عاجل
الأربعاء 25 ديسمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
أسد قصر النيل المتطوع وطارق الكومي نقيب التشكيليين

أسد قصر النيل المتطوع وطارق الكومي نقيب التشكيليين

ذات صباح مشرق نظر الأسد البرونزي الأول إلى زميله الأسد الثاني فشعر بخفة وزنه، وكأنه مصنوع من نوع خفيف جداً من الفيبرجلاس.



قال أين قوتك البرونزية؟. نظر إليه الأسد الثاني وقال وأنت أيضاً تبدو كالزجاج اللامع ولونك متغير. ضحك الأسدان إذ إنهما يعرفان بخبرة السنين أن هذا الطلاء سيزول مع الشمس مع الوقت. استرق الأسد الأول السمع إلى بعيد قليل في محيط أرض الجزيرة ليسمع حديثاً للفنان طارق الكومي نقيب التشكيليين. وطارق الكومي هذا نحات شهير مصري أطلق لحيته الصغيرة بطريقة مشابهة لما فعله المثال المصري العبقري محمود مختار، وظل مديراً لمتحفه مدة طويلة جداً، وكان الكومي يرى أنه كمدير لمتحف محمود مختار قد جلس على كرسيه المناسب ولم يحلم بأبعد من ذلك طوال مدة عمله بوزارة الثقافة.  وطارق الكومي فلاح مصري من كفر الشيخ درس فن النحت بكلية الفنون الجميلة وصنع من مساره المهني لمدة خمسة وأربعين سنة في فن النحت قيمة رمزية ودخلاً مريحاً، فهو ككل الفلاحين العظماء في مصر يعرف كيف يعبر عن نفسه وكيف يعيش. 

يتمتع طارق الكومي ككل الفنانين الأصلاء بعلاقات وطيدة مع كل مجالات الفنون الجميلة في مصر، ومعظم صناع الفنون التعبيرية. ولذلك نادى الأسد الأول أنه يتحدث والفنانون التشكيليون عنا. زأر الأسدان غضباً من ناحية كوبري قصر النيل المطلة على أرض الجزيرة.  حاول أحدهما الحركة، إلا أن الثاني قال له لا تفعل ذلك فهو أمر مرعب للعابرين على الكوبري الذي نحرسه منذ سنوات طوال، منذ عام 1891، قرن وأكثر من الزمان لم نهتز ولا نتحرك.  قال الأسد مؤكداً: نعم معك كل الحق يبدو أننا نسبب المشاكل منذ زمن بعيد.. هههههه.. أخذت الأسود تضحك بصوت مرتفع. وقال أحدهم، مهما حدث سنبقى للمستقبل بكل الهيبة والجمال. أكتب هذه السطور، إذ إنني واحد من هؤلاء الذين يتمتعون بعلاقة قوية من الصداقة والثقة الروحية مع الفنان طارق الكومي، وكنت قد قرأت ما كتبه على صفحته الشخصية على تطبيق فيسبوك وعلقت له تعليقاً داعماً وطلبت منه مخاطبة الجهات المسؤولة عن التماثيل. ولأني أعرفه جيداً وأعرف أنه يدرك العمل العام جيداً وكيفية التواصل معه فقد هاتفته، وأخبرني أنه قبل أن يكتب منشوره تواصل مع المسؤول عن العلاقات العامة بمحافظة القاهرة ووعد بعرض الأمر على السيد محافظ القاهرة، وظل يوماً كاملاً لم يتلق اتصالاً ولم يرد أحد على اتصالاته فكتب هذا المنشور. وعندما دخل المنشور للتفاعل العام حدثت عدة أمور أراها إيجابية للغاية وهي:  أولاً: إن أحد أبرز النقباء المهنيين في مصر يخاطب الرأي العام في اختصاصه من أجل الصالح العام. ثانياً: أن المسؤولين في محافظة القاهرة وفي وزارة الآثار استجابوا سريعاً وتم التواصل لفهم وجهة نظر النقابة وللتشاور من أجل الاتفاق على طريقة علمية أكثر تخصصاً لتجديد التماثيل التاريخية. ثالثاً: اهتمت وسائل الإعلام بالأمر وتداولته نطاق واسع. رابعاً: اهتمام الدولة بالقاهرة التاريخية للحفاظ عليها وتجديدها وإعادة البهاء للقاهرة التاريخية يبدو اهتماماً حاضراً رغم كل الاهتمامات الضرورية الأخرى، فالدولة توازن بين مدنها الجديدة ومن مصر التاريخية العامرة بأهلها.  خامساً: وهو الأثر السلبي الوحيد والذي لا يجب التوقف عنده كثيراً، ألا وهو استخدام منشور الفنان طارق الكومي من قبل عدد من المنصات الإعلامية استخداماً سياسياً استقطابياً في طابعه، وهو الأمر بالغ الخطورة، والذي لا يجب أن يمنعنا كمصريين حريصين على قوة مصر من الإشارة والتعليق والكتابة، فهذا دليل على حيوية المجتمع المدني المصري ويجب ألا يكون الأداء الاستقطابي الذي يستخدم المبالغة والدعاية المغرضة في حروب العقل والإعلام الموجه سبباً لوقفنا الجاد عن إبداء الرأي، ولعل استجابة الدولة المصرية ممثلة في وزارة الأثار ومحافظة القاهرة تعد رداً مناسباً على هذا الأداء المفتعل، الذي يضع المخلصين من أمثال طارق الكومي في موضع الحرج، وربما يدفعه للصمت في مرات أخرى قادمة، بينما نحتاج إلى صوته، وأصوات المخلصين من المصريين. ولا شك أن صوت نقيب التشكيلين المصريين هو صوت اختصاصي يحسب لحيوية النقابات الفنية المهنية ودورها الهام كممثلة للمهنيين المختصين والمجتمع المدني.

