![البنك الاهلي البنك الاهلي](/UserFiles/Ads/8372.jpg)
![من مذكرات جورج بهجوري.. "التلميذ" "7"](/Userfiles/Writers/5313.jpg)
جورج بهجوري
في عيد ميلاده التسعين
من مذكرات جورج بهجوري.. "التلميذ" "7"
استمتع بالتلمذة في الحياة، كصبي صغير يعود من المدرسة إلى بيته في حنجلة، لذلك عندما أنهيت دراستي في كلية الفنون الجميلة في الزمالك ورسمت في الصحف، وعلى جدران قاعات العرض، واقتنى متحف الفن الحديث بعض لوحاتي "في المخزن"، قررت أن أتحنجل على طريقي، سافرت باريس والتحقت بكلية الفنون الجميلة تاني مرة، وقد أعجبني اسمها «اليوزآرت».
تجربة الفشل في معرضه في أكسفورد، وودستوك بلندن 1970، بالمراسلة وعدم اكتسابه جمهورًا جديدًا من أهل لندن حذرته من عدم تكرار التجربة في باريس، فأصبح يتمهل افتتاح معرض باريس لأول مرة.
التحق بمدرسة الأليانز فرانسيز في الراسباي، وقد أصبح شقيقه هو مصدره الوحيد، وصار يكتب له رسائل تليها الرسائل، مغمورة بالمحبة الأخوية الخالصة، فلم يكن يمزح معه عندما يكتب له في كل رسالة: «أخي جميل.. أنت ثيو وأنا فنسنت.. أرسل لي دينارًا لأشتري ألواني وكراريسي، وقماش تيل لوحاتي».
فكان يحصل على رسالة شهرية بها مائة دولار تكفيه لقمة العيش طيلة الشهر، كان عليه أن يكسب أيضًا بعرقه لبيع بعض الرسوم الصغيرة ليدفع إيجار مرسمه في الدوفين مازان.
ويصبح لديه صديقات من إسبانيا، ومن النرويج والسويد، وأخريات من رومانيا وإنجلترا، وحتى من جنوب إفريقيا والهند واليابان وكوريا، إنها متعة خاصة وكأن العالم كله من حوله يدرس معه، خاصة عندما يندمج مع القسم الداخلي، بمعنى أن يعثر على غرفة صغيرة كطالب يبيت فيها ويستيقظ مع جرس المدرسة.
ليهبط الدرج إلى مطعم الإفطار، ثم إلى فناء المدرسة، يدخل الفصل الذي يتلقى فيه قراءة الدروس من كتاب تعليمي مقرر على كل سنة وعلى كل طالب.
هذا المزج المقصود من قلب مفتوح لحب شباب العالم، يصنع منه مخلوقًا جديدًا يشرح نفسه باللغة الجديدة، وفهم طباع شعوب الأرض، وعاداتهم، بالإضافة إلى المتعة الكبيرة في ملء صفحات كراسته اليومية بوجوه مختلفة الألوان والأزياء "في تلك الفترة لم يود التعرف على طلاب مصريين، لأنهم يثرثرون بالعامية المصرية".
هكذا أضحت أيقونة في كف يده مصدر إلهامه للحب، والرسم، واكتساب تلك النعمة الإلهية لتحويل الكنيسة التي تربى فيها طفلًا في بلدته، بهجورة ثم الأقصر ثم منوف، ثم منشية الصدر حتى كنيسة بسخريون في شبرا، إلى أيقونة في كف يده تنير له الطريق وتعطيه إيمانًا شديدًا بفنه، وتخلص من الخوف.
يدرس اللغة الفرنسية بلكنته الخاصة، ويصبح شابًا في الثلاثين وسط شباب العالم الذين جاءوا ليدرسوا الفرنسية، إنه نجم من نجوم الرسوم وسط محيط صغير بالمدرسة وخارجها، وبخاصة حفل الرقص نهاية الأسبوع، حيث تزدحم كراريسه برسوم وجوه الأولاد والبنات في عمر الزهور، حوله في الفصول وفي حدائق اللوكسمبورج خلف مدرسة الأليانز، عادة دائمة وكريمة في ذات الوقت، التعارف السريع وكسب الأصدقاء خاصة الفتيات الحسناوات، يهدي كلًا منهن رسمًا كل صباح وكل مساء، وفي الفصل يرسم وردة على هامش كراسة جارته، أملًا أن تقع في غرامه.
أقام «فلتس» أول معرض له في المركز الثقافي المصري بباريس في «سان ميشيل». يقول له المستشار الثقافي بالتعبير البلدي التلقائي: إنت جاي تبيع الميه في حارة السقايين.
يضحك «فلتس» ويعتبرها مزحة مسلية، لكنه يبدأ بتدبير موقع باريس الجديد، بعد هزيمة «أكسفورد» في قاعة «وودستوك» في إحدى تفرعات الشارع الكبير وسط لندن.
ولم يتصور المفاجأة التي تنتظره حينما يوزع بطاقات الدعوات إلى شباب الأليانز أصدقائه كل يوم على مائدة الإفطار والغداء والعشاء ولقاء المقهى أيضًا.
تابعته بكل الحب فتاة يافعة في التاسعة عشرة من العمر، قليلة القد، جميلة النسب وجهها دقيق يحدده النمش الأحمر، وكأنها مسحورة برسمه وسر أيقونته.
اسمها «لورين بنجامين»، تبحث عن الأصدقاء مع صديقيها «فرانكلين» من بنما، و«بارك» من كوريا، ابن السينمائي الثري في كوريا، الذي يدعونا دائمًا إلى أفخم المطاعم في باريس وأيضًا «إلكا» الألمانية ذات العينين الزرقاوين، والقد البطيء وشعر أبيض منسدل للردفين، و«سلافا» من يوغوسلافيا و«كورين» من واشنطن، ذات العوينات الحادة والشعر الذهبي على الكتفين، والذي ينام عليه «فلتس» مع عطرها في سهرات الويك إند الراقصة، و«ماريا» البرازيلية السمراء وبشرتها اللامعة وذات أنف طويل أنيق، وشعرها الأسود تاجها وإطار جمالها «بالإضافة إلى الشاب الستيني» الذي يدير أعمالًا في أستراليا، في سترته الأنيقة وشعره الرمادي الفضي، و«تيريزا» الإسبانية التي تهوى تقبيل زملائها في كل لحظة، وهي متفوقة في اللغة الفرنسية نالت أعلى الدرجات مع شهادة تدريس.
كل هؤلاء الجمع بترتيب «لورين» هم حضور الافتتاح جاءوا في أحلى الثياب التي أحضروها معهم لحضور المناسبات الخاصة.
وقف «فلتس» وسطهم ووسط لوحاته في القاعة الكبيرة التي ازدحمت جدرانها لأكثر من ثلاثين عملًا بألوان مصرية مشتقة من عرق البلح والتمر الأسود وعسل الجلاب الأحمر، بمواضع من الحياة المصرية، من الطفل في بلكونته وفي حارته يلعب بالطوق، أو الطفل العامل «صبي الكواء» يحمل سترة الزبون.
والسفير المصري شامخ الطول أنبل من أنجبتهم مصر، صديق وزميل «عبد الناصر»، «حافظ إسماعيل» وزوجته، يطوف الجدران و«فلتس» يعلق ويناقش معه الألوان والخطوط ومدارس الفن.
وتأت «إليزابيث» من إسكتلندا تعمل ممرضة في المستشفى الأمريكي لتشتري لوحة ثم تصطحب في اليوم التالي صديقا لها ليشتري لوحة أخرى، ويقابله زميل الفصل الطالب السويسري «سيمون» ليشتري لوحة من رصيده كحارس ليلي في فندق.
والمواعيد بعد الافتتاح تنظمها «لورين»، حيث تحجز مع الزملاء مائدة في ملهى ليلي ليس فيه سوى نمر في الفترينة، يضفي فرحة ورونقا احتفاليا بفلتس الرسام، زميل الفصل.
رحب بفلتس السفير المصري أثناء لقائه به واقتنى منه لوحتين، إحداهما له والأخرى للسفارة وليقول له المستشار الثقافي عندما لاحظ الجمع الغفير من حسان شباب العالم: المعرض نجح..
ولأن الحلو ما يكملش، يتكشف لي في الأيام التالية مصير آخر وكأنه نجاح مزيف، فرغم أن مكسب المعرض يمد فترة بقائه في فرنسا ثلاثة شهور، إلا أن السلبيات ظهرت في فترة وجيزة.
كثرت العيون المصرية الغيورة والحاقدة، فكتب أحد الدارسين للدكتوراه في السوربون- للأسف- ما هذا العبث؟ أن ترسم فقراء الشعب المصري وتعرضهم في باريس، لماذا تسيء إلى بلدك إلى هذا الحد؟ لك لوحاتك مليئة بالطبقة الكادحة المعدمة.. أطفال حفاة لقطاء، أسرة لا تجد القوت، لماذا لا ترسم مصانع مصر مثلا؟
أما الموقف الآخر الذي اتخذه أيضًا مصري يعمل في السفارة، ويتولى نشاط هذا الموقع في الحي اللاتيني، فقد سحب لوحات المعرض إلى شقته الفاخرة في الحي الثامن، بعد أن دعا «فلتس» لأكلة فتة وكوارع، دخل إلى المكان فوجد ما تبقى من لوحات المعرض، معلقة عنده من دون إذنه ولم يعتذر حتى منه، فقد أكد فلتس أنها معروضة هنا بشكل مؤقت، ولكنه لم يستردها حتى كتابة هذه السطور(*)!
والأخيرة فمن أستاذه الفنان حامد عبد الله، وقد كان أول من شجعه وهو طالب، عندما تفحص كراسته في العام ألف وتسعمائة وخمسين، أثناء معرضه في قاعة «الغليون» بقصر النيل، قد جاء ليحتفل بمعرضه، والتقيا بالصدفة الفنان المصري «وديع المهدي» على مائدة صغيرة في مطعم «بكاني» وقد توقع «فلتس» أن يحدثه عن المعرض، ولكنه بدلًا من ذلك، أخذ يثرثر عن نفسه في سنوات تألقه في مصر.
قاربت سنوات «الأليانز فرانسيز راسباي» على نهايتها وأصبح الفصل الأخير مجالًا جديدًا لمعرفة شخصيات لا ترتبط بعمر الزهور، وإنما حوارات شديدة الفرنسية، ومواضيع إنشائية، كانت إحداها ماذا فعلت بك باريس؟ أما المفاجأة فحصول «فلتس» على أعلى درجة، حتى إن المعلمة أثنت على الموضوع وقرأت بعض الجمل من الموضوع، ما جعل لفلتس شخصية روائية جديدة، وعلقت على الرسوم الصغيرة التي تضمنها الموضوع، بها رسوم لنوتردام بخط واحد.
وكما زينت رسوم «فلتس» أيضا موضوع «سوزان» (*) الأمريكية أستاذة اللغة الإنجليزية والتي تدرس مع «فلتس» الفرنسية لتقوم بتدريسها أيضًا، ومن هنا أصبحا أصدقاء، فسوزان أطول من «فلتس» بعشرات السنتيمترات شعرها أصفر رمادي وعيناها خضراء ساحرة كالحلم، عندما تتكلم تضحك كثيرًا، وفي الفصل أيضًا طالبة فرنسية متميزة إنها «ماري» لها شعر فاحم السواد، ذات قوام فاتن لها صديق طبيب أسنان يعيش معها ويعالجها أيضًا، وعندما اشتكت «سوزان» من ألم في أسنانها أرشدتها إلى صديقها العاشق، إلا عندما فتحت «سوزان» فمها ليكشف عليها كان لها سحر خاص لم يكن عند «ماري» عندما تفتح فمها للعلاج.. فتحول الفم الأول للعلاج فقط والثاني للقبلات فقط.. وهكذا احتوت «سوزان» طبيب الأسنان الدائم للعشق، وفقدت صديقة عمرها في باريس، بكت «سوزان» في أحضان «فلتس» فماذا تفعل؟ وهي تريد أن تحتفظ بصديقتها وحبيبها في نفس الوقت.
