د. عادل القليعي
إشكالية الحوار في القرآن الكريم
في بداية حديثي أود أن أطرح سؤالًا: هل القرآن الكريم كتاب فلسفة، أم كتاب نستنبط منه النظرية الفلسفية؟!
الرأي عندي- ولكل رأيه حول هذا الموضوع- الرأي الذي أتبناه وأدافع عنه دومًا أن القرآن الكريم كتاب مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وما هو بقول بشر، ومن ثم لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون كتابًا فلسفيًا، فما هو من صنع البشر قابل للتعديل والنقد، لكننا من الممكن أن نفلسف ما جاء به من آراء بل ويمكننا أن نقيم النظرية الفلسفية من خلاله.
وهذا دأب كل مفكر معتبر، يحترم فكره ومعتقده، ويحترم عقل القارئ فلا يجعله يضل ولا يشقى.
أما بالنسبة لفلسفة الحوار القرآني فيمكننا أن نقسم الحوارات الواردة في هذا الكتاب الموحى، إلى عدة أقسام:
أولها: حوار الوحدانية وينقسم إلى عدة أقسام أيضا:
١- حوار الذات الصمدية وهو ما يتمثل في حوار الله تعالى لذاته، كشهادته لذاته بذاته بالوحدانية، (شهد الله أنه لا إله إلا هو).
كذلك (لمن الملك اليوم).
٢- حوار المحدودية ويتمثل في حوار الله مع الملائكة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون)، وهذا الحوار إثبات لعلم الله الكلي الكامل وما دونه محدود العلم.
٣- حوار اللامتناهي مع المتناهي، أي حوار الخالق جل وعلا مع المخلوقات جميعا (قال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين)، إذن السموات والأرض بكل مكوناتهما سيقفون أمام الله تعالى والجميع سيسأل (ستكتب شهادتهم ويسألون)، وهذا دليل دامغ على أنه لا أحد يستطيع أن يشذ عن الناموس الإلهي الذي يعمل بفعل التدبير (كن فيكون).
ثانيها: خطاب العقل الفردي مع العقول الجمعية، فالله تعالى بتعبير الفلاسفة عقل يعقل ذاته، ومن يعقل ذاته فبالضرورة عاقل ومن هو عاقل فهو معقول، أي واضح بذاته تدركه وتعيه العقول إلا التي طبع عليها بخاتم الجهالة.
وينقسم بدوره إلى عدة أقسام أيضا.
١- حوار علم اليقين
٢- حوار عين اليقين
٣-حوار حق اليقين (المشاهدة العظمى).
أما حوار عين اليقين الاستدلال بالشاهد على الغائب والاستدلال بالغائب على الشاهد، بمعنى الاستدلال بالمخلوقات على الخالق، وإذا ما حدث علم اليقين وأن ثم إله، نستدل عليه من خلال فعله في هذا الكون فهو العلة الفاعلة المنظمة لكل ما هو في الوجود.
(وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين).
أما حق اليقين فرسوخ الإيمان عقلًا، وظهر ذلك جليًا في حوار سيدنا إبراهيم مع النمرود (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير)، ثبت يقينا لدى إبراهيم عليه السلام عجز النمرود وأنه ليس ثم قدير بقدرة مطلقة إلا الله تعالى.
كذلك الأمر بالنسبة لعين اليقين، تمثلت هذه العينية في قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي)، ورؤية إبراهيم للمعجزات الكبرى، ومعايشة نوح عليه السلام للمعجزة الكبرى (سفينة تسير وسط الصحراء)،
ومعاينة موسى عليه السلام للمعجزات التي اقشعر منها بدنه لولا تجلي ربه عليه وحمايته بالمحبة الإلهية.
والسيدة مريم البتول عليها السلام، وسيدنا يونس، وأيوب عليهم السلام جميعا، وختامهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جمع علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين، في قوله تعالى (وينصرك الله نصرًا عزيزًا)، علم، علمه شديد القوى، حق اليقين رسوخ الإيمان في قلبه صلى الله عليه وسلم، وعين اليقين، الفتح المبين في حياته، وإخباره الصحابة بفتوحات سيفتحونها بعده.
وثالثها: حوار الساعة وينقسم إلى عدة أقسام أيضا
١- السؤال عن موعدها وأشراطها، (يسألونك عن الساعة كأنك حفي عنها)، (فقد جاء أشراطها)، أي علاماتها الصغرى وبعض علاماتها الكبرى من انتشار الأوبئة والموبقات والخسوفات والكسوفات والزلازل المدمرة، وأن تلد الأمة ربتها وغيرها.
٢- السؤال عن الموت وحياة البرزخ وعذاب القبر ونعيمه وتأتينا الإجابة (النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا)، والموت (كل من عليها فانٍ)، والجنة والنار، (إن المتقين في جنات ونهر)، (كلا إنها لظى، نزاعة للشوى)، الحوض (إنا أعطيناك الكوثر)، الميزان (فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية).
٣-النفختان، الأولى والثانية، نفخت الصاعقة، (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض)، (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون)
٤-حوار المحشر بين الله وعباده وبين العباد وأنبيائهم، وإتيان الكتب وتطاير الصحف وهول المشهد (إن زلزلة الساعة شيء عظيم)، والصراط والموازين وملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وفرار المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبه وبنيه.
٥- حوار أهل الجنة مع الرب الكريم ورؤيتهم له جل وعلا.
وحوار أهل النار مع خزنة جهنم (ونادوا يا مالك ليقضي علينا ربك)، (وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا).
وحوار أهل النار مع أهل الجنة والعكس حوار أهل الجنة مع أهل النار (أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا)، وأهل النار (أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، قالوا إن الله حرمهما على الكافرين).
وهذا قليل من كثير مما أفاء الله علي به.
نعم القرآن الكريم ليس كتاب فلسفة وإنما نستخرج منه النظرية الفلسفية، فهل مددنا أيدينا إلى هذا الكتاب المتفرد بجلاله وجماله وقدسيته ونهلنا منه حتى تستقيم حياتنا.