عاجل
الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
الشهيد في الأدب العربي

رحيق الأرض والرغبة في الكمال

الشهيد في الأدب العربي

احتفل الأدب العربي بالبطولات وبالشهداء، الذين سطروا بحروف من نور انتصاراتهم، وعشقهم لمصر فبذلوا أرواحهم فداء لها. ومن الروايات المهمة التي أبرزت هذه البطولات، ووثقت لكفاح الشعب المصري منذ ثورة 1919، حتى حرب أكتوبر 1973: رواية «بين القصرين» التي دارت أحداثها أثناء ثورة 1919. ورواية «انتظار»، ورواية «انفجار»، وهما روايتان قصيرتان للسيد نجم، ضمهما كتابه «يا بهية وخبريني»، ورواية «ثعالب في الدفرسوار» لأحمد محمد عبده، وهما من أبطال حرب أكتوبر. وقد عبّر نجيب محفوظ في الثلاثية، وخاصة في «بيت القصرين» عن ثورة 1919 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الإنجليزي، الثورة التي شكلت تغييرات أساسية في المجتمع المصري، فحيل هذه الثورة أمن بأنها يجب ألا تقتصر على التغيير السياسي بل يجب أن تمتد إلى الاقتصاد والمجتمع، والتف المصريون حول زعامة سعد زغلول لتحقيق الاستقلال، لكن الإنجليز نفوه مع ثلاثة من أعضاء الوفد المصري إلى مالطة فاندلعت في البلاد ثورة عنيفة في أوائل سنة 1919، وقوبلت المظاهرات الشعبية بالمترليوز فغضب أهالي البلاد لقتل أبنائهم الذين طالبوا بحرية بلادهم، ويذكر أحمد لطفى السيد في كتابه «قصة حياتي» أنه أحرق أوراقه السياسية وفيها يوميات الوفد خوفًا من أن صيب أعضاؤه العنت والاستبداد، وفي هذا الحين عين المارشال «اللنبي» معتمدا بريطانيا في مصر، واقتنع بالإفراج عن المنفيين، وسافر أحمد لطفي السيد ورفاقه إلى مالطة لاصطحاب سعد زغلول، ومحمد محمود وإسماعيل صدقي وحمد الباسل لكن عندما وصلوا إلى مارسيليا جاءهم تلغراف بأن «ويلسون» رئيس الولايات المتحدة قد وافق على الحماية الإنجليزية على مصر، فكانت صدمة قوية من هذا الذي نادى بحرية الشعوب، وأعلنت مبادئه الحرة التي قوبلت في العالم أجمع بالغبطة والإعجاب وبخاصة عند الشعوب المهضومة.



عن هذه الأجواء كتب نجيب محفوظ روايته «بين القصرين» ليصور هذه الأجواء السياسية، وأحداث الثورة التي بذل فيها أبناء مصر أرواحهم، وقاوموا الاحتلال الإنجليزي، وطالبوا باستقلال البلاد، فبرزت شخصية «فهمي السيد أحمد عبد الجواد» أحد شهداء ثورة 1919 فيرسم لنا نجيب محفوظ صورة هذا الشاب الذي تخشى عليه أسرته من الانخراط في المظاهرات خوفا عليه من عساكر الإنجليز التي تواجه المتظاهرين بكل عنف، ويكشف الحوار بين فهمي وأمه «أمينة» عن هذا الصراع بين خوف الأم على ابنها وعلى رغبته العارمة في الاشتباك مع جنود الاحتلال، وفي مشهد وحوار دال يقول محفوظ (لم تنج أمينة سحابة النهار من قلق، فإن احتمال تعرض الجنود لأحد من رجالها في ذهابه أو إيابه لم يكد يفارق رأسها، وكان فهمي أول العائدين فخففت لدى رؤيته من بعض آثار قلقها، ولكنها رأته متجهما فسألته:  ماذا بك يا بني؟ فهتف «فهمي» متأففا: أكره أن أرى هؤلاء الجنود فقالت المرأة بإشفاق: لا تبد لهم الكراهية، إن كنت تحبني لا تفعل لكنه كان يتساءل في نفسه في سخرية عما كانوا يفعلونه لو أنهم علموا بأنه راجع من مظاهرة اشتبكت مع جنودهم في شبه معركة، أو أنه وزع في مطلع اليوم عشرات المنشورات التي تحرض على قتالهم. يعمل نهارا ويحلم مساء). يصف نجيب محفوظ مشاعر بطلة «فهمي» ومثاليته، فهو يريد أن يصبح قديسا مثل جان دارك، وأن يجير الإنجليز على إعلان استقلال مصر، وفي الوقت نفسه تحاصره الصعوبات: تسلط أبيه، وخوفه عليه، وحنان أمه وإشفاقها من تعرضه لأي خطر فيقول: (جلس يستعرض ما لاقاه في يومه مستحضرا أقله كما وقع، وأكثره كما كان كما كان يتمنى أن يكون، هكذا كان رأيه أن يعمل نهارا وأن يحلم مساء، تحدوه في الحالين أسمى العواطف وأفظعها، حب قومه من ناحية، والرغبة في التقتيل والإبادة من ناحية أخرى، أحلام يسكر بها وقتا يطول أو يقصر ثم يفيق منها على حسرة لاستحالتها، وفتور لسخافة تصوراتها، أحلام تنسج لحمتها وسداها من معارك يتقدم صفوفها كجان دارك، واستيلاء على سلاح العدو ثم الهجوم عليه، هزيمة الإنجليز، خطبة خالدة في ميدان الأوبرا، اضطرار الإنجليز إلى إعلان استقلال مصر، عودة سعد من المنفى ظافرا، لقاء بينه وبين الزعيم، وكلمة الزعيم، مريم بين شهود الافتتاح التاريخي، أجل كانت أحلامه تتوج دائما بصورة مريم رغم انزوائها - طوال تلك الأيام - في ركن قصي من قلبه الذي شغلته الشواغل كما ينزوي القمر وراء السحب إبان العاصفة.  كان السيد عبد الجواد يخاف على ابنه من بطش الإنجليز، كان يري الثورة وأعمالها فضائل لا شك فيها ما دامت بعيدة عن بيته، فلتشتعل الثورة في الخارج، وليشارك فيها بقلبه كله، وليبذل لها ما في وسعه من مال، وقد فعل لكن البيت له وحده دون شريك، ويرسم محفوظ صورة للسيد عبد الجواد الأب الذي يهيمن على حياة أبنائه، يستبد به الحنان كما يستبد به الخوف فيقول محفوظ (طالما ملأته أخبار الاضراب والتخريب والمعارك أملا وإعجابا، ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف إذا صدر عمل من هذه الأعمال عن ابن من أبنائه، كأنهم جنس قائم بذاته، خارج نطاق التاريخ هو وحده الذي يرسم لهم الحدود لا الثورة. ولا الزمن ولا الناس.

لذا يحتدم الخلاف بين السيد عبد الجواد، وابنه (فهمي) الذي يرفض الاستسلام لوجهة نظر أبيه لكنه في الوقت نفسه يشفق على نفسه من مغاضبته فيقول له في ضراعة ورجاء (سامحني يا بابا، أمرك مطاع فوق العين والرأس ولكني لا أستطيع، لا أستطيع إننا نعمل يدا واحدة، فلا أرضى ولا ترضى لي أن أنكص، وأتخلف عن إخواتي، هيهات أن تطيب لي الحياة إن فعلت، ليس ثمة خطر وراء ما نعمل، غيرنا يقوم بأعمال أجل كالاشتراك في المظاهرات، وقد استشهد منهم كثيرون، لست خيرًا منهم، إن الجنازات تشيع بالعشرات معا، ولا هتاف إلا للوطن، حتى أهل الضحايا يهتفون ولا يبكون فما حياتي؟ وما حياة أي إنسان؟ لا تغضب يا بابا، وفكر فيما أقول، وأكرر على مسمعك بأنه ليس ثمة خطر وراء عملنا السلمي الصغير. 