يخطئ «فلتس» في قواعد اللغة في مفرداتها وأفعالها، ومتبدأ خبرها وأخبارها ليكون له لغته الخاصة ولهجته المميزة والتي هي مثار لضحكاتهم، تتعطل دراسته في الراسباي ولم تسمح له الأستاذة ذات العوينات الدقيقة وهي تنحني أمامه وتحذره، يجب أن يلم بتفاصيل اللغة ودراستها تمامًا، وأن يقدم الواجب كما هو مطلوب منه، إلا أنها تستقبل الكراسة ملأى بالرسم والاسكتشات لكل مظاهر الحياة وعمقها، في دراسات أكاديمية أحيانًا وتجريدية تارة أخرى، فتنزعج وتعطيه الصفر، حتى أنقذ الموقف آخر الفصل الدراسي، وأهداها رسمًا دقيقًا لها، فضحكت وقالت له: الآن أستطيع نقلك للمستوى الأعلى.
والتحق «فلتس» بكلية الفنون الجميلة للمرة الثانية لقد قالوا إني تجاوزت السن، ولكن يمكنك اختيار أستاذ تبقى معه كطالب أو تلميذ حر، فاخترت أستاذ شبه «بيكار»، واسمه «يانكل» وانتظمت معه في مدرج الدرس العاري للموديل، وهو أصعب الدروس ولمحته يدخل المدرج وأنا أرسم.. يتهادى بين الصفوف وعويناته تدفق في دراسة كل طالب، كصلاح طاهر أو الحسين فوزي.. يستحمل أحيانًا قلمه الفحم للتصحيح مع ملاحظاته من نصيحة لا عتاب.
لم أشعر به إلا وهو إلى جواري ولكنه تخطاني مع ابتسامة ماكرة ثم عاد يقلب أوراقي كأنه يستمتع بكل صفحة وكل رسمة، وكنت قد اخترت الحركات والأوضاع الصعبة للموديل، ثم عاد مارًا بجواري مرة أخرى، همس في أذني: أنت مكانك ليس هنا، تعالى معي تساعدني.. فضحكنا هذه المرة بعد ملل الابتسام! سخرية أستاذي الفرنسي لم تنقذني من هواية التلمذة أو الحنجلة.
يتحنجل «فلتس» ما بين دراسة اللغة فيهرب من حصة الإملاء وبين مواعيد صالة الموديل العاري، والمقهى بين الاثنين، على البار أو على المقعد، حيث الثرثرة والقبلات وصيحات الجرسون، ومقاعد الأركان الصغيرة الدافئة في المقهى الصغير بشارع بونابرت أمام كلية الفنون، ملاذ الحب والهمس.
سيد المقهى كلب ضخم من نوع الكوكير اسمه «نيمو» يجلس كأسد يباشر عمله، يتقبل زياراته زبائنه، ولا يمانع إذا تقربت منه كلبة لولو، تشمه وتقبله فيبقى مستكينًا ولكن بشموخ، وسيدة المقهى لا تأبه إذا كان يقطع الطريق وباب الدخول والبار والكيس، إنه سيد محتمل، تسعد به، وتحتمي فيه، وتشعر بأنها عظيمة القدر معه «فلتس» يتدثر في ملابسه الهشة خائف ليبحث عن ركن يجلس فيه يفتح كراسة ويرسم لا يلتفت إليه أحد حتى صابح المكان الكلب.
ثم صعد الكلب فجأة فوق المقعد المجاور للسيدة الثمانينية الحسناء، وهي تضع ساقًا على ساق، ارتفع المقعد فجأة والكلب الضخم يربض فوقه في صمت عجيب ودهشة وافتخار كأنه فجأة ملك مجهول قدم من تحت مقاعد الزبائن ليصعد فجأة وقد نال أصوات الجماهير وأصبح ملكًا ووجد لنفسه عرشًا من الذهب القش. والسيدة تقرأ صحيفة وقد زادت مقامًا واعتزازًا وكأنها الملكة بجواره بعد أن كانت كما بقية الزبائن في مقهى المطعم فأخرجت علبة السجائر وراحت تدخن وقد وضعت الكأس في فمها الأحمر فزاد الأحمر على أحمر.
أصبح في جلسته بجواره السيدة متواضعا ولسانه لا يخرج، وإن خرج يدخل في لونه الأحمر الفاقع وهي تداعبه أحيانًا فتضع أصابعها في فمه وتشير إلى صفين من الأسنان اللولي فيسكت نيمو في تواضع وحب وكأنه اقتنع بالعاطفة من صاحبته.. وراح من فرط سعادته يلعق بلسانه عضوه الذكري في حلم ما بعد النوم القيلولة كأنها أحلام الإيروتيك وفاتح الشهية للجنس وصاحبة المقهى المطعم تضحك وتداعبه من جديد وتضع نهاية ساقها ما بين فخذيه فيرتاح نيمو ويروح في نوم جديد.
وخرج «فلتس» من المقهى المطعم ونيمو يغتط في نومه ويغرد بأنفه، وقد تكور جسده حول المقعد، في توليفة عجيبة كأنه في جلسته بعد النوم في نعاس والنقط اللونية حول الوجه والرقبة وشعيرات الرقبة تنعقد في ألوان البيج والبني الصاعد إلى الرمادي ورقبته مزركشة بخصلات جديدة كأنه فتى قرية اختاره أصدقاؤه أجمل المخلوقات.
ذات صباح يتلقى على الهاتف صوتًا مصريًا في فرنسية متقنة دون لكنة يقول له: أتابعك منذ بدأت ترسم في الصحافة المصرية، نكاتك ومداعباتك تملأ قلبي وكلما تذكرتها ضحكت رغم أني أعمل موظفا في محلات الربيع الشهيرة وسط باريس- أنا «سمير يعقوب» أربعين سنة، كنت أعمل رئيس حسابات «عمر أفندي» في القاهرة، ولكنني تذمرت على أشياء كثيرة فهاجرت، هنا سأكون قريبًا في نفس الوظيفة لأهم محلات ملابس وعطور في قلب باريس، انتظرك غدًا على الغداء بسرعة في فترة الراحة، سمعت أنك هنا من أصدقاء السفارة فعرفت أنك طالب في «الأليانز» وتدرس الفنون الجميلة لثاني مرة.. سعيد جدًا لأنني عثرت عليك الآن.
«سمير يعقوب» في إحدى جولاته لاقتناء الأثاث التاريخي من عصر لويس فتعجبه البائعة، وفي حديث الكأس يذكر لها قصة عثوره على شقيقه الجديد الفنان الذي يكدس لوحاته ولا يجد قوت يومه.
«فلتس» يجفف دموعه الداخلية والخارجية، اللوحة لا تعطيه الخبز ولا الجبن ولا النبيذ، ولكنها تعطيه الحب للناس والحياة.. هل يكفي ذلك؟
تقترب فترة الدراسة الفرنسية من نهايتها، ويصبح لفلتس عشرات الأصدقاء خلال هذه الفترة من الجنسيات المتعددة المتنوعة تحمل البراءة والشقاوة والصفاء، وتراه «لورين بنجامين» الإنجليزية ذات صباح بعد وجبة الإفطار حزينًا يقرص أصابعه فتوعده بجولة بين قاعات العرض، حيث تصحبه من الصباح إلى المساء، هو يحمل دوسيهًا كاملًا به صور فوتوغرافية لأغلب وأهم أعماله في فن اللوحة، والجليد يسقط في شتاء يناير والمطر الجاف الذي يشبه البخار المثلج، تدخل كل قاعة بخطوات الفتاة الصغيرة الواثقة من نفسها وسحرها يسبقها، يؤيده شعرها الأحمر المسترسل على كتفيها ولا يعطله النمش الأحمر على الخدود والجبهة والأنف والرقبة الصغيرة الرفيعة، تسحب صديقها الأكبر سنًا منها في لحيته السوداء المهندمة نوعًا، وغور نظرة عينيه كأنهما مختبئان بصمت، ضاغطًا على كفه الأيمن حتى لا تفلت منه الأيقونة السحرية، لعلها تنقذه في كل مرة كامتحان صعب. أغلب أصحاب القاعات لهم رؤوس فارغة ونظرات واهية، وربطات عنق ملتوية كثعبان وكتفين مستعدين لعبارة شهيرة" لا أعرف.. ليس لي رأي الآن.. القاعة محجوزة لخمسة أعوام مقدمًا.. لا أقدم فنانًا ناشئًا.. أرجو المرور مرة أخرى لأدرس مليًا قيمة هذا الفنان.
البعض الآخر يختار موضوعًا آخر للحديث والأكثر أنه يتكلم عن الفنان العارض حاليًا.. هذا فنان مهم سيكون له شأن كبير، نموذج آخر يقول كأنه أكثر حنكة أو دبلوماسية: هذه أعمال جميلة لها قيمة ولكني لا أملك الزبون لها، في نهاية الجولة احتضنته «لورين» وهي تلحظ دمعة على خده جففتها بشفتيها الصغيرتين وحكت نمش وجهها الأحمر بخجل حمرة خديه، ولم تر عينيه فقد تحولا إلى حدقتين مفتونتين غورًا تحت جبهته التي لمعت مع بخار جليد باريس، وعاد الاثنان يحاولان أن يفرحا فقالت «لورين» هذا الأحد تجيء والدتي من لندن وقد حجزت لنا مطعمًا صغيرًا كاملا لي ولأصدقائي وهذه هي هديتها لعيد ميلادي العشرين.
حان وقت التخرج من «الأليانز فرانسيز» لم يكسب الدرجات العالية سوى في الإنشاء، لكنه حصل على درجات تحت الصفر في الإملاء لصعوبة التقاط الجملة الصحيحة من الأستاذة، رغم أنها تكررها عدة مرات، «فلتس» كل مرة يسمعها يكتب جملة أخرى فتصبح عدة أخطاء في جملة واحدة، قالت له ذات مرة: متى تتقدم وتصل إلى الصفر؟
إلا أن ثراءه في الحب والصداقة وصل إلى أبعد الحدود وتفوق في حصوله على رسائلهم والاحتفاظ بها والرسم على مظاريفها مما كان له الأثر الكبير على علاقاته وفنه.
وهي ذات العلاقة الجميلة مع شباب الهيبز الألمان الذين زاملوه في بداية وصوله باريس، فقد أرسلوا له عقدًا لمعرض في دولسدورف في ألمانيا، عاد منها ومعه «ماركات» ألمانية كثيرة أسهمت في بقائه في باريس سنة كاملة، كان المعرض في قاعة جميلة وسط المدينة والتقى في الليلة السابقة للافتتاح سيدة ألمانية وجدها واقفة وسط اللوحات التي لم تعلق بعد على الجدران، أبدت إعجابها وحجزت لوحة «نط الحبل» سألها مازحًا: سيدتي، هل يمكنني أن أسعد بصحبتك في جولة ليلية بالمدينة؟ فردت: أنت مدعو إلى العشاء مع زوجي وقضاء الويك إند في بيتنا الريفي! إنها «الكا أدورنو» يعمل زوجها مدير مصنع عربات سباق الخيل، وعاش معهما في بيتهما الريفي عدة شهور حتى أصبح الشخص المحبوب الثالث، ثم أحب الزوج المدير سكرتيرته الشابة الجميلة.. وعندما وجدتها في اليوم الأخير تبكي شعرت بعاطفة كبيرة لها، ثم سألني الزوج: أنا أقضي هذا اليوم مع حبيبتي الجديدة أيهما تفضل تأتي أم تبقى مع «الكا»؟ فقرر أن يبقى معها.
