د. إيمان ضاهر تكتب: طوبى لمن وقف بعرفات

طوبى لك أيها الحاج، أن رزقك الله عز وجل الوقوف بعرفات، مع المقربين إلى الله تعالى

بقلب مشتاق ودموع حارة. فكم منهم ممن عذبه الخوف، وأحرقه الحب، واثقًا بوعد الله تعالى تائبا صادقا، لاجئا الى ربه تعالى. وكم عدد الذين كانوا في عذاب ولكن أنقذهم الله جل جلاله وأعتقهم من النار وغفر لهم أعظم ذنوبهم. ينزل الرحمن الرحيم إلى السماء الدنيا فتسبح الملائكة بفضائلها لهم  بمجرد وصولهم إلى عرفات، وإهدائهم ما يريدون، وما يشتهون. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أليس هذا اليوم أعظم الأيام إلى الله عز وجل وأحبها؟

  مع أول ضوء الفجر تجتمع حشود كبيرة من المصلين على جبل الدعاء المغطى بالصخور التي صقلتها الرياح والزمن. جبل عرفة والفضل العظيم، يوم يقارن بيوم القيامة، حيث يكون البشر متساوين أجمعين في انتظار الحساب دون تمييز بينهم. هنا يتبدل السجين إلى رجل حر والفقير يغدو ملكا  والطين يتحول إلى ذهب.  الحج الأساسي ركنه الوقوف على جبل عرفات  هنا تلقى الرسول عليه الصلاة والسلام الوحي  من الله سبحانه وجل جلاله في الآية ٣ من سورة المائدة: "اليوم أكملت لكم دينكم  وأتممت عليكم نعمتي،  ورضيت لكم الإسلام دينا".

أليس هو المكان المقدس بالرحمة، حيث ألقى النبي عليه الصلاة والسلام خطبته الأخيرة؟ خطبة الوداع أثناء حجة الوداع، يوم عرفة، يوم نور التضحية والتشريق هي أيام عيدنا نحن المسلمين، هذه أيام نأكل فيها ونشرب  وأليس هو اليوم الوتري المشار إليه في الآية "والشفع والوتر" ويا له من يوم عظيم ويا له من التزام كبير؟ أجمل لحظات العمر للحجاج، يتوافدون من وادي منى باتجاه جبل الرحمة، أليس هو جمع مهيب لا يوصف بالكلمات؟  فلتتأمل مشاهد التضرع الجماعي للحجاج الكرام من كل الألوان والأجناس في أرض  آدم وحواء، وبمجرد غروب الشمس يتوجهون  إلى مزدلقة في منتصف الطريق بين منى وجبل عرفات لقضاء الليل في الهواء الطلق يتلون  الصلوات، وآخرون يذرفون الدموع "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عز وجل فيه عبدا من  النار من يوم عرفة".. ويرجمون الشيطان الذي يكون مذلولا وتافها ومنفيا وغاضبا من أي  وقت آخر. إن هذا الموقف يتطابق مع شرعنا الإسلامي المرن والمتسامح والهادف إلى  جمع البشر معا في سرة الأرض، مكة المكرمة، وعلى جبل الرحمة، حيث النفس ترنو والقلب  يرجو. هنا على سفح جبل الدعاء، تتحد قلوب الحجاج، بل من هذا الاتحاد ينبع حشد داخلي لأوقات روحانية تجسد الزخم الغزير لقلوبهم وعقولهم، لأفكارهم وعواطفهم بحيث يغدون شخصا واحدا في الملابس البيضاء لون الإحرام، ليمكنهم التواصل مع ربهم. السماء في الأعلى،  والأرض في الأسفل، يتضرعون للمساعدة الإلهية لأن السماء العلو الروحي الذي يدعونا الله عز وجل إليه. وما سر هذه الدعوة الجليلة؟ أليست التجديد الروحي لكل إنسان مؤمن في  أرض الوحي، للقلب والعقل، حج المعرفة  والاعتراف؟ معرفة الله جل جلاله بشرط أن نعي حقيقة أن فيه روحا تفوق السماوات والأرض.

أليس هناك آيات بينات بما في ذلك المكان  المقدس الذي وقف فيه سيدنا إبراهيم ومن  دخله اجتاز رحلة روحية استثنائية تقوي الإيمان وتنمي الصفات الرائعة؟ رحلة من  مراحل الحياة تقود المتقي والمتيقن، وليس  الضال، نحو مستقبل الطهارة والنقاء. وإلى  عيد الأضحى وتضحية النبي إبراهيم نموذج التقوى وأبو الدعوة العظيمة إلى توحيد الله  عز وجل، والرحمة الإلهية. وبما أن الإيمان  والذكاء هما درعنا فلنكن أمناء لالتزاماتنا من  خلال التأمل والأعمال المتوافقة مع إرادة الله بالصبر والمثابرة نحو المصدر الوحيد " الله، إنا لله وإنا إليه راجعون". اللهم اعنا على ذكرك  وشكرك وحسن عبادتك. اللهم بلغنا بوم عرفة". فإذا حل الظلام فاعلم أن الشمس تشرق الآن  في مكان ليس بعيدا  عن القلوب، هناك حيث رؤية الضوء للحبيب المصطفى أكثر وأكثر،  حيث ندرك الوعي المتيقظ، طريق الصحوة والمسامحة في صبيحة يوم عرفة وكل حجاج بيت الله الحرام، المباركين، وكل منا يردد صيغة التكبير والتهليل: "لبيك اللهم لبيك،  لبيك لا شريك لك لبيك، لك الحمد ولك الملك،  لا شريك لك لبيك".. الإكثار من هذا الدعاء لله تعالى أن يغفر لنا ويعتقنا من النار.   

طوبى لعبد الله تعالى الذي يعرف كيفية الدعاء في اليوم الذي يكون فيه الدعاء أقرب للإجابة. ومن قواعد الدعاء في هذا اليوم أن يستقبل الحاج القبلة ويرفع يديه نحو السماء، داعياً ربه تعالى معترفاً بتفريطه وعزماً على التوبة. وفي أول ساعة من ساعات يوم عرفة، يوم الرحمة المباركة لعلنا نكون ممن غفر الله تعالى لهم ورضي عنهم.

أضحى مبارك والأمة الإسلامية بخير.

أستاذة متخصصة بالأدب الفرنسي واللغات  والفن الدرامي، من جامعات السوربون في  باريس.