وفي تواصلي الثاني هاتفياً مع الكومي قال لي حلاً ساخراً هكذا بدا لي، لكنه أكد لي ببساطة أن هذا هو الحل الأمثل الذي يعرفه بخبرته التاريخية وهو إزالة الطلاء والعمل على عودة تفاصيل تماثيل الأسود، والتي هي تفاصيل صغيرة بالغة الجمال عبر عملية أسماها بالتنظيف. وهذا التنظيف يتم باستخدام "أسلاك تنظيف تشبه أسلاك تنظيف الأدوات المنزلية عبر العمل باليد وبطريقة مهنية للتخلص من الطلاء الزائد حتى يستعيد البرونز طبيعته الأصلية. وهكذا عدت بخيالي مسرعاً إلى الأسود كي أتأملهم وأخبرتهم بالحل اليدوي العملي بالتأكيد مع بعض المواد الكيميائية القادرة على إزالة الطلاء فنظروا لي بنظرة حزن وكبرياء إلا أن أحدهم تطوع بأن يسلم بدنه البرونزي القوي إلى يد المثال طارق الكومي وزملاء مهنته كي يعود لمظهره البرونزي القوي بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي يعتز بها.  وبعد موافقة الأسد المتطوع أتوجه جاداً بطلب إلى محافظة القاهرة ووزارة الآثار بمنح طارق الكومي فرصة العمل على الأسد الأول المتطوع كي يعيده لمظهره البرونزي القوي الأخضر الداكن وهو لون البرونز الطبيعي الذي صنعه المثال الفرنسي، والذي يعرف أن البرونز هو خامة التماثيل في الأماكن المفتوحة، وهي خامة تتحمل الهواء الطلق والشمس والرياح والأتربة والأمطار، وكلما تفاعلت مع الهواء الحر الطلق وعوامل البيئة المحيطة كلما ازدادت رونقاً عبر القدم وأخذت لونها البرونزي الطبيعي. ربما يبدو المشهد ضاحكاً، عندما نذهب لطارق الكومي ونراه ينظف الأسد المتطوع كي يكون بداية لتنظيف الأسود الزملاء بالتدريج ولكن قبول عرضه وتحديه ضرورة تؤكد أن اعترافنا بالتخصص وتمتعنا بالقدرة على إصلاح الأخطاء العابرة أمراً حيوياً يعبر عن الثقة والأمل، وليس في ذلك ما يدعو إلى القلق، مهما تكاثر الحديث عن تماثيل وأسود قصر النيل. وهي فرصة أيضاً كي يرى الناس بل والعالم كله طارق الكومي بلحيته التي تشبه لحية محمود مختار وهو يمارس الإبداع الاستيعادي في الشارع، وسنذهب إليه ببعض من الشاي والقهوة والمياه المثلجة وسنعطيه من وقتنا للمرح والحكي الملهم.

أما النتيجة المهمة التي حصلنا عليها من منشور الكومي، هي إنقاذ التماثيل الأخرى التي كانت تستعد للطلاء، وأبرزها تمثال سعد زغلول أمام حديقة الحرية، وهو ما تم تنظيفه بطريقة علمية، ويقف شامخاً الآن بتوقيع المثال محمود مختار الأيقونة الذي يتدخل القدر دوماً لإنقاذ إبداعاته في فن النحت. وهو أمر يبدو أيضاً دالاً على حيوية مصر، التي اكتتبت فعلياً لتنفيذ تمثال نهضة مصر لمختار في إشارة للفهم الشعبي المصري العميق للفنون الجميلة، وهى ذات الروح الحية التي اهتمت اذهتماماً كبيراً بما كتبه طارق الكومي. ما تبقى من التماثيل إذن سيتم تنظيفه بالطريقة العلمية.

جدير بالذكر في عملية تطوير القاهرة التاريخية، وفي كل ميادين مصر التاريخية أن الحفاظ على الطابع القديم الأصلي يعطي شعوراً بفخامة وجمال التاريخ، وتوزيع الإضاءة بالألوان الدافئة الصفراء بطريقة تحافظ على الطاقة وتبتعد عن اللون الأبيض البارد يساهم في تعزيز الطاقة الإيجابية في الشارع، وأعمدة الإنارة التي تتفاعل مع الهواء وتأخذ لوناً فضياً قاتماً لا تحتاج إلى دهانها كل عام، فلونها الفضي المتناغم مع الهواء والأتربة أكثر جمالاً، وما أحوجنا أيضاً إلى النظر جيداً وبالتدريج في إضاءة الشوارع التاريخية وإضاءة تلك التماثيل التاريخية بطريقة إبداعية تظهر جمالها. ويمتد هذا الأثر الفعال للجدل المثار حول تماثيل الأسود، إلى ضرورة النظر الجاد في تجديد وطلاء الأثاث التاريخي وقطع الأرضيات والسجاد التاريخي وحوائط قصور ودور مصر التاريخية، إذ إن التجديد الاختصاصي الذي يحافظ على القطع الأصلية ضرورة، إذ إن علامات القدم والتاريخ والجمال حقاً هي علامات مصرية يجب الحفاظ عليها جيداً.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز