![البنك الاهلي البنك الاهلي](/UserFiles/Ads/8372.jpg)
![من مذكرات جورج بهجوري.. "فتاة المقهى" "8"](/Userfiles/Writers/5313.jpg)
جورج بهجوري
في عيد ميلاده التسعين
من مذكرات جورج بهجوري.. "فتاة المقهى" "8"
تسحر «توفيق الحكيم» بائعة تذاكر السينما، أما «فلتس» فتسحره جرسونة البار التي تقدم له فنجان القهوة كل صباح، يتخيلها فلاحة من قريته، ويخيل نفسه متقدمًا إلى والدها الصعيدي يطلب يدها، وكان «توفيق الحكيم» رفيقه في هذه القصة، إلا أن قصته معها انتهت بشكل مختلف، أصبح كثير السرحان مع القهوة... ومعها... (هكذا بدأت مراهقتي الباريسية في العام الأول لوصولي لها).
في أطراف أناملها فروع وزنبقات ربيع بلطف حرارة الصيف، في شرايين ذراعيها نبتات خضراء تنبض بالحب والحياة، قوامها غصن شجرة لم يخلق بعد. ذراعاها ساقان لنبات جميلة تقطر قطرات عرق أحسبها ندى الفجر.
تروح وتغدو ما بين حافة بار المقهى وماكينة القهوة التي تضخ البن في صوت قبيح يعوضه جمالها الفنان وسحرها الذي جذبني إليها، كل صباح أحضر هنا تسقيني القهوة بفروع أشجار يديها، تحنو في حرص على حافة الفنجان حتى لا يضيع (الوش) أو وجه الفنجان الذي أرى عليه وجهها الجميل.
حققت حلمي كل صباح وأنا البعيد عن الوطن الحبيب... ما زالت نجمات السينما المصرية اللاتي تألقن في الستينيات هن معبوداتي حتى اليوم ونحن على مشارف نهاية القرن.
والغربة تزيد لهب الحنين، وهذه الحسناء الفرنسية التي تقدم لي قهوة الصباح... وأنا المرتشف دائما قهوتها حتى الثمالة... يجف ريقي يعود فتدب في قلبي الحياة بعد الرشفة الأولى والثانية تسقيني من ورود ابتسامات شفتيها المتلاحقات في عطاء صادق... تفرح وهي تسقيني قهوتها وأذوب قطعة السكر التي سقطت في قاع الفنجان بحركة بسيطة من يديها وهي تسألني قطعة أم قطعتين، فأتذكر ونحن في الصيف قطعتين من المايوه البكيني.
ولأنني أعشق نجمات السينما المصرية في الستينيات، فإنى أرى في وجهها عيون «سعاد حسنى» الكحيلة النفاذة، وخصلات شعر «زيزي البدراوي» ولها نغازات «إيمان»... وعندما تنطق كلمة صباح الخير يبدو لها ذات حركة شفاه «نادية لطفي» عندما تنطق أو تضحك عندما كان يصحبني صديقي «مفيد فوزي» لزيارتها وأنا المسحور دائمًا بها... يأخذني عطفا وإشفاقا.
وأصبحت متأملًا باريس من هذا المقهى وسط هذا الميدان الصغير في الحي الرابع خلف أزقة الحي اللاتيني، كما اخترت هذا المكان لأن له سحرًا يضيف الكثير إلى خيالي وإلى صفحات كراستي، التي أدون فيها كل ما أراه.
شجرة عارية الأوراق وسط الميدان وخلفها عمود نور من الحديد، مزخرف كأنه تمثال يحمل خمس دوائر مضيئة، وأحيانًا تمثال لإلهة الجمال فينوس.
فوانيس باريس المضيئة ليلا ونهارًا كأنها باقة من زهور الفل والياسمين وحمامة تطير وتحط وترفرف.
لكنني كنت قد اخترت المقهى بسببها، هذه الحسناء التي تعوضني عن «سعاد حسني» و«نادية لطفي» على الشاشة، تقدم القهوة لي وللآخرين كل صباح.
لكنني أتصور أنها تقدم القهوة لي فقط. كما نسيت أيضًا وهي تبتسم أنها تبتسم لي فقط وأنني لا أدفع ثمن القهوة والابتسامة. حتى لو ازدحم المكان... فأنا أشعر بأنني وحدي وأنها تهتم في وحدي وتعطيني أجمل قهوة وأفضل بن مطحون بيديها، لدرجة أنني داعبتها في إحدى المرات وقلت لها «قهوة مشوية بالنار» بأسلوب قطعة اللحم في المطعم، فضحكت... وحاولت بكل طريقة أن أكون الزبون المميز عن الآخرين... لدرجة أنني كنت أنساهم دائمًا وتبقى هي... وأنا مستمتع بقهوتي في هذا الركن الصغير من الحي الرابع في باريس كل صباح، حالمًا راسمًا، وتذكرت مفهوم بلدتي عن فنجان القهوة وتقديمه مع الابتسامة كمعنى مصري كريم.
تذكرت قصة أبي عندما زار أسرة متوسطة الحال في «بهجورة»، أسرة يعرفها. يزورها حسب موعد مسبق.
هكذا دخلت بنت صاحب البيت غرفة الجلوس حيث يجلس الشاب (أبي) وسط أفراد الأسرة الجديدة، وقدمت له فنجان القهوة ورغم خجلها كانت تبتسم.
هكذا تزوج أبي أمي... وسرحت قليلًا وأنا أرتشف قهوتي من يد هذه الحسناء الشقراء وبها سحر معبودتي «نادية لطفي» وسعاد حسني على الشاشة تخيلتها عروسي وأنا العريس، طالما أنها قبلت أن تقدم لي القهوة مع الابتسامة، ابتسامة معنى الرضا، والرضا بمعنى الموافقة على العريس.
أصبحت كثير السرحان مع القهوة... ومعها... (هكذا بدأت مراهقني الباريسية في العام الأول لوصولي لها).
وتحول السرحان إلى إصرار يوما بعد يوم حتى أرغمتني ظروف الحياة في باريس على تغيير الحي إلى حي آخر.
وبعد شهور عرجت قدماي صدفة على الميدان وعلى ناصيته ذات المقهى فتذكرت حبيبتي في خيالي التي تقدم فنجان القهوة مع الابتسامة... عيون «سعاد» وشفاه نادية وكما هي تماما في الوجه والجمال والشعر المنسدل الأصفر والابتسامة وجدتها مع ذات فنجان القهوة وذات الابتسامة لكنها عندما ذهبت خلف ماكينة القهوة.. لمحتها وقد تسمرت قدماي لأراها كاملة وهي تخطو على بعد أمتار أنها حامل تنتظر حادثا سعيدا بينما يجلس خلف الخزينة (الباتون) زوجها الشاب سعيدًا مثل الحادث السريع الذي ينتظره ولم أعد إلى المقهى بعد ذلك.