عاجل
الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
اعلان we
البنك الاهلي
من مذكرات جورج بهجوري.. "أيقونة اللوفر" "2"

في عيد ميلاده التسعين

من مذكرات جورج بهجوري.. "أيقونة اللوفر" "2"

رأيت باريس من خلال متحف اللوفر، خرجت ممتلئًا بباريس منذ العصور القديمة حتى الجداريات المعروفة.



 

جلست وسط الأزهار الجميلة هنا وهناك، أتأمل رؤيتي لهذا العالم الجديد المتجدد، حولي العشرات من الخارجين مثلي من اللوفر، وسط الساحة الكبيرة المتنوعة، يخرجون من ذات الباب إلى العالم اليومي الحديث بمقارنات جديدة في العقل، وأخرى بين القديم والجديد".

 

يطل "فلتس" برقبته التي لا تكاد أن تخرج من كتفيه إلا بصعوبة، ويتطلع إلى أعلى قمة في القصر الكبير وسط باريس، إنهما يعبران الأسقف الرمادية في قفزات واسعة، إنه قابع تحت قصر اللوفر، يتأملها، هذه هي عروس أحلامه، لقد جاء باريس خصيصا لها، في لحظات نادرة يسحب من تحت إبطه كراسة رسمه ويرسم بالحبر الجاف في قلمه الروترنج الأسود ذي القبعة الحمراء، ويملأ ويدون في الصفحات حتى يختفي الضوء وتغرب الشمس.

 

عيناه تتابعان وتتسلقان جدران اللوفر حتى تصلا إلى أعلاه، "الفارس" ملك يرتدي خوذة إله، ويصبح مع صيحة حصانه، تتداخل عضلاته الأسطوانية وصدره العاري مع عضلات حصانه، وكلاهما يقفز في حركة واحدة كأنهما توأمان أحدهما إنسان والآخر حصان، يركضان نحو السماء الرمادية، ويكاد الأزرق الصافي يخترق الرمادي فتتحول الأحجار إلى كائنات بطولية.

 

فخذ "فينوس" العاري يعانق رقبة الحصان الطائر، والسحب الوردية داخل سقف اللوفر تخفي نصف جسدها العاري، وتتحول بعض السحب الصغيرة إلى ورود حول أطراف أصابعها وأقدامها وبين فخذيها، وفي عناق ثدييها، وسحب رمادية صغيرة بعيدة تبدو كقطيع من الأغنام، كأنها جمهور يتفرج ويهلل ويراقب في نغمة خاصة تنسجم مع الصهيل وصياح الفرسان، ويصبح تعبير الوجه معاناة مع الحب وصراع مع الأمل وعشق جسدي دائم، وأطراف الأصابع تحتمي داخل الصخرة، وكتفها العاري يصبح جزءا من الصخرة، وتنثني عظمة الترقوة مع حركة الذراع عند الثديين فتضيف ملامح جديدة لجمال الصخرة ذاتها، شعر "فينوس" الذهبي تاج له خط واحد، شعرة واحدة طولها ألف ميل، لو لمسها لسقط التاج وانفلت الخيط منسابا على الظهر، يكسو الكتفين حتى الردفين، إنه خصلات تبرق بخيوط مرمرية.

 

"رأس سقراط" بجمجمة بيضاء تلمع مع الحجر، والعينان غائرتان في اتجاه مستوى النظر كأن النظرة تدخل أعماقه ولا تخرج، ولحيته تتلوى كفروع نبات في الربيع عندما يقف عليه أحد الطيور المزركشة والشفاه مختبئة بين الشارب واللحية، تعتدل في خط مستقيم كأنه يصلي.

 

وتخفي "سانجيز" نصفها السفلي بستارة من الستائر وتتلمس أصابعها بعض أجزاء جسدها التي اختفت، ويقفز كيوبيد حاملا القرص والسهم، تهتز أردافه الصغيرة ويطير، ويتأجج خيال "فلتس" فيرى نفسه بينهن محلقا في عصرهن وبلباسهن.