يبدأ «فلتس» في القلق من جديد كيف سيعيش في باريس بعد نهاية فترة «الأليانز فرانسيز» يعاود متابعته لإعلانات صغيرة على سبورة تابعة لخدمة الطلاب.
وريقات صغيرة صفراء اللون كتب عليها بالقلم الحبر الأزرق بعض العناوين، عائلات فرنسية تبحث عن فتى يبقى أو تبقى مع الطفل في سهرة عشاء أو حفل يقضيه الوالدان خارج المنزل، (وهي عادة شائعة منذ عصور قديمة، لكنها تجددت مع العصر) كما تعرض الإعلانات عن عناوين وسط باريس، يتركها أصحابها للإيجار فترة الإجازات الصيفية.
وانتعش الكف في يده مع الأيقونة وهو يقرأ: طالب فنون جميلة قسم عمارة، يترك استوديو به لوحاته ويسافر شاطئ النورماندي، العنوان شارع الشرش ميدي 26 الحي السادس الطابق الثالث.
ذهب إليه فورا قبل أن تضيع الفرصة وقف على باب الاستديو وضغط الجرس حتى ظهر خلفه شاب ذو شعر أشعث أحمر وطويل وله أنف كبيرة مضحكة وأسنانه كلها أمامه مبتسما، يفتح له الباب، وفي دقائق ترك له المفتاح وأعطاه عنوانه في المصيف حتى يرسل له الإيجار، هكذا يعيش الآن، في الحي الذي أحبه في المورنبارناس.
فتح الثلاجة ووجد بها زجاجة شمبانيا وبعض الزيتون والجبن، كل ما على الجدران وعلى المقاعد وعلى الكنبة السرير ألوان ساخنة، وعرف أنه يرسم مناظر طبيعية وقد بهرته المغرب والموتيفات الشرقية، يسافر إليها كثيرًا ويرسمها ويصورها بالفوتوغرافية ويجمع كليهما المزركش وسجادها الملون.
طرق الباب ذات يوم وكان الطارق هو إيفان، شاب مكعب الوجه مع استطالة، تظهر في وسطه أنف مصغرة من ذات النوع، من الوهلة الأولى لرؤية «فلتس» له وعلى باب استوديو «الشرش ميدي»، يشعر بالراحة لهذا الوجه، ذي النسب السيميترية المتزنة والخصلة من شعره البني مارون الأقرب إلى الذهبي الغامق، هذه الخصلة التي تنحرف قليلًا على الشمال فتسقط على الجبهة وجزء من الأنف فتحدث تغييرا في الانتظام والترتيب في شكل الوجه وحجم الرأس بشكل خاص، العينان غير مرئيتين، فهما تختفيان في لونهما الأزرق تحت حافتي الجبهة والوجنة، والفرق بينهما الذي يخفي العينين، الفم معتدل مع الشفاه الأولى التي تلمس الشفاه السفلى، برفق، فتخرج الكلمات كأنها تهمس، وكان يسأل عن «بيير» صاحب المرسم، وفي يوم تال جاء وزوجته وطفله جواندال ليعرفه بهما، ثم توالت اللقاءات وأصبحا أصدقاء، وتقارب و«فلتس» وكأنهما يكملان بعضهما.
