د. حسام الإمام يكتب: "شقة فيصل".. كلاكيت تاني مرة
يبدو أنه نموذج لا ولن تخلو منه حياتنا إلى الأبد.. نموذج مثير للحيرة والدهشة أثارني منذ سنوات فكتبت عنه، لكن إثارته تتجاوز حدود الزمان والمكان، يجبرك أن تعود إليه كل فترة لتتأمله وتتفحصه فربما تغيرت صفاته وتجاوز كبواته، لكنه يفاجئك دائمًا بقوته وثباته على حاله الذي لا يتغير.
كتبت فيما مضى عن مسلسل تم تقديمه في أحد المواسم الرمضانية، سرت مع حكايته كما رأيتها، أو ربما كما شهدتها أمامي في الحياة. في إحدى حلقات مسلسل "شقة فيصل" فاجأنا المخرج بــ"فيصل"- الذي تدور أحداث المسلسل حوله- يموت تاركًا خلفه كمًا رهيبًا من علامات الاستفهام.
كان فيصل منذ لحظة ظهوره الأولى نموذجًا للشخص غريب الطباع المزعج لكل من حوله، مدمن خمور لا يبالي لأمر أي شيء في الدنيا، حتى ابنه الوحيد لم يكن يعرف اسمه، غارق في الديون. لكنه مات ولا تجوز عليه إلا الرحمة.
وانتهت حكاية فيصل على الشاشة وبدأت حكايته معي، بدأت أنتبه إلى أن الكثيرين مثله يحيطون بنا في كل مكان. فيصل ليس وحيدًا كما تصورنا، ربما كان وحيدًا في المسلسل، لكن أقران فيصل وأتباع طائفته موجودون في كل مكان، يملؤون الدنيا على غير استحياء.
مات فيصل ويموت كل يوم فيصل جديد، يموت وسره معه. وتتكرر المأساة التي رأيتها في المسلسل في الواقع كثيرًا، يموت "فيصل" جديد ويبدأ البحث والتساؤل، هل ترك إرثًا أم لا؟ من سوف يأخذ الشقة، ابحثوا فربما ترك مالًا هنا أو هناك! غالبًا ما يقودني تحليل شخصية هذا الفيصل إلى صورة واحدة رأيتها كثيرًا، شخصيه كاريكاتورية تجعلك تتخيله ينظر من عالمه الآخر إلى الجميع، ويضحك ضحكته الساخرة قائلًا: آه لو تعرفوا أنا فرحان فيكم قد إيه.. أعرف من كان يتمنى موتي ليأخذ شقتي، ومن كان ينتظر قرشين، ومن كان يقف إلى جانبي لوجه الله لا ينتظر شيئًا. أعرف ما في عقولكم جيدًا.. ولذلك قررت أن أترككم في تلك الحيرة.. عايزين شقة فيصل؟ خدوها ودوروا فيها على حلمكم اللي انتو مش عارفين تحققوه.. من أين جاء بكل تلك الفلسفة والحكمة؟ لا أدرى. أم ربما هذا ما قرأته على وجوه الكثيرين في الواقع وتأثرت به... ربما.
ألم أخبركم بأنه نموذج عجيب تمتلئ به حياتنا؟ فيصل هو الحاضر الغائب، هو من ينطق أمامك بالحكمة وترى عبرة السنين منحوتة على وجهه، لكنه لا يطبقها على نفسه لحظة واحدة. قد تجد له زوجة وأولادًا في كل بلد زارها، لكنه لا يعرفهم ولا يعرفونه. الغريب أنه شخصية جذابة، تضحك كثيرًا إذا جالسته وسامرته، وغالبًا ما سوف يستهويك حديثه إن حادثته، لكنك لن تتمنى أبدًا أن تكون مثله.
هل رأيت من قبل شخصًا وتساءلت، كما يتساءل كل من يعرفه، عن سبب واحد لوجوده في الحياة؟ غالبًا ما سوف تكون إجابتك، مثل الباقين، إن عدم وجوده في الحياة ربما كان أفضل. رغم ذلك، ورغم عدم اكتراث هذا الــ"فيصل" لأي شيء في الدنيا سوى مزاجه الشخصي وهفواته، إلا أن وجوده في الحياة أصبح حقيقة لا مفر منها، شاء من شاء وأبى من أبى. وسوف تترتب على أفعاله العجيبة الغريبة، التي تثيرنا دومًا، آثار بعد رحيله، وسوف نرى تلك الآثار في أشياء كثيرة قد يكون بعضها صالحًا وقد يكون بعضها بل ربما معظمها غير صالح، فيكون له حظ كبير ونصيب وافر من نقمات ولعنات الناس.
قلت من قبل وسوف أكررها دائمًا: فيصل عبرة وعظة لكل "فيصل" آخر، عسى أن يعيد ضبط تفاصيله التي ترهق كل من يعرفه.
مدير المركز الإقليمي لأخلاقيات المياه