 

"ساتير" جسد رجل وأقدام حيوان رقيق رشيق، سرواله، من ريش النعام، يعتلي كتفيه جسد نيفين، رأسه ولحيته بين فخذيها، يضحك ويقهقه بصوت عال منتظم، لحيته الحمراء الكثة تتصل بطرفي شاربه، وتنهض الحبيبة لتعانق بذراعيها الصاعدتين أفرع العنب وتقطف حبة من حباته.

 

"جوبيتر" يتستر جسده بغلالات ممزقة من جلود الحيوانات، يتطلع بعينيه الغارقتين خلف حاجبيه الكثيفين ولحيته التي تصنع إطارا لشفتيه إلى طرف رداء حبيبته "انتيوب"، يرفع طرف الرداء الطويل الأيض ذا الثنيات المنسابة مع خطوط جسدها، وهي مستلقية وسط طبيعة حية عنيفة، الخضرة والشجر والنهر تحت سماء بها شفق حمرة الشمس. من بعيد يركض حصان وراءه وكلب يعانق رقبة رفيقته.. وتخرج من وسط النباتات البعيدة امرأة في جسد عار تتودد إلى حبيبها مفتول العضلات وتبثه غرامها.

 

على شاطئ البحر تعانق البجعة آلهة الجمال فتلتوي رقبتها الطويلة حول رقبتها وتداعب ثدييها بمنقارها العطوف وتسبح في جسدها حتى الفخذين والردفين، فيصبح ريشها حول خصرها ويجدد النشوة والإحساس بالجنس.

 

"الصياد" في قاربه الصغير وسط البحر، يتنبأ بالعاصفة القادمة وظلها في السماء، يستقبلها بذراعين مفتولين ونظرته تغوص في الغيوم تتهلل أساريره ينادي الحظ والبطل في أعماقه يعاند القدر موقنا بالانتصار.

 

"الانتصار"، جسد عار شامخ في كبرياء، والنهد متقدم كإصبع يشير إلى الأمام، والوجه باذخ النبل والرقبة تستند على كتف قوي وترقوة أمامية بارزة والذراع يمسك برأس السيف الكبير الذي يلامسه طرف الأرض ويبدو بمقبضه الفضي ونصله الحاد كخط قوي لا يمكن أن ينثني، يرتكز على الأرض وحوله جسد عار لفتاة في العشرين، خلفها تفاحة لم تسقط بعد من على الشجرة تمسك بيدها طرف غلالة شفافة هفافة، قد تكون من القطن الكتان الحرير الساتان، لا تخفي شيئا من الجسد، لكنها تجفف العرق وعطر الحب.

 

رحيل "أدونيس" وسط طبيعة بكر كأنها بداية الخليقة بجسد شاب في العشرين يخفي أعضاءه بغلالة حول وسطه تسقط في ثنيات عديدة حتى فخذيه، يعانقه "كيوبيد" وتتعلق حبيبته في رقبته، ويخرج جناحيه من ضلعيه ويرشق بسهامه العاشقين، والبجعة البيضاء من خلفهما تنشر جناحيها حولهما وتداعب بمنقارها خلفية الحبيبة و"أدونيس" مستند على فرع كبير من الشجر، يشق طريقه بأقدامه العارية وكأنه يعرف الطريق، وحصان صغير يركض في وداعة تجاهه، ونمر يتربص بهما في حزن، وكلب عملاق يخطو بعيدًا بساقين رشيقتين مرتفعتين عن الأرض، ويبدو من نظرة عينيه أنه يعرف قصة حبهما التي تنتهي في وداع حزين.

 

"إيفا" تقف عارية. وحولها أفرع نباتات الخليقة كلها يهمس في أذنها الشيطان الجميل، متدثرًا بأغطية كثيفة تستند إلى جذع الشجرة الضخمة خلفها، وتنتعش كل خلية في جسدها وترتعش بشرتها الناعمة في طمأنينة.

 

"السنتور" وحش طيب له من الإنسان رأسه وجسده ومن الحصان بقية الأجزاء تصعد إليه حبيبته "ثيتيس" عارية، يمسك يدها بقبضته الفولاذية، وتربت على يدها الناعمة، وشهيق الرهبة مع الإعجاب، وفي التصاق جانب وجهها مع جانب وجهه بلحيته وشعره الكثيف سخونة وحرارة، والمعطف يطير حولهما مع الريح كأنه جناح طائر، وتقبض يده الأخرى على نهاية قدمها اليسرى؛ فيجري الدم في شرايينها مشتعلًا بالحب وساقا الحصان تستعدان للركض.

 

على سطح سفينته ينام "أوديسيوس" منهوك القوى، بعد رحلة صراع مرير مع الأمواج والأهوال ينام على شاطئ "سيخيريا" وتقترب منه "ناوسيكا" بجسدها الغض الناعم، تصحبها وصيفتان تنظمان جدائل شعرها الذهبي وتتلمس أصابعهن خطوط عضلاته وتداعب لحيته ورقبته وسترته. ظل الثدي على البطن أكبر من حجمه، وظل البطن على ما بين الفخذين يعيد الخلفية إلى الوراء أكثر فتتقدم الساق والفخذ وتنثني الركبة ويصبح كعب القدم العاري فوق رأس البحار الغارق في أحلام انتصاراته.

 

وتتجه أنظار الجمهور المزدحم حولي في اتجاه "دافنشي"، حيث يتابعون سهامًا تدل على غرفة "الجيوكنده" المرأة أو الملكة غير المتوجة، التي تبتسم أو تحاول الابتسام "موناليزا" وحولها روائع "دافنشي" المحفوظة من الكتب، وليست "الجيوكنده" أروعهم على الإطلاق، إلا أن بها ثباتًا عجيبًا في جلستها الأبدية وروحانياتها ليس لها مثيل وسحر المنظر الطبيعي خلفهما لماء نهر وأشجار وجسر وطريق يعبر إلى الجنة.

 

وسر "الجيوكنده" في الوجه والعنق والشعر والأصابع والخلفية للطريق المتلوي بين الهضاب الخضراء يجعلها تقترب من الفن المصري وفلسفته في الخلود؛ لأن الطريق خلف "الموناليزا" طريق خرافي، يتميز المشاهد أن يتبعه بقدميه، ولكن الأساس هو العينان اللتان تجتذبانه إلى أعماق بعيدة في اللا شيء أو المنظور اللانهائي.

 

وتبزغ لوحات "دافيد" في لوحة "بروتس" يحمل جسد ابنه ويفاجئ نساء العائلة بالمشهد الرهيب، حيث يبدع في تلوين النساء نصف العاريات على اليمين والرجال على اليسار، فتصبح الدراما التاريخية في شكلها اللوني المبهر وتكوين اللوحة المركب الدرامي ما بين بكاء رجل عجوز وصراخ امرأة.

 

وتقتصر حياة "جيريكو" في عام 1814 على أروع لوحة للفارس مع الحصان الثائر.. رغم أن حياته لم تبق طويلًا فمات شابًا عندما سقط من حصان ذات الفارس الذي رسمه مجروحًا.

 

وتنتقل لوحات اللوفر إلى "ديلاكرواه" الذي سجل أول لوحة عن الثورة الفرنسية عندما شقت المرأة صدرها فظهر ثدياها عاريين، وهي ترفع العلم الفرنسي من الأزرق والأبيض حتى الأحمر، وهي عادة الغضب عند المرأة بشكل عام.

 

لوحة "المدرسة الفرنسية" "لديانا دي فونتانبلو" تخرج إلى الطبيعة عارية، وعلى كتفها أسهم ورماح الصيد وقوس ذهبي في يدها اليسرى، وعباءة حريرية تتدثر بها، والحرير حول خصرها ونهديها وخلفيتها فتزيد خطوط ثنيات العباءة خطوط الجسد العاري صافية على أرض ناعمة مزروعة بالورود والأزهار، والكلب من لون بشرتها يقفز حولها انتباهًا للصيد، وبأعلى اللوحة شجرة هائلة الفروع والأوراق الخضراء، يشقها النور القادم في منتصف اللوحة، فتبدو لمعة الأصفر الذهبي على سيقان الشجرة وسيقان "ديانا" الفاتنة. وتظهر لوحة "دي لاتور" للسيدة الأرستقراطية التي تلعب الورق وتغمز بعينيها لأنها تغش وتكسب.

 

يظهر "أمنمحات" فيلسوف حكيم مصري، "وخعموسيت" يعقد ذراعيه على صدره، الواحدة بعكس الأخرى حاملًا رموز الآلهة. سحر الجناح المصري في اللوفر أن المشاهد يتلقى بروح نادرة متصوفة نقية باهرة الذكاء، والبريق في العينين مشتق في كل مثال من بريق عيون القط التي هزت المصريين القدامى، واعتبروا أن أي بريق هو بالضرورة قادم من السماء، من الإله، لذلك كثرت مومياوات القطط، ووضعوها جنبا إلى جنب مع الآلهة وكذلك الكلب والأسد والثور.. وانبهروا بالكوبرا وأي ثعبان لأنه يعمل لمعة الذهب في كل مكان من جسمه.

 

لذلك يتميز الجناح المصري والآشوري والسامري والبابلي، سواء في رسوم الفريسك أو في المنحوتات بسمو الروح النادرة وقداستها.. أما الفن الغربي الذي تزدحم به جدران متحف اللوفر وغرفه فهو بريق أجوف يرتبط بالحياة العامة على الأرض، ورغم اللوحات الملائكية والدينية إلا أنه يسرد قصص التوراة والكتاب المقدس، ولا يرتبط بفلسفة الحياة والموت والخلود كما في المصري، حتى استكانة الأصابع على الفخذ أو على المقعد الوثير تختلف في الفن المصري القديم عن أشباهها في فنون الحضارات الأخرى.

 

ويقول "تولوز لوتريك" بعد أكثر من قرنين أن لوحات اللوفر تثيره جنسيًا، بسبب البراعة في تصوير العري وملمس الحرير الشيطاني "الساتان" وثناياه وقماش الدانتيلا، الذي يخفي وراءه أسرارًا وينقل كثيرًا من الشهوة إلى المتفرج، ويقلل من الروحانية، حتى في لوحات الملائكة ذات الأجنحة، ويقول "بيكاسو" في قرن تالٍ بأن لوحات اللوفر كلها سوداء معتمة، وأنه لا يوجد أسهل من رسم الوجه مضيئا واليدين، ثم تكملة أبعاد اللوحة باللون البني القاتم الذي يندمج كثيرًا مع الأسود، وأنها موضة ذلك العصر القديم، التي أساءت إلى تجارب الفن المتطور، والسبب يبدو واضحًا، هو نفاق الفنان الرسام في تمجيد شخصيات القصر ورجاله دون الاهتمام بالفن الرفيع، فرسموا وجوههم للتخليد فقط ونحتوها أيضا بالحجر والرخام.

 

لهذا السبب تحمس الناس في أوروبا بشكل عام باتجاهات المدرسة التأثيرية، لأنها إشعاع اللون في الطبيعة، ولأول مرة يخرج الرسام بحقيبة ألوانه وحامل الرسم المنثني المطبق على نفسه عدة مرات ليفتحه أمام المنظر الطبيعي ومعه مقعد من ذات النوع ليجلس عليه ويرسم الطبيعية الجميلة أمامه، إلا أن المذهب التأثيري لم يعش طويلًا بسبب سوء الأحوال الجوية ومفاجأة الريح والغيوم والرعد والمطر، فيهرب الفنان إلى الداخل.

 

تطير الملائكة في أجساد الأطفال المستمتعين بالصحة والسمنة حول سحب رمادية في لون الفضة، وتتعلق بأجنحة الأشجار، وهي فروعها، وهي تروي ماء نهر السين يجري إلى اللوفر ويمر تحته وبجوار جسره ويعطي علامة إلى كل مخلوق خالد بداخله منذ الإغريقي والروماني واليوناني والمصري والآشوري، هنا "دانتون وفولتير" إنه يبحث عن أيقونته، إنها هنا.. في كل مكان وأصبحت ملونة.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز