عاجل
الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
من مذكرات جورج بهجوري.. "ملكة التاريخ" "3"

في عيد ميلاده التسعين

من مذكرات جورج بهجوري.. "ملكة التاريخ" "3"

باريس هي الحديقة والمتحف والكتاب وصوت الأوكورديون والتويلري والنباتات هي جلسات "فلتس" مع كراسته البيضاء.



 

"كتابه المقدس"، دوائر حول الأركان، وبداخل كل ركن عروس من الحجر، وعروس من البشر، تكشف عن ساقيها لمواجهة الشمس، يتداعى إليها رذاذ الماء من نافورة بعيدة، فتلمع وتصير بشرتها الرخامية مرآة يرى فيها وجهه، تغرد عصفورة وتطير في حركات دائرية، ثم تتحول إلى فراشة تغني أيضًا.

 

كيف يرسم ملكة التاريخ وفاتنة عصر النهضة فينوس وهي قابعة في كبرياء وعلى حافة جسر ألكسندر وقد علت رأسها هامات الذهب وجلى الفضة؟ تسير أمامه فينوس الحديثة المعاصرة في بنطالها الجينز الممزق المخزق، يظهر جمال الثنيات بين الفخذ والفخذ وبين الركب والساق!

 

لكنه يعود ليرسم فينوس النهضة القديمة، القابعة فوق الحجر، رداؤها من الدانتيلا الحجرية، يحيط بكل تفاصيل جسدها الطري الشهي.. إنه يفضلها، يعود ليرسمه تفاصيلها في ظلال وخطوط دقيقة، كأنه يرد إليها الحياة.

 

يتسلق جدران المتاحف والقصور، يحادثهم بريشته في كراريسه، يختار ما يستحق التفاصيل ويلغي ما لا يريد.

 

الملائكة الصغار بأجنحتهم الصغيرة يهبطون في المساء ويعزفون على الأورج، تنطلق تراتيلهم السماوية من خلال نوافذ نوتردام مختلطة بموسيقى باخ وموسيقى الأبواق النحاسية المنبعثة من على الأرض، يتعلق الملاك بالسحاب وتظهر خلفه أشعة الشمس غاربة برتقالية تميل إلى البنفسج، وتهفهف أرديتهم على أحجار النوتردام يحملون كأسًا حجرية يمثلونها بالنبيذ الأحمر وحبات العنب تتساقط من الأغصان لا ترى أثرًا لخبطات أزميل النحات ولكن أشخاص من لحم ودم.

 

مع طلوع الشمس يتساقط "فلتس" وهو غارق في أحضان نساء مايول وأزهار التويلري تداعب أنفه التي كبرت مع الأيام وأصبحت كحبة كمثرى، غارت عيناه في لحم وجهه وصار بصره أكثر حدة تعبث أصابعه الصغيرة في لحيته، وتصعد إلى شاربه كأنه يطمئن على مظهره الفني فالشارب واللحية من مستلزمات شكل الفنان، كما يرى في وجو الفنانين العظام "ويتذكر فلتس" "عايدة" أول فينوس أحبها"*"! اقتصرت حياته في باريس على رؤية التماثيل الطائرة فوق أكتاف القصور والمعابد، وعلى أجنحة الكاتدرائيات والكنائس، متأملًا زخرفة حديد البلكونات والنوافذ ووسطها أصص ولا أحد يطل من النافذة ولا من البلكونة لا طفل يتعلق في سورها، ولا أم تحمل رضيعها كما في الشرق وكأنها تريده من النظرة الأولى أن يتفرج على الحياة من الطابق الأعلى.

 

في كل مرة يفقد "فلتس" الأمل في حياة باريس يعود إلى تمثال "انتصار ساموتراس" يسقط جالسًا أمامه على الدرج في اللوفر كان "سوموتراس" رمزا للأمل كان كتلة من الرخام المحلاة بثنايا دانتيلا حجرية رخامية بللورية جسد هائل لامرأة ذات جناحين ليست في خيال أحد وفي الصدر ثديان غير معروف ملامحهما لأنهما يتستران داخل جدائل حريرية لها ثنيات وطيات تحدد الجسم أكثر مما لو كان عاريًا، فالجسد العاري يبهج العين ببذخه وصراحته، ولكنه يفقدها المنظور وكأنه بعد واحد، فقط أما بلاغة الغطاء فيضيف للعين سحرًا جديدًا وشهية أكثر لاكتشاف هذا الجسد إلا أن "فلتس" يبكي فالرأس مقطوع والرقبة أنه نفس الإحساس الذي انتابه حينما احتضن فينوس من طرف واحد لأنهما ليس لها ذراعان.

 

تجلس فينوس المعاصرة "بعدما فقدت الكثير من وزنها" على رصيف مقهى من المقاهي، تحتسي كأسا من النبيذ تفتح البلوزة فيبرز النهدان في عناد، يخرجان إلى النور القادم من الشرق أو يتجهان نحو أشعة الشمس الساقطة من السماء، يتشبث بفخذها العاري حبيب ينقش فوق ركبتها العارية كلمة "أحبك".

 

وتتناثر الكتب القديمة والجديدة على سور السين، وعلى فاترينات مكتبات خاصة تشرح الفن القديم والموسيقى القديمة وأسطوانات تلهث بالرقص وبالحب وتدخل آذان الحشود القادمة من ضيوف الكرة الأرضية إلى باريس.

 

وتتأوه فتاة في حضن شاب ويلحس اللسان قرطاسا من الجلاس، من تجمد الفاكهة واللبن والكراميل والفستق واللوز.

 

الخيول الجامحة تجرى فوق قمم الأعمدة الهائلة الارتفاع القادمة من بوابة برلين إلى باريس تقفز فوق كل سقف قصر تعبر قوس النصر في الاتوال وقصر الشانزليزيه الكبير، تسبقها وتحوم حولها طيور السماء من كل الأنواع من البروكيه المزركش والنورس الأبيض وحمامة الأولمب الرمادية إلى هدهد الأقصر.

 

تتعلق باريس بذهنه كأسطورة يراها من أعلى، تنتفض الثلاثة خيول فوق القصر الكبير في الشانزليزيه، أمام السين الذي يجري من تحتها، ملتهمًا أوراق الخريف الصفراء الجافة فتسير معه في اتجاه الريح وترتعش مع رعشة الماء. 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز