لم يكن قرار البنك المركزى برفع سعر الفائدة مفاجأة لكل من يتابع ويرصد تصاعد الأزمة الاقتصادية العالمية، وخاصة بعد قيام البنك الفيدرالى الأمريكى برفع سعر الفائدة للمرة الأولى منذ سنوات لاحتواء نسبة تضخم غير معهودة منذ عقود فى الولايات المتحدة، ومن بعدها قيام البنوك المركزية فى عدد من الدول الخليجية بالإجراء نفسه.
كان من الطبيعى أيضًا أن يتحرك الدولار أمام مختلف العملات؛ لأنه بمجرد ارتفاع سعر الفائدة فى الفيدرالى الأمريكى يتم الطلب على الدولار بشكل غير واقعى، وهو ما جرى وتأثرت 98 عملة على مستوى العالم، بعضها كان قد أخذ فى الترنُّح قبل حتى الأزمة الأوكرانية مثل الليرة التركية وتضاعف الأمر بعد تعقُّد المشهد الدولى بين معسكرى «الشرق والغرب».
على مدار الأسابيع الماضية كنا نرصد قبل اشتعال الأزمة الأوكرانية خطورة الأمر على الحال الاقتصادى العالمى، وهو ما حدث ومعركة الطاقة تفرض نفسها، واجتماع «أوبك» القادم سيكون حاسمًا إلى حد بعيد فى معطيات سياسية بعيدة المدى بدأت إرهاصاتها تظهر الآن بين الخليج وواشنطن، فى ظل اتباع سياسة بالغة البراجماتية من قبل واشنطن تلعب على التناقضات الإقليمية لتحقيق هدف واحد فقط هو تعويض ما تنتجه روسيا من النفط، وبالتالى ينخفض سعر برميل البترول الذي وصل 120 دولارًا عند كتابة هذه السطور بغض النظر عن الأمن القومى للدول.. بغض النظر عن الخطوط الحمراء فى سياسات الدول.. بغض النظر حتى عن المصالح الاستراتيجية التي تجمع واشنطن بهذه الدول.
ولكن وعلى ما يبدو .. فإن قرارًا استراتيجيًا قد اتُخذ فى دوائر صناعة القرار الأمريكية بإعادة صياغة اللعبة الدولية كلها حتى وإن كانت تتم بحذر، فإنه من الصعب العودة لما كان قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية.
فى المقابل، فإن روسيا هى الأخرى لم تحن بالنسبة لها لحظة التفاوض الحقيقية.. لأن المشهد لم يخرج منه أحد مهزومًا حتى اللحظة لكى يفرض المنتصر إرادته على المهزوم فى التفاوض.
وسط هذا التشابك الذي يستقدم كل يوم أطرافًا متداخلة مع الأزمة.. ألقت الأزمة ثقلها على الاقتصاد المصري الذي يمتلك مناعة تجعله يصمد مثلما صمد أمام جائحة كورونا، ولأجل حماية هذا الصمود كان القرار الجرىء واجبًا حتى لو كان مؤلمًا.
قبل القرار بأيام قليلة كانت السوق السوداء للاتجار فى العملات الأجنبية قد أظهرت حالة شك وهلع فى الأسواق وسط زخم مهول من الشائعات كانت تستحق الحسم وهو ما جرى.. ويكفى أن ترصد كم الشبكات الإجرامية التي تم ضبطها للتلاعب فى النقد الأجنبى، فضلًا عن المخطط الذي تحرك سريعًا وضبطته الأجهزة الأمنية المصرية من خلال عصابات تقوم بجمع أموال المصريين فى الخارج لتستغل فارق سعر العملة الذي ظهر فى سويعات قبل القرار .
لو كان القرار تأخر يومًا.. كانت الخسائر تضاعفت.. كان كل البناء الشاق الذي تحمله الشعب المصري كان سيتم هدره.. الثقة التي عادت للاقتصاد المصري كانت ستتراجع وتتآكل وكل هذا لم يكن ليغير واقع الأزمة.. لن نكذب على أنفسنا.
لحظة تدبُّر فى كيفية التعامل المصري مع الأزمة تجعلنا نطمئن ونثق فى قدرة دولتنا على العبور منها.. الدولة المصرية ومن خلال توجيهات الرئيس السيسي الذي يبرهن كل لحظة أنه قيادة استثنائية فى عمر وتاريخ مصر، وأن صفة المنقذ ستظل الوصف الأدق عند الحديث عنه فى وجدان هذه الأمة.
اعتمدت الدولة أولًا على المصارحة.. فليس لديها ما تخشاه أو تخفيه.
لم يخرج خطاب الدولة بصيغة «هذا هو الحال وماذا نفعل؟»؛ ولكن جاء الخطاب بالفعل لا بالقول «يمكننا أن نفعل من أجل أن نخفف صعوبة الأزمة على المواطن» وتم اتخاذ التدابير بحكمة ومنطقية.
لم تتخل الدولة عن العمل بجدية، ذلك لأن الاعتماد على الذات المصرية هو طوق النجاة الحقيقى واستمرار البناء والعمران هو الأساس.
هذا المنهج الرشيد يتسق مع «غيبية الأزمة»، فلا أحد يتوقع مداها الزمني والسياسى والاقتصادى؛ ولكن مصر تعرف ما تملك من قدرات ومن أدوات تجعلها تمضى وتتحمل وتنتصر فى النهاية.
وللحديث بقية.