صراع داخلي 

وينقلنا محفوظ إلى الصراع الداخلي في نفس السيد عبد الجواد فهو وطني وعاشق لبلاده لكنه خائف على ابنه، وعندما تم الإفراج عن سعد زغلول أحس السيد عبد الجواد بالأمان فيساءل نفسه بعد أن رفض «فهمي» أن يقسم على عدم المشاركة في أعمال الثورة فيقول السيد عبد الجواد في مونولوج داخلي: امتناعه عن القسم لا يزال يحز في نفسي، لكن أليس من دواعي الفخر لي أنه اشترك في الثورة ولو من بعيد؟ ليته اشترك في الأعمال الكبيرة ما دام الله قد كتب له العمر حتى اليوم، سأقول من الآن فصاعدا أنه خاض غمار الثورة، أتظنون أنه اكتفى بتوزيع المنشورات كما كان يؤكد لي؟ 

نياشين الرصاص 

ويصف محفوظ أحداث الثورة، واستشهاد الكثير من المصريين في مظاهرة بولاق أو مذبحة بولاق كما تسمى فيقول: غادر فهمي البيت قرير العين فمضى من توه إلى الأزهر حيث اجتمع بزملائه أعضاء لجنة الطلبة العليا للنظر في تنظيم المظاهرات السلمية الكبرى التي سمحت السلطة بقيامها للإعراب عن ابتهاج الشعب، والتي تقرر أن يشترك فيها ممثلو الأمة بكافة طبقاتها، دام الاجتماع وقتا غير قصير ثم تفرق المجتمعون كان دور إلى وجهته، فركب الشاب إلى ميدان المحطة بعد أن عرف الدور الذي عهد به إليه وهو الإشراف على تجمعات طلبة المدارس الثانوية، لئن كان يعد ما يعهد عادة إليه - بالقياس إلى غيره - من الأدوار الثانوية إلا أنه كان يقوم به بدقة وعناية وغبطة كأنما هو أسعد ما يحظى به في حياته غير أنه لم يكن يخلوا في جهاده من تعاسة خفية، لم يعلم بها أحد سواه، منشؤها ما اقتنع به من أنه دون الكثيرين من أقرانه جرأة وإقداما، أجل لم ينكص عن مظاهرة من المظاهرات التي دعت إليها اللجنة، لكنه كان يفقد جنانه عند ظهور اللوريات المحملة بالجنود، وخاصة عند انطلاق الرصاص، وتساقط الضحايا فمرة لاذ بمقهى وهو يرتعد، ومرة أخرى جرى على وجهه شوطا بعيدا حتى وجد نفسه في قرافة المجاورين، أين هو من حامل اللواء في مظاهرة بولاق أو مذبحة بولاق كما غدت تسمى، الذي استشهد ويداه قابضتان على اللواء، وقدماه ثابتتان في الطليعة، وحنجرته تهتف بالثبات؟! أين هو من أقران ذلك الشهيد الذين تبادروا إلى اللواء ليرفعوه فسقطوا فوقه، وقد تقلدت صدورهم نياشين الرصاص؟! أين هو من ذلك الشهيد الذي انتزع المدفع الرشاش من أيدي الجنود في الأزهر؟، أين هو من هؤلاء جميعا وغيرهم ممن تطير الأنباء بأي بطولتهم واستشهادهم؟  الرغبة في الكمال في نفس «فهمي» بذرة البطولة التي سهر عليها، وعمل عليها لتنمو شجرتها مسقية بحب الوطن، إنه الثوري المثالي الذي يتطلع للقديسين وأصحاب التضحيات، والذين يلعبون دورا أساسيا في حياة شعوبهم فيقول: (كانت أعمال البطولة تتراءى لعينيه رائعة باهرة تخطف الأبصار، وطالما أنصت إلى نداء باطني يهيب به إلى الإقدام والتأسي بالأبطال، ولكن كانت تخذله أعصابه في اللحظة الحاسمة فما أن تنحسر موجة المعركة حتى يجد نفسه في المؤخرة إن لم يكن مختبئا أو هاربا، ثم يعود إلى التصميم على مضاعفة البذل، والكفاح والتماسك بضمير معذب وقلب حائر، ورغبة في الكمال لا تحد، متعزيا أحيانا بقوله «ما أنا إلا محارب أعزل، ولئن فاتني الرائع من أعمال البطولة فحسبي أنني لم أتردد مرة واحدة عن الإلقاء بنفسي في أتون المعركة). 

سرد متفرد 

ويصور نجيب محفوظ قوة المظاهرات وبأسها، المظاهرات التي كدرت الاحتلال الإنجليزي، فتم تعيين المارشال (اللنبي) معتمدا بريطانيا في مصر، وأعلن أنه يقبل من أي كان ما يراه في أمر وقف الثورة القائمة، وعودة السكينة والسلام إلى البلاد، فأرسل إليه الوفد تقريرا شرح فيه أسباب الثورة، وعزا حدتها إلى تصرف السلطة العسكرية العنيف، ونصح بتنصيب واحد من ثلاثة ليؤلف وزارة تعمل على ترضية الأمة ترضية كافية، وهم: حسين رشدي باشا أو عدلي يكن باشا أو ثروت باشا، والإفراج عن المنفيين الأربعة: (سعد زغلول، ومحمد محمود وإسماعيل صدقي، وحمد الباسل). وعلى لسان بطله «فهمي» يقول في مزاوجة فريدة بين حكى السارد (محفوظ)، والمونولوج الداخلي لبطله، وكأن فهمي يمثل جزءا عزيزا وقريبا من نفس محفوظ (اليوم يوكل به قيادة المدارس الثانوية فيواجه زعامة كبيرة، ترى هل يقدر الآخرون عمله أكثر مما يقدر هو؟ لشد ما يحيونه بالاحترام والمحبة، لم يعقد اجتماع إلا وكان له فيه رأى مسموع، والخطابة؟، ليس من الضروري أن تكون خطيبا أليس كذلك؟، ليس محالا أن تكون عظيما وأنت غير خطيب، ولكن أي خسارة ستمنى بها يوم تمثل اللجنة العليا بين يدي الزعيم فيستبق الخطباء وتلوذ أنت بالصمت.. كلا لن ألوذ بالصمت، سوف أتكلم، سأطلق لقلبي العنان أجاد أم لم يجد، متى تقف بين يدي سعد؟ متى تراه لأول مرة فتملأ منه عينيك، إن قلبي يخفق وعيناي تحنان للدموع، سيكون يوما عظيما، ستخرج مصر كلها لاستقباله، لن يكون يومنا هذا إلى ذلك اليوم إلا كالقطرة إلى البحر. 

الكل في واحد 

ويمضي بنا السرد فيحول اللحظة الماضية، اللحظة التاريخية التي تجسّد فيها الكل في واحد لتصبح لحظة تكاد تشعر بها لحظة آنية تتجدد تصف مصر، وشعبها قوة تخيف المستعمر فيعمل لها ألف حساب فيقول محفوظ (امتلأ الميدان، امتلأت الشوارع المفضية إليه، عباس، نوبار، الفجالة، لم تسبق كهذه مظاهرة، مائة ألف، طرابيش، عمائم، طلبة عمال، موظفون، الشيوخ والقساوسة، القضاة، من كان يتصور هذا لا يبالون الشمس، هذه مصر). 

انتصار الثورة 

ويشعر «فهمي» بالقوة والاطمئنان، يدرك نجاح هذه الثورة التي انتصرت في فرض إرادة الشعب على المحتمل، وقرب وصول سعد الزعيم من منفاه، ويصور محفوظ ذلك في بلاغة وتدفق فيقول: (لم تقض رشاشاتكم على الثورة، افقهوا هذا، سترون عما قريب سعد في هذا الميدان عائدا مظفرا تنفونه بالسلاح، ونعيده بغير سلاح، سوف ترون، سوف تروق قبل الجلاء، تحرك الموكب العظيم فقد فقت موجاته تباعًا مرددة الهتافات الوطنية، بدت مصر مظاهرة واحدة، بل رجلا واحدًا بل هتافا واحدا. ثم يبلغ السرد أوجه فيشعر فهمى بالانتصار الداخلي، بمشاركته الحقيقية في الثورة، وأنه أصبح جزءا من كل، فاعلا في الثورة وفى الأحداث فيقول السارد: (يشرئب بعنقه تارة ليشاهد ما تقدم من جسم المظاهرة التي لم يعد يرى لها أولا، ويتلفت يمنة ويسرة تارة أخرى ليرى من اكتظت بهم الأرصفة والنوافذ والشرفات والأسطح من جموع المشاهدين الذين جعلوا يرددون الهتافات، امتلأت نفسه بمنظر الألوف الحاشدة قوة إلى قوة، وطمأنينة على طمأنينة كأنها دروع منصوبة حواليه، قوة متماسكة لا ينفذ منها الرصاص، إن قوات البوليس تتعهد النظام بعد أن أعياها الطعان والهجوم، إن منظر هؤلاء الرجال الذاهبين الجائين على صهوات جيادهم كأنهم حراس تابعون للمظاهرة قائمون على خدمتها لأبلغ دليل على انتصار الثورة. 

استشهاد فهمي 

وفي المشهد الأخير من رواية «بين القصرين» يصور محفوظ استشهاد بطله، وكأنه على باب حديقة، إنه على باب الفردوس، حيث السماء باسمه يقطر منها السلام فيقول: أرهف أذنيه لما يدور حوله من دون أن يثوب إلى السكينة، وما هي إلا لحظات حتى دوت فرقعة ثانية، آه.. لم يعد ثمة شك، رصاصة كسابقتها، أين يا ترى استقرت؟ أليس يوم سلام؟!، شعر بحركة اضطراب تسرى بين المتظاهرين وافدة من الأمام كالموجة الثقيلة التي تدفعها إلى الشاطئ باخرة تمخر وسط النهر، ثم تراجع الألوف، وانتشروا باعثين في كل ناحية دفعات جامحة جنونية من الاضطراب والارتباك والارتطام تعلوها صيحات مفزعة من الغضب والخوف وسرعان ما انتشرت الصفوف المتناسقة، وانهد البنيان المشيد، تلاحقت جملة من الطلقات الحادة فتعالى صراخ الغضب وأنين الألم، ماج بحر الخلق وهاج وتدافعت موجاته إلى جميع المنافذ لا تبقى على شيء في طريقها ولا تذر، اهرب، ما من الهرب بد، إن لم يقتلك الرصاص قتلتك الأذرع والأقدام، هم بالهرب أو التراجع أو حتى التحول عن موقفه، ولكنه لم يفعل شيئا، ما وقوفك وقد تشتت الجمع؟، في خلاء أنت، أهرب صدرت عن ذراعيه وساقيه حركة بطيئة وانية متراخية، ما أشد الضوضاء، ولكن بما علا صراخها؟ هل تذكر؟ ما أسرع ما تفلت منك الذكريات، ماذا تريد؟ أن تهتف؟، أي هتاف؟ أو هو نداء فحسب.. من؟.. ما؟ في باطنك يتكلم، هل تسمع، هل ترى؟. ولكن أين، لا شيء، لا شيء، ظلام في ظلام، حركة لطيفة تطرد بانتظام كدقات الساعة ينساب معها القلب تصاحبها وشوشة، باب الحديقة أليس كذلك؟ يتحرك حركة تموجية سائلة يذوب رويدا، الشجرة السامقة ترقص في هوادة، السماء.. السماء منبسطة عالية، لا شيء إلا السماء هادئة باسمه يقطر منها السلام. لقد استشهد «فهمي» في مظاهرة سلمية برصاص الغدر، أذنت بها السلطات وسارت أول الأمر في أمان حتى بلغ منتصفها حديقة الأزبكية، ثم انهال الرصاص على المتظاهرين من وراء السور بلا سبب، ويصف رفاق فهمي ذلك فيقول أحدهم: (لم يتعرض أحد للجنود الإنجليز لا بخير ولا بشر حتى الهتاف بالإنجليزية امتنعنا عنه تفاديا من الاستفزاز، ولكن مسهم جنون القتل فجأة فعمدوا إلى بنادقهم وأطلقوا النار). 

رحيق الأرض 

وتأتي رواية «ثعالب في الدفرسوار» لأحمد محمد عبده، والتي كتبها في مارس 2004، لتروى قصة ما قدمته مدن القنال، من شهداء للوطن، فتدور أحداث الرواية أثناء التهجير فيتسلل بعض الجنود الإسرائيليين، ويأسرون «ضاحي»، بينما يختطفون أخته «صبيرة» الحامل، ثم يلقونها في عرض الطريق فتنقذها دورية عسكرية مصرية، وتتعرض أسرة ضاحي لمشكلة قاسية أخرى أثناء الحرب، فقد استغل أولاد «أبوحجر» ظروف الحرب، واستولوا على أرض الشيخ «نور» بقوة السلاح، وهنا يتمحور السرد حول معنى وقيمة الأرض، فأرض الشيخ «نور» هي رمز لتراب الوطن الغالي، فيصف أحمد محمد عبده في مشهد مهيب بطله الشيخ نور وأولاده، وهم يدافعون عن الأرض فيقول: (الشيخ تقدم من أرضه، أولاده خلفه يحمون ظهره) كانوا يسيرون خطوة خطوة، كمن يمشون في جنازة، البرسيم الذي عبأه في حجره حبا وبذره بكفه، هو الآن سجادة خضراء مترامية الشراشيب، وراكية النار والعة في البر الشرقي، أولاد «أبوحجر» يرمون رصاصهم في زحمة الحرب، وأي طلقات هنا في الغرب تعنى وجود متسللين كانوا يتعمدون رمى الطلقات في اتجاه دار الشيخ، الدار أبعد من مرمى بنادقهم، لكن شرخ الرصاص يحرق صدور أهلها، تعقبتهم فصائل من قوات الصاعقة، راحوا يفتشون عن مصدر الطلقات نصبوا الكمائن وكثفوا الدوريات سقط في أيديهم فريق من أشقيائهم ولم تسكت الطلقات. وتصف الرواية كيف احتشد الشيخ نور وأولاده لاستعاد الأرض، فابنه محسن الذي فقد عينه في حرب اليمن حمل بندقية آلية، وانبطح على الأرض، ومن فوق وش البرسيم طفحت بندقيته آخر طلقاتها. ويصف السارد مشهد استشهاد الشيخ «نور» وكلماته لأولاده إذ يحثهم على حماية الأرض والدفاع عنها فيقول: كان الشيخ يتهادى فوق تراب أرضه، ماء الري أهاج عبق الأرض، في رائحة الملح والسنج، ملح وسنج أكل جلده، وجلد أولاده، توغل الرجل في حقله، وقع أقدامه كأنه قبلات يطبعها على جبين أرضه أو هو الخاتم يدمغ به أحقيته لها، اخترقت رصاصة صندوقه السمين، تناثر الدم على الأوراق البريئة، قطرات ندى حمراء تساقطت من أي سماء لتوثق حق الرجل.  شجرة تين وكانت آخر كلمات الشيخ نور لأولاده دافعا لهم للدفاع عن الأرض، ومقاومة العدو الإسرائيلي فقال لهم (ادفنوني حيث أموت، ولا تجعلوا على قبري مقاما حتى لو طرت في الهواء وانزلقت فوق الماء اغرسوا عن يميني شجرة تين شوكي، وازرعوا قدام الشاهد صفصافة، فقد يجذب ظلها من يقرأ الفاتحة على روحي فربما نجد على نفحاتها شيئا من رذاذ الجنة). 

رائحة الجنة 

لقد دافع أولاده عن الأرض كما أوصاهم، وعندما علم ابنه «محسن» أن جنودا إسرائيليين قادمون من عمق سيناء لدعم قواتهم في منطقة «الثغرة» ها هم قادمون، خمس دوريات قادمة من «الدفرسوار» تستعد للتوجه نحو السويس، يعنى ليس أقل من مائة جندي إسرائيلي فتقدم (محسن) من الدوريات وألقى قنبلته على المقدمة، وبعدها تلهبت العربات بالنار، استبسل «محسن» ورفاقه في الدفاع عن الأرض، وفي أعمال المقاومة وتعبر الرواية عن ارتباط الجبهة الداخلية بالمقاتل على خط النار من خلال رمزية الحفيد «نور» فقد حمل اسم الجد الشيخ الذي استشهد دفاعا عن أرضه، وعندما رأت أمه «صبيرة» أن طفلها قد ولد بدون أظافر، قررت أن تنتظر عودة زوجها «سراج» من على جبهة القتال لتنجب منه طفلا آخر يأخذ «خرابيش» أبيه بالمقاتل يرتبط المصير، وبالشهيد تتم استعادة الأرض بل ورائحة الجنة .« «ولاد الأرض» 

ومدن القناة أيضا كان لها دور البطولة في العديد من الروايات التي تناولت الحرب، وموضوع الشهادة والشهيد ففي رواية «انتظار» للسيد نجم والتي صدرت ضمن ثلاث روايات قصيرة في كتاب له بعنوان «يا بهية وخبرينى» نرى بطله الرئيسي «الحجاجي يوسف» المجند الذي كان يقضى إجازته الميدانية في مدينة السويس، ليكون قريبا من مدينة المقاومة والصمود، وقد كان صديقا للكابتن غزالي، يتغنى معه الحجاجي بأغنيات وطنية تنشدها فرقة (ولاد الأرض) التي اسمها الكابتن غزالي، وقد ارتبط «الحجاجي» بأغنيات الرفاق التي تتغنى بحكايات الاستشهاد، وتصبح رفات الشهداء قوة دفع نحو الحياة، ويصور السارد ذلك من خلال الاستعانة بالأغنية وتضفيرها بالسرد فيحدث هذا التنوع الذي يعزز حيوية السرد، وانفتاحه على عوالم حكائية أخرى، حيث ينشد الحجاجي مع «ولاد الأرض»: (ياللابينا/ نحرر أراضينا/ وعضم أخواتنا/ نلموا.. نلموا/ نسنوا.. نسنوا/ ونعمل منه مدافع وندافع/ ونجيب النصر هدية لمصر/ وتحكى علينا الدنيا). وهنا تتحول الرفات (العظام) إلى أسلحة، إلى مدافع، وهي صور بليغة تعبر عن الاعتزاز بالشهيد فهو السلاح، وهو القوة الدافعة للحصول على النصر.  الحجاجي هل كان الحجاجى يحارب وحده؟ هل كان كونا وحده؟ يتساءل السارد، بعد حكايات عديدة تدل على أن الحجاجي كان يفكر في الحرب تفكيرا خاصا ففي فترة اللاحرب واللاسلم، (اخترق «الحجاجي» حظر إطلاق النار مخالفا الأوامر العسكرية التي اعتمدها الرئيس عبدالناصر، و«روجرز» في اتفاقية (روجرز) قبل وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة شهور. اختطف الحجاجى بندقية أمهر قناص وظل يتأمل ما بها من عدسات وأجهزة وأسقط بها أحد الجنود الإسرائيليين من فوق برج المراقبة، ولم يفلح المحققون في اكتشاف المتسبب حتى تاريخه، لسبب بسيط أن «الحجاجي» تعمد أن ينفذ فعلته من موقع آخر لوحدة أخرى تسلل إليها، ولم يكتشفوا البندقية بينما كان عدد الطلقات سليما.  طلبا للشهادة ويصف السارد استشهاد «الحجاجى» فيقول: (عندما اقتربت أصوات اليات العدو، وبدأ ينكشف بعض المظليين منهم فإذا بالحجاجي يعود سيرته الأولى، عاد إلى حربه وحده، ترك موقعه بيننا، هبط بثقة وتؤدة فوق التل الصغير، تقدم نحوهم فتح النيران أمامه فقط، وكلنا يقين أن معركة جديدة بدأت، اشتعلت المنطقة بالنيران من كل جانب، وكل الأسلحة مثلما كان بالليلة السابقة، الجديد فقط أن شاهدنا، وسمعنا طلقاتهم أكثر نحو (الحجاجي يوسف) الذي لم يهمد تماما، حتى انتهت كل ذخيرته، وحتى الآن اسأل نفسي، ومن عرفوه من الرفاق: ترى لماذا تقدم الحجاجي وحده، هل طلبا للشهادة أم كان يرى ما لم نكن نراه، ويريد أن ينال منه وحده، كما كان يفكر وحده).  جميعهم يسأل عن الحياة وفي روايته «انفجار» من كتابه «يا بهية وخبريني» يصف السيد نجم العبور، والحياة التي بعثها في النفوس طازجة حية مستبشرة يسعى الجميع للإمساك بها، والتمسك بها فيقول: (كأنه النفير، ويرم النشور خرجت الجنود من الحفر البرميلية ومن حيث تكون لا يهم، خرجوا في اتجاه واحد، وكأن أمهاتهم أرضعتهم واجبات الموت على صفحة مياه القناة «الرجراجة» هي المشهد والحالة، كل الأشياء تترجرج، الرجال والقوارب والأسلحة والمياه والسماء والرمال حتى العصافير التي ما كنا نراها إلا مع شقشقات الفجر كلها وكأنها المياه تغلي في الأواني فوق المواقد، في مثل تلك اللحظات لا تسأل عن الموت، جميعهم يسأل عن الحياة، ويسعى للقبض عليها وإلا بماذا تفسر صوت النباح الذي يعلو، وصوت رفرفة أجنحة العصافير، انشغال الجنود بالمهمة التي لا يعلم تفاصيلها القادمة، حتى شعرت أن معدل إطلاق دانات المدافع الثقيلة أسرع كثيرا من معدلات تدريبات الجنود عليها، حتى شعرت أن الأرض تميد تحت أقدامنا والسماء، ألم أخبرك أن كل الأشياء تترجرج. 

البسطويسي 

ويصف السارد بعض المهمات القتالية التي كلف بها مجموعة ملجأ «الجن»، وكيف استبسل أبطالها في مهامهم القتالية فيقول السارد: (كانت الأوامر هي التصرف حسب الأحوال لتنفيذ المهمة في الوقت المناسب، ولم ينشغل القائد ورفاقه عن متابعة المعارك المتوقعة لهم على الضفة الشرقية من أجل تحقيق هدف الاستيلاء على الحصن العسكري، وبدأت المعركة التي عبرت عنها أصوات انفجارات، وسحابة من الدخان الأزرق، حتى الرمال عمت الأبصار لدقائق، عاشها الجميع قلقا في انتظار النتيجة والإعداد للخطوة التالية، السعال والرعشة الخفيفة العالقة بصوت المتحدث على الجانب الآخر من أرض المعركة القريبة، لم يمنع سماع البلاغ المهم المنتظر. وعندما علا صوت (الجندى الشاعر يقول لقائده: (تمام يا فندم، تم تدمير دبابتين، هربت بقية الدبابات). سأله القائد بلهفة وقلق: «أين البسطويسي.. أين النقيب قائد المجموعة؟ فلما طال انتظار الرد صرخ، أمر بسماع تفاصيل ما حدث فرد الشاعر في صوت خفيض مختنق (استشهد يا فندم، مات النقيب فوق إحدى الدبابات، وهو يحاول فتح برجها لإلقاء قنبلة داخلها).

ثم هتف القائد زاعقا (حافظوا على موقعكم انتظروا تعليمات جديدة). 

عبدون 

ومن شهداء ملجأ «الجن» عبدون الذي تسلل في هدوء إلى فتحة مغزل يسدها بجسده النحيل فاستشهد ويصور السارد ملامح تلك المعركة العسكرية التي استشهد فيها «عبدون» فيقول: (بدأت تتضح لي ملامح معركة عسكرية بهدف السيطرة على الحصن والاستيلاء عليه، مهمة المجموعة الأولى، ومنها مجموعة أفراد ملجأ الجن رشقوا المزغل حتى كف جنود المغزل عن الرد إلا من طلقات هنية، يطلقها أحدهم في عناد، ربما بدافع الخوف، لم تطل مقاومة الجندي داخل المزغل، لولا أن (عبدون) تسلل في هدوء نحو فتحة المغزل، وفجأة وعلى حين غرة اندفع برشاشه نحو الفتحة يسدها بجسدها النحيل، اندفعت لبقية أفراد المجموعة، تركوا خلفهم «عبدون» جثة مثقوبة، اندفعوا عبر الممرات الحلزونية المحاطة بالسلك الشائك، كثيرون اندفعوا أفرادا وجماعات، منهم من نجح في اعتلاء السلم الحلزونى القريب من المزغل والموصل إلى سلم ثان وثالث، تابعهم فورا حامل قذائف اللهب، اشتعلت الرمال، احترقت الحدائد، الانفجارات الأرضية هنا وهناك، يبدو أن الألغام الأرضية التي زرعوها استيقظت بعد طول سبات. ومضى الشاعر يتأمل رفاقه «البسطويسى»، «وعبدون»، و«عوض الله»، الذي استشهد في آخر أيام حرب الاستنزاف، ثم انطلق صوته متهدجا ينشد: «يا بهية وخبريني/ على اللي جتل ياسين/ يا طبيب مداوي/ داويني/ وخربنى على اللى جتل ياسين». ورغم هذا الأسى الذي يغلف صوت الشاعر إلا أنه كان يختزن ذلك التعبير الصادق عن روح التضحية والفداء.. لقد عبرت هذه الروايات عن أعمال البطولة، واحتفت بالشهداء. «فهمي» في رواية «بين القصرين» لنجيب محفوظ، و«الشيخ نور» في رواية «ثعالب في الدفرسوار» لأحمد محمد عبده، و«الحجاجي» في رواية «انتظار» للسيد نجم، و«البسطويسي»، و«عبدون» و«عوض الله» في رواية «انفجار». هم «البدور»، والأحباب، والصحب والطيور الخضر، والقناديل المعلقة بالعرش، كما يصفهم الشاعر عبدالرحمن بارود.. هم الشهداء الذين أمسكوا بلحظة فارقة فحققوا النصر لأمتهم، طلبوا الشهادة لتوهب لهم الحياة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز