عاجل
الإثنين 27 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
بين سيد القصة القصيرة وعبقري الرواية العربية 

بين سيد القصة القصيرة وعبقري الرواية العربية 

كان يوسف إدريس أعظم كتّاب القصة القصيرة في الأدب العربي الحديث، كما كان نجيب محفوظ أعظم روائييه. لم يكن إدريس مجرد كاتب، بل كان ظاهرة أدبية متفردة نقلت القصة القصيرة إلى آفاق جديدة، حيث أصبحت مرآة تعكس أدق تفاصيل الحياة اليومية بنبضها الحي وتناقضاتها المدهشة. لم يكن منفصلا عن قضايا أمته، بل كان جزءا من روح النضال المصري. ومنذ شبابه، شارك في الحراك الوطني ضد الاستعمار البريطاني، وتعرض للسجن أكثر من مرة بسبب مواقفه الجريئة. ومع ذلك، لم تكسره القيود، بل جعلت منه كاتبا متمردا على الظلم والتقاليد الجامدة، باحثا عن الحرية والعدل في كل ما كتب.



حاول نقاد كثيرون وباحثون من مختلف الثقافات تحليل الأسباب التي جعلت إدريس مأخوذا بهذا النوع الأدبي. وقال بعضهم إن السبب الأول هو خلفيته كطبيب، حيث منحته مهنة الطب فهما عميقا لأوجاع الناس وأسرار النفس البشرية. ويقول آخرون إن السبب يعود إلى شخصيته الثائرة، التي لم تعرف المهادنة سواء في الأدب أو في السياسة. وفي كلتا الحالتين، كانت القصة القصيرة هي سلاحه الأمضى، يواجه بها الواقع ويكشف بها المستور.

ربما يعود أيضا جزء من عبقريته إلى نشأته في الريف المصري، حيث عاش قريبا من حياة البسطاء ومعاناتهم، مما صبغ قصصه بمسحة إنسانية فريدة، تجسدت في أعمال مثل أرخص ليالي وقصص أخرى كانت بمثابة صرخات مكتومة لمن يعيشون على هامش الحياة.

وفي حين أن نجيب محفوظ ركز على التحولات الكبرى في المجتمع المصري عبر رواياته، مثل "الثلاثية وأولاد حارتنا"، كان إدريس أكثر التصاقا بالإنسان العادي وهمومه اليومية. شخصياته ليست رموزا فلسفية أو نماذج مجردة، بل أناس حقيقيون ينبضون بالحياة، وكأنه أخذ الحياة كما هي ووضعها على الورق بحرفية استثنائية. كان محفوظ يكتب عن مجتمع كامل بمراحل تطوره التاريخية والفكرية، بينما كان إدريس يغوص في تفاصيل الروح الفردية ويكشف عن أعماقها، مستخدما لغة بسيطة لكنها تحمل قوة تعبيرية هائلة. ومع ذلك، لم تكن أعماله مجرد انعكاس للواقع، بل كانت دعوة مستترة للتغيير، ومحاولة مستمرة لتحفيز الوعي الاجتماعي.

لم يكن إدريس بمعزل عن السياسة، بل كانت مواقفه الوطنية الجريئة جزءا لا يتجزأ من شخصيته الأدبية. انضم في شبابه للحركة الوطنية ضد الاستعمار، ولم يتردد في التعبير عن آرائه السياسية، حتى عندما أدى ذلك إلى سجنه. كان القلم عنده وسيلة للنضال، ولم تكن قصصه مجرد حكايات، بل أدوات كشف واحتجاج. وفي الوقت نفسه، منحته مهنة الطب رؤية عميقة للإنسان، ليس فقط كجسد مريض يحتاج للعلاج، بل كروح مثقلة بأعباء الحياة.

استطاع أن يدمج بين هذه الرؤى في كتاباته ليخلق أدبا متميزا يجمع بين الواقعية والعمق النفسي.

وعلى الرغم من أن إدريس لم يكن بنفس شهرة محفوظ عالميا، فإن تأثيره في القصة العربية القصيرة لا يقل أهمية عن تأثير محفوظ في الرواية.

كان محفوظ يتمتع بقدرة على صياغة عوالم روائية واسعة تتناول قضايا فلسفية واجتماعية كبرى، بينما كان إدريس أقرب إلى نبض الشارع، وأكثر جرأة في مواجهة التابوهات، حيث لم يتردد في تناول قضايا حساسة تخص الإنسان البسيط وصراعاته اليومية.

شخصياته كانت تبدو مألوفة بشكل لافت، وكأنها انعكاس مباشر للقراء أنفسهم.

ومن الجدير بالذكر أن إدريس لم يقتصر على كتابة القصة القصيرة فقط، بل كتب أيضا مسرحيات وأعمالا فكرية تميزت بجرأتها وتحليلها العميق لقضايا المجتمع. كان من أبرزها اللحظة الحرجة التي تعكس مزيجا بين عمق الفكرة وجمال الأسلوب.

هذا التنوع في إبداعه يظهر كيف كان يرى الأدب كوسيلة شاملة للتعبير عن الإنسان بكل ما يحيط به.

وعلى الرغم من اختلاف التوجهات والأساليب بين إدريس ومحفوظ، إلا أنهما يمثلان وجهين لعظمة الأدب العربي الحديث. نجيب محفوظ كان كاتبا للفكر والتاريخ الاجتماعي، جسد التحولات الكبرى وطرح تساؤلات فلسفية عن الإنسان والمجتمع. أما يوسف إدريس، فكان كاتبا للروح الإنسانية، جسد معاناة الأفراد العاديين، وجعل من القصة القصيرة فنا لا يقل أهمية عن الرواية الطويلة.

محفوظ كان يتأمل المجتمع ككل ويرصد تطوراته الكبرى، بينما كان إدريس يعيش في التفاصيل، في نبض الشارع، في آلام البسطاء وأحلامهم الصغيرة. ربما كان محفوظ أكثر شهرة، لكن إدريس كان أقرب إلى الواقع الحي.

يبقى السؤال قائما، من منهما كان أكثر تأثيرا؟ الإجابة ليست في المقارنة، بل في إدراك أن كليهما كان يعبر عن وجه مختلف من وجوه الحياة، محفوظ كان يعبر عن التحولات الكبرى للمجتمع، أما إدريس فكان نبضه الحي، صوت الناس البسطاء، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر إذا أردنا فهم الصورة الكاملة للأدب العربي الحديث.  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز