
حب بالدم
بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني
بعض الكتاب يجرح نفسه حتى إذا ما رأى الدم يخرج من جسده آمن أن داخله في حالة تواصل مع العالم. حينها فقط يستطيع أن يكتب. وهذه الفكرة الدموية تجعلك تسأل نفسك : (هل الكتابة مستبدة إلى هذا الحد؟! هل الكتابة تملكك عن طريق إيحائها لك بأنك تملكها؟!) إنها حقا قضية لها طابع خاص يشبه طابع الوحي والتعامل مع الأشياء الخياليةوالروحانيات. فحتى لو لم تكن كاتبا كبيرا. صدقني إن مجرد تعاملك مع أداة كتابة سيجعلك تشعر بتغير في فصيلة دمك.
الأمر أكبر من أن يكون عادة يومية أو طبعا مكتسبا.. فهذه الكتابة تتقمصك ولا تتركك حتى في أصغر تفصيلات حياتك. عندما طبقت الأمر على نفسي وجدت بعض الطبائع الغريبة التي لم ألحظ تكونها لدي حتى اكتملت وتحكمت. فعندما أرغب في الكتابة ولا أكتب يبدأ لدي الشعور بميل كبير للأكل. وكأنها داخلي تريد الأكل حتى تخرج للورق أو شاشة الكمبيوتر وتستطيع اصطياد فرائسها وحدها. وهو ليس أي طعام بل إن الموضوع الذي يلح علي لكتابته يطلب مزاجيا أطعمة معينة. فرغم أني لا أحب السكريات إلا أن شعوري بالرغبة في الكتابة عن اللحظات الحزينة تجعلني شرهة جدا للسكر حتى أنني -وأنا العاشقة المخلصة للقهوة المضبوطة- أزيد سكر قهوتي. وعشاق القهوة يعرفون أن سكر القهوة عقيدة لا تتغير إلا تحت نير عقوبة شديدة.
عندما أهرب من الكتابة تستطيع هي أن تهرب بي من العالم. فأجد صعوبة في البقاء في أماكن محددة أكثر من دقائق ثم أشعر بقلق شديد قد يصيبني بانزعاج من التنفس. وعندما أكتب لا أحب أن تلمس قدماي الأرض وهو أمر لم أجد له تفسيرا منطقياحتى الآن. لكنني أشعر بعرقلة في الكتابة حين تلمس قدماي الأرض. ولا أحب الكتابة وأنا أرتدي لونا واحدا. ولا أستطيع الكتابة بعد مكالمة هاتف أبدا مهما ألح علي الوحي. إذ يتحول الوحي حينها لحالة الجوع أوالهروب.
لو شاهدت الأفلام القديمة ستجد أن الكاتب كان كثيرا ما يكتب بعد أن يستمع لصوت ماكينة الآلة الكاتبة. إذ يتخلى عن عدد من الأوراق لمجرد أنه يريد سماع الآلة تعزف بأحرف سيرميها. بعد قليل يظهر أبطال الكتابات على الورق. وكل من يكتب يحتاج لصوت معين. أؤمن بذلك. لكن بعضنا يستطيع تخيل الصوت وبعضنا يريده حاضرا واقعيا. الماء بالنسبة لي هو كلمة السر. وأستطيع تخيل صوته معظم الوقت وألجأ لصوته الواقعي حين أحتاج الكتابة فورا.
أنت لا تحتاج أن تكون كاتبا عبقريا مخضرما حتى تملك عادات للكتابة. فهذه الكتابة المستبدة جدا تتسلط على كل من يكتب حرفا. حتى لو كان حرفا هاويا ضعيفا لكنه إنتاج منك للحياة. وعندها تبدأ في تلبسك ، وتطلبك متى ما أرادت هي ، وإلا فإنها تجعلك تطيع أوامرها في تصرفات غريبة لمجرد أن ترى طاعتك لها بعينيها. أنت تشرب وتأكل وتتحرك بل وتمرض أحيانا ﻷنها هنا وتريد أن ترى ذلك. مع ذلك هي الجميلة التي تتنزل بردا وسلاما.. أليس هذا هو الحب في أقوى صوره؟!.. طبعا منك وليس منها.. فهي تحب أو لا تحب حسب ما تريد.. هي المعشوقة.. والمعشوقة دائما..