عاجل
السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
من مذكرات جورج بهجوري.. "أيقونة باريس" "6"

في عيد ميلاده التسعين

من مذكرات جورج بهجوري.. "أيقونة باريس" "6"

في بنسلفانيا: "أشعر أني ولدت من جديد.. وصلت باريس، أنا جنين داخل بطن جديدة اسمها باريس، لا يعرفها ولا يرى وجهها ولكنه بداخلها". هذه المرة هو جنين لا يصرخ، جنين صامت لا يغمض عينيه، يفتحهما بأكبر زاوية ممكنة، ولا يفتح يديه كي يحتفظ بسره، أيقونته تتجدد بخيوط وخطوط مرئية تمثل العذراء والطفل، وكلما رأى جمال أيقونات باريس تتلون أيقونته بالتدريج، يكشف عنها ببطء أمام زجاج كاتدرائية النوتردام، تسلقت الملائكة جدران القصور وربضت على نواصيها، الظل يسقط على الجدار فيضيف إليه دانتيلا جديدة على الحجر المزركش بوجوه الغائبين الحاضرين، ورؤوس أحجار عشاق الحرية والفكر والأدب والرسم.



 

تسوقه قدماه من السين إلى الحي اللاتيني الأوديون والسان ميشيل (1) أحجار السان جرمان ورود حجرية تشق الجدران ووجوه آدمية عاشت آلاف السنين، كلما مر من أمام الكاتدرائية العالية وهي تشق برأسها المثلثة المدببة عنان السماء تبدو تماثيل الآلهة حولها متطلعة إلى الله.

 

والشجرة طويلة العمر لها أغصان تتفرع منها خيوط دقيقة تغني مع الدانتيلا وسط أزرق السماء والرمادي، تصبح الطبيعة حول فلتس القادم لباريس ملهمته، كراسته تسبق ذراعه وتخرج من كتفه وترسم الإبرة الروترينج هذه الخيوط والخطوط وعقد النبات الجافة التي ما زالت متعلقة بالحياة برغم مرور السنين.

 

تقف إلهة من الآلهة شامخة فوق الحجر وتحت قدميها العاريتين نافورة ماء يتناثر حولها الرذاذ والحمام، تحرك أنامها برشاقة فوق أوتار قيثارة تصدر أنغامًا رائعة والحروف البارزة حولها تبدو وكأنها تؤرخ لحياتها، تلتحم أغصان الشجرة الفتية وتتشكل مع الحجر في كتابات هيروغليفية جميلة كأن كل حجر هو روزيت، وكل خط محفور هو "كلمة الله" بكل اللغات.

 

يرى العناق في كل شيء، في ذراعي الحبيبة، وفي فروع الورد، وفي البراعم الجديدة، في الزجاج المعشق، في الفاترينات ونوافذ الكاتدرائيات.

 

في المساء عند القدمين تشتعل بالضوء فوانيس وبيارق محمولة على أذرع من الحديد الأسود المزركش في زهور سوداء، ما بعد موت النبات وخلود الأشجار ورعشات ماء السين في اتجاه فرساي، ويقبل السياح فرادى وجماعات في بناطيل زرقاء ممزقة، تحمل بداخلها ذات الجمال للملكة الأسطورية العارية من البرونز فوق نافورات الماء وفوانيس المساء.

 

عندما تمطر يصبح الطريق بلاج بحر هائج والناس تسبح بالمعاطف الغليظة وجلود الحيوانات، يسرعون الخطى كأنه يوم الحشر ويتشعلقون بالرصيف ويستندون إلى أسوار الجسور والماء تحتهم وفوقهم وعلى أكتافهم وكلهم يخفضون رؤوسهم تحت أقواس من مظلات لامعة مبتلة ولكنها تقطر الماء من الجوانب فيصبح السير تحت المظلة انغلاقًا على الجسم وعلى النفس.

 

وإذا كان اثنان تحت المظلة فلا بد من الاندماج والالتصاق حتى يصبح التحاما بالجسد، وهي علاقة مؤقتة حتى الوصول إلى الداخل، المقهى أو المنزل أو المسرح. ومن الممكن أن تطول اللحظة المؤقتة لتصبح علاقة جديدة أو صداقة، لكن أغلب الظن هو الافتراق بعد المطر.

 

ويستمر لمعان الأرض في شوارع باريس تحت المطر ويتحول الأسفلت لكاميرات تنعكس عليها أضواء الفوانيس وأضواء السيارات الخارج من سيارات مسرعة ويصبح لها انعكاسات مماثلة على طول الشارع الكبير والأوتوستراد، إلا أن العاطفة مع المطر تشتعل وكأنها نار دافئة، فتزن الرغبة للطبق الساخن والجسد الدافئ ويصبح إشعال المدفئة بالخشب متعة مع البطاطس والاستيك الساخنة.

 

يسقط فلتس مع ماء المطر، يجرفه تيار الماء فيذوب كقطعة جليد كانت مشتعلة، وينفذ جسده من فتحات البالوعات، كراسته تذوب مع الماء وتتحول رسومه إلى لوحات أكواريل تجريدية، يتمنى أن يتحول الماء إلى زيت، فلا يغرق فيه، لأنه يعشقه، كلما ذابت الألوان فيه تصبح لوحته صلبة بعد أن يجف الزيت، يعود إلى الماء مرغما كل صباح ومساء في شتاء باريس، باردًا مهزومًا لا يفهم لماذا يكون كل ما حوله مبللًا بهذا الشكل، ينتظر الجليد لينقذه من البلل.

 

المطر يسقي حقول العنب المنتشرة في أنحاء البلاد، شجيرة العنب قصيرة كقزم، قريبة من الأرض الأم كطفل رضيع لا يتركها، ليست عملاقة ولا متسلقة ولا تثرثر بفروعها حول الباب والنافذة وعنق الفتاة وأردافها، ولا تستخدم مثل ورقة التوت بين فخذيها.

 

"أوجست" أمام السوربون تتساقط خصلات شعره على جبهته في تجاعيد النغم وترتيب المشط، يغطي جسمه العملاق رداء حريري ذو ثنيات كثيرة جدًا، تحجب تفاصيل جسده الجميل.

 

ولكن الثنايا تجذب النظر كأنها تكشف ما تحتها من غموض تخرج منها يد بأصابع تتكلم كأنها كانت للتو تتحرك، ضاغطة برقة، كعناق دوسيه لورقة واحدة ملفوفة ألف مرة.. تخرج أصابع يده اليمنى كأنها تداعب الهواء حولها أو كأن هناك ريح صغيرة تصعد وتريد إيقافها وفي اتساع الكتف ودوراته تبدو وكأنها تهدهد كتف طفل لا نراه.

 

البيوت العالية قصور ذات أسقف كالتيجان الهائلة النسب والأبعاد كأنها غطاء الكرة الأرضية تزورها الشمس أحيانًا، وتشقها سحابات وتسبح حولها أخرى لونها لون الغيوم تتدرج من الرمادي الأقرب إلى الأسود إلى البرونزي اللامع.

 

بواباتها أقواس نصر مفتوحة، على الرغم من أن النوافذ تكون مغلقة والزجاج شفافًا.. لا مخلوق يخرج منها أو يجلس في شرفاتها أو خلف زجاجها غير أنه في الخارج يمكنك أن ترى سيدتين نصفهما عار والباقي متدثر في لفائف وعباءات، السيدتان واقفتان كإشراقات الصباح، لأنه في المساء لا يراهما أحد من تحت القوس الحجري الذي يغلف سقف النافذة، ثنيات القماش تندمج مع ثنيات اللحم وانحناءات الحجر تخرج حية خالدة تعلن عن روعة فن النحت الذي يخلق من الحجر حياة مستمرة لا تتوقف ولا ينقصه سوى أن يتحرك ويخرج من نطاقه المتماسك على كتف عمود أو على قمة قصر أو فوق البوابة الأسطورية للإتوال، حيث يقف شامخاً على قمة الكرة الأرضية كما الأهرام وبرج بابل.

 

فلتس يرسم قوس النصر في كراسات عديدة

 

إنها أيقونة الثورة والحرية  

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز