جورج بهجوري
في عيد ميلاده التسعين
من مذكرات جورج بهجوري.. "الهيبيز" "4"
بعضهم يغني في أنفاق المترو أو يرسم على البلاط أمام مركز بومبيدو أو أعلى مونمارتر، أو بعض العملات لتكملة الرحلة. قراءاتهم العديدة ومناقشاتهم تثير "فلتس" وتساعده أكثر على معرفة العالم من خلال أطفاله الذين كبروا ونضجوا وعرفوا الحب والتجوال.
يجلس على حافة نهر السين، قدماه القصيرتان تلمسان ماء النهر بعد أن خلع حذاءه وجوربه، ينحني بيده حاملة الأيقونة، فتلمس سطح الماء في السين لتلتقي بماء النيل، على ركبتيه تضع رأسها فتاة من الهيبيز تقرأ في كتاب وتقضم قطعة من الخبز الساخن وتدخن سيجارة ذات دخان كثيف ولا تتكلم وسط زحام الشباب في جزيرة السيتيه وسط السين، يشعر بأنه واحد منهم غير أنه لا يناقشهم ولا يحادثهم فهو يفهم لغتهم ولكنه يرى ويراقب ويسمع ويستمتع.
ويتذكر جلسته على كوبري قصر النيل، وقد طالت ساقاه المتدليتان القصيرتان حتى وصلتا من أعلى الجسر وداعبته سمكة الصياد في قارب وأنعشته موجة نيلية قادمة من إمبابة.
أخي العزيز
ما ذكرته عن الاستوديو الذي تعيش به يجعلني أقول: اهتم بالتدفئة، خوفي من البرد جعلني أعيش في رعشة دائمة، وأحيانًا أزيد التدفئة لتصبح فرنًا، ومن الصعب تكييف المكان بحيث يكون ملائمًا، سررت أيضًا لأنك تشعر بالتطور المهم في رسومك، وباحتفاظك بطابعك الخاص، على الرغم من وجود الأثر الغربي، وأنا واثق بأنك ستصبح رسامًا مرموقًا في المستقبل.
كويس إنك بترسم على ورق محترم، لأن أكثر رسومك التي تركتها هنا على ورق جرائد أو كشكول، وبالنسبة للبراويز، أنت كلفتني كثيرًا، لأنك ترسم على أحجام غير معروفة، توجد براويز جميلة سعرها معقول للأحجام العادية، أما الرسوم المربعة فلا توجد لها براويز ولا بد لها من تفصيل خاص.
سأرسل لك بالبريد العادي، بالطو أسود صوف ممتاز، ولكنني لا أستعمله حاليًا، فإذا كان عليه جمرك كبير أو لا يعجبك فيمكنك أن تتركه، وعلى أية حال سيأخذ شهرًا على ما يوصل كذلك عندي غطا سرير، ربما يعجبك سأرسله لك أيضًا.
يجلس مع الهيبز في جزيرتهم على كعب تمثال برونزي لهنري الرابع ممتطيًا فرسًا ومشيرًا بيده تجاه النوتردام، تلتقي هامته مع سحب السماء وتتناثر حوله أجنحة الحمام، على كتفه، وعلى رأسه حمام وحوله على الأرض، ويعلو على شكل حرف التاء ثم يهبط، ثم يركض ويعيد الكرة عشرات المرات، أجساد بشرية ترتدي الجينز الأزرق الممزق، شلحاء عند الركبة، أقدامهم العارية تنغمس في مياه النهر العريق.. هنا يجلس شباب كل عصر متحفزًا لثورة ممهدًا لفكر جديد.
بينما يحتسي صعلوك "كلوشار" باريس، آخر قطرة من زجاجة النبيذ الرخيص في يده، وينام تحت جسر "ماري" وجدار هائل مزركش بثنيات الدانتيلا الحجرية يحرسه، ترتل بداخله آلاف الملائكة في أردية بيضاء شفافة، الجدار يربط ما بين الأرض والسماء والحجرة بللها ماء المطر فأنبتت براعم خضراء صغيرة بين حروف الحجر وحطت حمامة وردية لتقبل الفرع النباتي وتلتقط حبة حنطة قبل أن تلقي بآلاف الحبات وتصبح رغيفًا طويلًا من المخبز الذي يسير على جانب كل إنسان في باريس يحمله في الذهاب والإياب طازجًا ساخنًا ويقضم حافته المستديرة بأسنانه يمضغها في طريق عودته إلى العشاء.
ويزحف شباب الهيبز في ستراتهم الزرقاء البالية، يحتلون نواصي الأزقة ويلتهمون ساندويتشات الشاورمة والفلافل ويضحكون ويتعانقون ويستقر بهم تجوالهم في حديقة "السيتي" و"القديس لويس" وخلف تمثال "هنري الرابع" الفارس الأكبر.
الهيبز شباب متوقدو الذكاء، تواقون إلى التغيير، منهم المثقفون والعمال وأصحاب الحرف، مظهرهم يسيء إليهم، فهم لا يتأنقون، القميص غير مكوي، والبنطلون بدون كسرة سفلية، ممزق ورث ولا لون له، ولا مكان للبلد والياقات المنشاة، تجدهم متسكعين على الأرصفة وعلى حافة نهر السين وجسوره في "الساكركير"، ويختار مقهى من النوع الرخيص، ولا يدخل "البراسيرات" وهي "الباتريموان، أي تراث فرنسا"، منذ المقهى الثقافي في زمن ما قبل الثورة لدى الأرستقراط وعلية القوم، وطبقة لويس الرابع عشر حتى السادس عشر والثامن عشر.
إنهم يجلسون في المقهى حتى الصباح، ينادون القهوجي باسمه، لأنه في الغالب واحد منهم، يتطوع للعمل باليوم ويرحب به صاحب المقهى الجالس على الخزينة.
يرى صاحب المقهى أيقونة "فلتس" ويتابعه وهو يرسم، ينحشر خمسة منهم في أريكة قديمة لها جانبان ولا تتسع لأكثر من ثلاثة أفراد، يمضون الليل حتى الصباح وهم يغنون ويشربون ويمرحون، معظمهم غير فرنسيين وأتراك وبولنديين وفنلنديين ومجريين ورومانيين، وفتيات من أمستردام أو بروكسل أو هلسنكي، أو بلجراد وبوخارست وصوفيا وإسطنبول، تجمعهم الغربة الباريسية هذه الأمسيات كانت ممتعة حقًا لأنها كانت سمرًا دائمًا وتعارفًا مستمرًا على أشخاص وأصدقاء جدد من كل بقاع الأرض.
تمسي الليلة ممتعة مرتين، لأنها تتحول إلى سمر دائم مع مجموعة جديدة كل مساء، وطرب للأذن بعد الاستماع إلى لهجات من كل حدب وصوب، واكتساب صديق أو صديقة، وربما يتطور الحديث إلى ماركس وروايات ديستويفسكي "الجريمة والعقاب، ومعطف جوجل"، فيتذكر "فلتس" معطف شقيقه الأسود الصوف الذي يرتديه، والذي ركب السفينة ثم القطار من أمريكا ليصل إليه من حسن حظه قبل أن ينتهي الموسم، وممتعة مرة أخرى لأن "فلتس" يملأ صفحات كراسته ويرسم حتى الثمالة مع كوب البيرة الأول حتى الأكواب التالية التي يقدمها له واحد من الهيبيز ردًا على هديته في رسم وجهه بطريقته.
وشاب الهيبز عادة يتفق مع جارته في قريتهم البعيدة في هولندا أو بولندا وصديقة طفولته والتي تكبر معه على الرحلة الصيفية بلا ترتيب لمجرد الخروج إلى العالم القريب ليصل أو يمر على لندن وباريس في أغلب الأحيان، ويصبح رغيف الخبز العصا الطازج من أي مخبز هو ثالثهم يقضمون منه دون حشو إلا إذا تيسرت حالة الجيوب.
بعضهم يغني في أنفاق المترو أو يرسم على البلاط أمام مركو بومبيدو أو على مونمارنر أو بعض العملات لتكملة الرحلة. قراءاتهم العديدة ومناقشاتهم تثير "فلتس" وتساعده أكثر على معرفة العالم من خلال أطفاله الذين كبروا ونضجوا وعرفوا الحب والتجوال.