يتجلى الاستقطاب الحاد بين نعم ولا، وبين مع وضد حول فيلم الست، كخطر جديد على مستقبل الفنون التعبيرية المصرية، ويمتد الاستقطاب الحاد إلى مناقشات وصراعات بين شخصيات عامة مصرية، وبينما تعلو أصوات تأخذ الفيلم خارج سياقه الطبيعي كعمل فني إلى مناقشة حساسيتنا المصرية في استقبال كل ما يتصل بصلة للرموز المصرية، وتأتي الملاحظة الأولى لفهم ما يدور عن سؤال الجمهور المصري، في سؤال محدد هو لماذا كل هذا الغضب؟ والذي يجب دراسته في ضوء مبحث التلقي ودراسات الاستقبال.
وبرصد الآراء المتعددة من النقاد وكتاب الرأي والفنانين والجمهور العام يمكن ملاحظة فريق الرفض والهجوم على الفيلم وتناوله لسيرة أم كلثوم كأكثرية عددية يتخللها حضور نوعي لشخصيات عامة مصرية.
الإجابة تأتي من طبيعة المتلقي المصري والعربي الذي لم يستقر في أفق توقعه وترقبه فكرة قبول السير الذاتية الصادمة، خاصة مع رموزه التي يحبها.
الفيلم كقصدية فنية لم يفكر في طبيعة جمهوره العاشق للرمز، ولم يجد طريقاً لكسر أفق التوقع والترقب بشكل فني يمهد لقبول ما أراده كاتب السيناريو أحمد مراد وهو البحث عن نقطة إنسانية جدلية في الحياة الخاصة للأسطورة.
أما عن السيرة الذاتية لأم كلثوم، وما سجلته بصوتها عن حياتها فمتاح لدى الإذاعة المصرية ومتناثر في كتاب ليس بقلمها ولكن صدر في حياتها وبعض من الأحاديث العامة للصحافة والإعلام.
وفي ذلك كله لم تكسر سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم أفق توقع وترقب الجمهور العام ولم تذكر عن حياتها الشخصية أمراً صادماً، فقط كانت تحاول إعادة روي ما حكي عنها المقربون وما أطلق حولها من حكايات.
الزعيم المصري الكبير سعد زغلول تجرأ وصدم الجميع بحجم مكانته فتحدث عن إدمانه الميسر وكيف كان القمار مسيطرا على جانب كبير من حياته الشخصية، وقرأ الجميع ذلك في سيرته الذاتية التي كتبها بقلمه، ولكنه عبر لأنه اعتراف بالخطأ يشبه الندم على الخطيئة، ولم نشهد أبداً زعيم ثورة 1919 في أي عمل درامي وهو يجلس على طاولة القمار.
ورغم تلك الشجاعة فإن نجيب محفوظ في كل أعماله وبمرجعيته الحرة المؤمنة بثورة 1919 وزعيمها الفذ ظل متحفظاً في كتابة سيرته الذاتية، وقد تجلت بعض من تلك الأصداء في شخصية "عبد ربه" في أصداء السيرة الذاتية وفي أحلام فترة النقاهة كأحلام فنية لا يمكن الإمساك بأصلها الواقعي.
وكان توفيق الحكيم بالغ الحكمة في زهرة العمر، وكان طه حسين أكثر حرية في حديثه عن الصبا وتجربة الكفاح في الأيام.
وكل هؤلاء يعرفون مدى الحرية اللامحدودة التي كتب بها الكتاب والفنانون الغربيون مذكراتهم وسيرهم الشخصية، بلغ بعض منهم مثل الكاتب المسرحي الشهير جان جينيه آفاقاً من الشفافية المدهشة، فقد تحدث عن لصوصيته وانضمامه لشذاذ الآفاق والسلوك في صباه، وتشرده اللامحدود قبل الكتابة والشهرة.
ولكن هؤلاء يخاطبون المتلقي الغربي بطريقة وعيه ومرجعياته المختلفة والتي تكون استقباله للحقائق الصادمة.
وهكذا أدرك رموز الإبداع في مصر طبيعة المتلقي وقدرته على الاستقبال فكان حكيهم لسيرهم الذاتية حكياً يفهم طبيعة المتلقي ويعرف كيف يتشكل الإطار المرجعي للجمهور العام من عناصر دينية وأخلاقية وجمالية ومعرفية وغيرها.
وهذا هو الأمر الذي لم يفكر فيه المخرج مروان حامد في فيلمه الست، وأخذته المغامرة عبر الإنتاج الضخم والميزانية الكبيرة إلى منطقة يغيب فيها التفكير عن ردة فعل المتلقي.
بالتأكيد لا يوجد إبداع حقيقي دون صدمة ودون جرأة ودون كسر لأفق التوقع والترقب للجمهور، بل وشرط الإبداع الجوهري هو إحداث تلك الصدمة الساحرة.
ولكن كيف؟ وبأي الطرق؟ وما الأدوات الفنية المستخدمة؟ وما وجهة النظر؟ والرؤية الإبداعية الإخراجية؟
هذا ما غاب عن فيلم الست في ظل إلحاح متكرر للسعي نحو صور صادمة في حياتها الشخصية وصور مؤلمة لعدد من أبطال قصة حياتها الحقيقية.
المزج بين اللقطات التسجيلية الأصلية والخيال الدرامي دخل بتصنيف الفيلم في اتجاه أفلام السيرة الذاتية، وهو ما يجعلنا نعيد صناعه لطبيعة السير الذاتية التي أصدرها الكبار عن أنفسهم، خاصة مع عدد من الأحداث التاريخية المختلطة ببعضها البعض وعدد من الشخصيات العامة التي عرضها الفيلم بطريقة لا يمكن التحقق من مصداقية تأريخها، ومنها مشهد أمير الصحافة محمد التابعي.
فغياب تلك الدقة التاريخية والأحاديث المتخيلة الملتبسة والتركيز على لحظات الضعف الإنساني والعلاقات الخاصة بشكل غير درامي وغير متصل ويحمل صبغة عشوائية في اختيار الأحداث عبر تقنية التذكر، جعل رؤية الفيلم وطرحه الفكري والإنساني متسعاً ومفتوحاً لدرجة لا تتسق مع ضرورة وجود طرح فكري يتسق مع الطرح الجمالي كما هو متبع في الأعمال الإبداعية.
فلماذا يذهب فريق العمل إلى تلك المناطق الخلافية الخاصة جداً في حياة كوكب الشرق؟ هل يفعلون ذلك كي نراها من زاوية إنسانية؟ وهل تحمل تلك الزاوية تأثيرا مختلفاً لرؤيتنا لها كمبدعة كبيرة وكرمز فني مصري وعربي وعالمي عابر للأجيال، وحاضر للمستقبل؟
هل هو فيلم عن الوحدة والعالم الجاف لشخصية مثل كوكب الشرق؟ هل هو عن معاناتها الإنسانية من أجل النجاح الكبير؟ وهل يمكن اعتبار تلك الزاوية زاوية جديدة لها معنى في إطار رؤية إبداعية مختلفة لكوكب الشرق؟
لا يمكن الإجابة بنعم، لأن تلك الإجابة لا تتفق مع الرؤية الإبداعية للمعاناة الإنسانية، التي تقف مشروطة بشرط جوهري وهو عرض تلك المعاناة بعطف على الشخصية، فالفن عطف على الألم الإنساني، أما عرض الألم والجراح مع غيابها عن السيرة الذاتية لأم كلثوم فهو يفتح أبواباً أخرى للتأويل بعيداً عن العطف الإنساني على لحظات القسوة والألم والحسابات المالية والتدخين وما إلى ذلك، وإن كنت ممن يرون أن تلك المشاهد لا تعد إساءة لها كمشاهد الأرق في السرير والتدخين وما إلى ذلك.
هكذا كان تقديري واستقبالي لتلك المشاهد التي أثارت هجوماً حاداً على الفيلم وصناعه، وربما يكون الهجوم قد حمل قدراً من المبالغة بشأن تلك المشاهد، إلا أن تراكمها هو السبب وراء هذا الهجوم.
كما أن الأثر العام لمجموع تلك المشاهد المشار إليها وغياب المعنى عنها أو التتابع أو الاتصال المترابط جعلها خالية من المعنى وخالية من الشفقة والعطف على عالمها الخاص.
وقد أسهم في ذلك الأثر غياب صوت أم كلثوم ذاتها عن الفيلم، وهو غياب غير منطقي أيضاً، فغياب صوت أم كلثوم قد أسهم في غياب الروح المميزة لها، ولا أحد يمكنه الاقتراب من ذلك الصوت النادر المبدع الذي لا يتكرر.
أما ما يجعلني أنحاز قليلاً في تحليلي النقدي للدراما السينمائية "الست" كي ألحظ عدم الدقة الموضوعية في تصوير عدد من أبطال قصة حياتها، فهي تلك الحالة التي تم تصوير والدها الشيخ البلتاجي عليها، وكأنه كان يعتبرها مصدراً للربح في المقام الأول.
مشهد الأب وهو يفتح يد طفلته أثناء العاصفة ليحصل على عملة معدنية بيدها ثم يتركها تنام كان صادما وحكم صياغة شخصية الأب في مراحله المتعددة معها، وبدت الصياغة وكأن حرية أم كلثوم كانت مرهونة بغياب الأب.
وفي هذا أيضاً لم يتأمل الكاتب والمخرج معاً عالم الريف في قلب مصر الأخضر "السنبلاوين" ولم يحاول تفسير طبيعة الأسرة الريفية، ولم يدرك أن دور الأب العظيم عندما جعل ابنته حافظة للقرآن الكريم كان قد أخذها إلى عالم اللغة العربية وآدابها، وكان فن التجويد هو المدرسة الكبرى لفهم المقامات الموسيقية، كما رسخ في شخصيتها المرجعية الإيمانية التي كانت سرها في وجدها العبقري وتجلياتها الإبداعية.
أما موسيقى الفيلم التصويرية فقد جاءت لمؤلفها هشام نزيه كي تتداخل وتعلق على أغنيات أم كلثوم في تقابل لم يكن منسجماً في تقديري وجعل من الموسيقى التي يلعبها الأوركسترا على تعدد أصواتها اللحنية تبدو أقل من الصياغات اللحنية والشدو العبقري لأعظم أصوات القرن العشرين أم كلثوم.
يبدو جيداً للمتأمل أن الإنتاج الكبير وحشد كل هؤلاء النجوم معاً وإبداعهم في فن التمثيل مع المناظر المتعددة وكل الإمكانات الكبرى مع غياب الرؤية الإبداعية وغياب الوعي بطبيعة الإطار المرجعي للمتلقي يمكن أن يصنع جدلاً وحضوراً يشغل الرأي العام المصري العربي.
ولكن تبقى القطعة الفنية "الست" بعيداً عن الوجدان العام طالما تجاهلت طبيعته في التلقي، وتبقى محفزة للهجوم والتشكيك في الصور الذهنية التي تم عرضها لغياب الدقة التاريخية، ويبقى الألم العبقري للمبدع العبقري والعطف عليه وتفهمه هو السر الغائب عن عرض فيلم الست لوجع أم كلثوم الإنساني.
وفي تقديري أن هذا هو السبب الرئيسي في حدوث الاستقطاب الحاد حول الفيلم والهجوم المتصل عليه، وإن جدد الاستقطاب الحاد والجدل الكبير الثقة في حيوية الثقافة المصرية.