وبدأ مرحلة باريسية جديدة من موقع جديد وكأنه لم يغير العنوان والحي، فالمسافة قريبة ما بين «راسباي» وشرش ميدي كما أنه لم يعد طالبًا في المدرسة حاليًا، إنه في أول الثلاثينيات ويتحدث الفرنسية بطلاقة ويكتب ببلاغة- ما عدا الإملاء وأخطاء الأوتوجراف- خاصة المؤنث والمذكر لاختلاف الشرق عن الغرب في هذا المجال، أعطى عنوانه الجديد إلى الأصدقاء والمسؤولين في أماكن عديدة، وظل يتردد عن إدارة الهجرة والإقامة لاستكمال أوراقه.
عبرت أشجار «اللوكسمبرج» زميله في فصل اللغة الفرنسية، وجاءت إلى جواره وهي تتهته باللغة وتخلطها بلغتها الأصلية الألمانية... ثم أخرجت من متاعها قطعة خبز وجبن وأخذت تلتهمهما في شغف، ثم التقطت سيجارة من علبته أشعلها لها ثم نامت بعد الظهير ورأسها في نهاية فخذ ساقه وبكت في بطء ودموع بللت خديها المكتنزين الحمراوين، تحكي له متاعبها للحياة وحدها في باريس مع لقمة العيش الصعبة رغم العشرينات من العمر وهي تنتظر نهاية الدراسة لتعود أستاذة مساعدة للغة الفرنسية في برلين.
هدوؤه أتاح لها تكملة فترة نهاية الظهيرة، حيث يضفي المكان بأشجاره العالية وتماثيل الرخام العارية وأزهارها المنظمة ومقاعد الحديد الخضراء التي يجلس عليها الكثير وسيقان النساء الجميلات تتدلى كنور بريق من ركبتها البيضاء وتغطيه صفحات كتاب.
في قبلتها الأخيرة بعد الجلسة في الحديقة الجميلة رانت منها عطفة من شفتيها لتستقر على شفتيه ودفء الدموع تجفف، ولكنه ترك أثرا داخل نفسه فدعاها إلى القهوة في مرسمه القريب، صعدت الدرج حتى الطابق الثالث في «الشرش ميدي» ودخلت الحمام ثم دخل هو تباعًا، وفجأة قالت له بفرنسية ركيكة بصعوبة أدرك معناها: اغسل نفسك جيدا قبل أن تقوم بالحب، لأن كل الناس ينامون مع بعض ولا أحد يعرف كيف ينتقل فيروس ما من جسد إلى جسد.
في خروجه من الحمام قبلها وهي عارية قبلة مثل زوجين لهما عشرات السنين من الحياة المزدوجة، ولكن مع شغف الجديد وطلب منها أن تبقى كما هي ليرسمها. في أثناء الرسم الأخير قال كاذبا إن لديه موعد ولا بد أن يلحق به الآن.. ارتدت ملابسها ولم يلتق الاثنان بعد ذلك.
ويأتي إليه «غسان عنتابي» و«فاتح» من دمشق زميلاه في كلية الفنون الجميلة بباريس، ليصبح الثلاثة واحدا في الروح والفن والحياة، أحلامهم واحدة وأهدافهم واحدة يصحبونه إلى مقهى «البول ماجورة» المزدحم بشباب الهيبز.. يرسمهم من جديد حول كأس يشربونه سويًا ويدخنون حتى مطلع الصباح، يلتصقون في الزحام ويختارون مائدة «عمر» الذي أنهى دراسة السينما وسيعود إلى دمشق ويشربون أحلى كأس في صحته.
وتتحول حياة باريس اليومية إلى متابعة رسوم الموديل العاري في كلية الفنون بشارع «بونابرت» إلى المقهى المجاور للرسم من الطريق إلى مكتب البريد المقابل الذي يمتاز بطاولة للكتابة وركن صغير، إذ شاء الحظ ليجده فارغًا، فيكتب إلى شقيقه «جميل» في أمريكا وإلى صديق الفنون أيام الكلية سمير السبع، وصديقه الحميم في إيطاليا فريد كامل، وطبيبه أستاذ القلب في الجامعة دكتور رأفت شلبي الذي يتابع أعماله ويحدثه دائما عن لوحاته بينما سماعة الطب فوق بطنه وصدره وظهره.