلق ما زالت من أمور الغيب، وهى محل نظر واجتهاد لا أكثر، ونحن مأمورون بهذا الاجتهاد أمرًا «قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» سورة «العنكبوت - آية 20».

العلم والقرآن

ويقول مصطفى محمود عن تناول القرآن للمسائل العلمية: «القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب، وهو حينما يشير إلى مسألة علمية، يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة، والعبارة التي تومض فى العقل كبرق خاطف، قد يفوت فهمها وتفسيرها على معاصريها، ولكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرحانها ويثبتانها تفصيلاً، ومن هنا فهو يختلف أيضًا مع المفسرين حينما قالوا إن وصف الجبال فى هذه الآية يعنى وصف ما يحدث لها يوم القيامة «وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب»، سورة «النمل - آية 88»، فيقول: «هو تفسير غير صحيح لأن يوم القيامة هو يوم اليقين والعيان القاطع فيقول الله تعالى: «ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفًا» سورة «طه - آية 105».

وهذه هى القيامة بحق، أما الجبال التي يحسبها الإنسان جامدة وهى تمر مر السحاب، فهى وصف الجبال فى الدنيا، فكرة الحركة الخفية من وراء السكون الظاهر، فما الأشكال الجامدة إلا وهم، وكل شىء يتألف من ذرات فى حالة حركة، والأرض كلها بجبالها فى حالة حركة.

هكذا كان إعمال العقل سمة من سمات كتابات مصطفى محمود، ومن هنا تقول إننا فى حاجة ملحة إلى تجديد الخطاب الدينى، ودراسة كل الكتابات التي تم طرحها فى هذا المجال، ولاتزال الكتابات تترى فنقدم للأجيال الجديدة فكرا، وإجابة عن أسئلة شائكة، ربما تظل كامنة فى الضمائر وقد تظهر إلى النور فى أشكال سالبة من الإنكار، والعزوف عن قضية الإيمان والعيش بعيدا عن قدس الأقداس، عن الضمير الذي جعله الله حرًا بالفعل.

اللغة ونبض القلب

ولابد من الإشارة أيضًا إلى أهمية دراسة اللغة العربية ومناهج تدريسها لأن الإغراق فى عامية مبتذلة فى لغة الحياة اليومية أبعد خصائصها الأصيلة وأسرارها عن نبض القلوب فلم تعد تخفق لها، وتحس حلاوتها فيقول مصطفى محمود فى كتابه «القرآن محاولة لفهم عصرى» إن الإغراق فى عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا، ثم أسلوب الأداء الرتيب الذي نسمعه من مرتلين محترفين يقرأون السورة من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن عن موقف الفرح، من موقف الوعيد عن موقف البشرى عن موقف العبرة يؤدى إلى نبرة واحدة رتيبة لا تعبر عن المعنى، لكنه يؤكد رغم ذلك كله على أن لحظة صفاء ينزع المرء فيها نفسه من هذه الأحوال السلبية المحيطة به، يرده إلى نفسه، وشفافيتها، فتعود له الذائقة الأدبية، والتمتع بلغة القرآن، وبلاغته. 

إننا فى حاجة إلى خطاب دينى يخاطب العقل والوجدان، يخاطب الضمير فى قدس أقداسه، خطاب يعتمد على إعمال العقل والفطرة معا، بعد أن شغلت الحياة العصرية بمباهجها وشواغلها الفرد، ولم تعد تترك له مساحة حقيقية للتأمل والتفكر والتدبر، خطاب يطور ذات الفرد، والمجتمع.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز