الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

هل يمكن لطفولة مقيدة أن تصنع امرأة بهذه الصلابة؟ .. وهل الصوت الذي تربى على أن يؤدي الواجب يمكنه أن يتحول لاحقًا إلى أسطورة للحرية؟ .. وأين تقف الطفلة حين يُطلب منها أن تختفي، بينما يُسمح لصوتها فقط أن يظهر؟

 

لم تكن علاقتي بأم كلثوم يومًا علاقة معرفة عميقة أو شغف قديم.. أعرف، مثل كثيرين، أنها بدأت الغناء في سن مبكرة، وأن صوتها خرج أول مرة من أفراح الريف.. لكن فيلم "الست" فتح بابًا آخر للأسئلة، بعيدًا تمامًا عن تقييمه فنيًا أو تاريخيًا، وبعيدًا عن الحكم عليه بالجودة أو الرداءة، وهي مهمة لها أهلها من النقاد المتخصصين.

 

ما شد انتباهي لم يكن الأغاني، ولا إعادة سرد المسيرة، بل تفصيلة إنسانية صغيرة ومقلقة في آنٍ واحد، طفلة يُطلب منها أن تغني، لكن لا يُسمح لها أن تكون طفلة، ولا حتى أن تكون أنثى.. ملابس صبيانية يُفرض عليها ارتدائها، وسلطة أب تحدد ما هو المقبول وما هو المرفوض، وصوت يتحول مبكرًا من تعبير عن الذات إلى وسيلة نجاة للأسرة.

من هذه النقطة تحديدًا بدأت الأسئلة تتوالد: كيف تتشكل هوية فتاة يُطلب منها أن تتخفى جسديًا لتُسمع صوتيًا؟.. كيف يؤثر الخلط المبكر بين الواجب والقبول والحب في بناء الشخصية؟
وهل يمكن فهم صرامة "الست" وانضباطها الشديد وسيطرتها الكاملة على صورتها العامة، بعيدًا عن تلك الطفولة التي لم تكن فيها صاحبة قرار؟

 

هذه السطور لا تحاول تحليل فيلم، ولا إعادة كتابة سيرة فنية، بل تسعى لقراءة نفسية أعمق لشخصية أم كلثوم، انطلاقًا من الطفولة بوصفها الجذر الأول للتكوين النفسي، مرورًا بالصراعات الداخلية بين الخوف والقوة، وصولًا إلى كيفية تحويل الألم المبكر إلى مشروع حياة كامل، وصناعة أسطورة لم تُبن بالصوت فقط، بل بالوعي والسيطرة والانضباط.


في علم النفس، الطفولة ليست مجرد مرحلة عمرية فقط، بل تعد البنية التحتية للشخصية، فالسنوات الأولى هي التي تحدد كيف يرى الإنسان نفسه، وكيف يفهم جسده، وحدود دوره، ومعنى القبول والحب، وحين ننظر إلى طفولة أم كلثوم من هذا المنظور، يصبح من الصعب فصل "الست" التي عرفها العالم عن الطفلة التي وجدت نفسها مبكرًا في موضع المسؤولية.

 

طفلة في الخامسة من عمرها يُطلب منها أن تقف أمام الرجال وتغني، لا بوصفها لعبة أو موهبة عابرة، بل باعتبار صوتها مصدر رزق، ففي نظريات التكوين النفسي، يشير هذا النمط إلى ما يعرف بـ "التحميل المبكر بالأدوار"، حين يُدفع الطفل إلى القيام بوظائف أكبر من عمره، فيتعلم أن قيمته مرتبطة بما يقدمه، لا بما هو عليه.


أما ارتداء الملابس الصبيانية، فليس تفصيلة شكلية، بل رسالة نفسية عميقة، ووفقًا لمدارس علم نفس المتعلقة بالهوية، يتشكل وعي الطفل بجسده من خلال نظرة السلطة المحيطة به، حين يُخفى الجسد الأنثوي بدعوى الحماية أو القبول الاجتماعي، ينشأ نوع من الانفصال بين الذات والصورة الجسدية، فتتعلم الطفلة أن الأمان لا يأتي من كونها نفسها، بل من التنكر لجزء منها.

 

وسلطة الأب هنا لم تكن قمعًا مباشرًا بقدر ما كانت مرجعية مطلقة، هو من يقرر متى تغني، وكيف تظهر، وما المقبول وما المرفوض، وفي علم النفس، هذا النوع من السلطة ينتج شخصيات عالية الانضباط، شديدة التحكم في النفس، لكنها في الوقت ذاته تحمل خوفًا دائمًا من فقدان السيطرة، والقوة هنا لا تكون فطرية، بل ميكانيزم وآلية للدفاع.


بهذا المعنى، يمكن قراءة بدايات أم كلثوم بوصفها لحظة تشكل مزدوجة، طفلة تتعلم الصمت عن ذاتها، مقابل صوت يُسمح له أن يكون حاضرًا بقوة.. هذا التناقض المبكر بين الاختفاء والظهور، بين القمع والانضباط، سيصبح لاحقًا أحد أهم مفاتيح فهم شخصيتها ومسيرتها.


حين يكبر طفل تعلم مبكرًا أن الخطأ ثمنه باهظ، لا يكبر عفويًا، بل يكبر حذرًا، وهذا الحذر، وفق علم النفس، قد يتحول إما إلى هشاشة دائمة، أو إلى صلابة شديدة تستخدم كدرع واقٍ، وفي حالة أم كلثوم، يبدو أن الخيار الثاني كان هو الطريق الوحيد للبقاء، فالشخصية التي عرفها الجمهور لاحقًا - منضبطة، صارمة، قليلة الانفعال، شديدة التحكم في تفاصيل حضورها- لا يمكن فهمها بعيدًا عن تلك الطفولة التي ربطت الأمان بالالتزام، وفي نظريات التعلق، حين لا يكون الأمان العاطفي متاحًا بلا شروط، يتعلم الفرد أن يعتمد على نفسه، ويستبدل الاحتياج العاطفي بالتحكم والإنجاز.

 

قوة حضور أم كلثوم لم تكن عشوائية، بل كانت قوة واعية، لم تترك صورتها للصدفة، ولم تسمح لجمهورها أن يراها إلا كما قررت هي، ويعرف هذا السلوك نفسيًا بـ"السيطرة التعويضية"، حيث يسعى الفرد إلى إحكام قبضته على المساحة التي يستطيع التحكم فيها، تعويضًا عن فقدان السيطرة في مراحل سابقة من حياته.

 

وفي الوقت نفسه، لم تكن تلك القوة خالية من الرقة، بل يمكن القول إن "الست" كانت تمتلك قدرة نادرة على فهم جمهورها نفسيًا: متى يشتاق، متى ينتظر، متى يرهق، ومتى يحتاج إلى صوت يمنحه الطمأنينة، وهذا الفهم لا ينبع فقط من الموهبة، بل من حساسية عالية تجاه الآخر، وهي سمة شائعة لدى من تعلموا مبكرًا قراءة مزاج من حولهم حفاظًا على الأمان.

 

هنا يتشكل التناقض الذي صنع فرادتها، فهي امرأة ذات انضباط حاد، وفي الوقت ذاته شديدة الوعي بالمشاعر، شخصية لا تسمح بالارتخاء، لكنها تجيد الاحتواء، مزيج من الصرامة والدفء، من السيطرة والتعاطف، وهو مزيج لا يولد صدفة، بل يتكون غالبًا في البيئات التي لا تمنح الأمان إلا بشروط، وبهذا المعنى، لم تكن شخصية أم كلثوم نتاج نجاحها، بل كانت شرطًا أساسيًا له، فهي مثال للقوة التي صُنعت من الخوف، والانضباط الذي تشكل من الحرمان، والحضور الذي اكتمل لأنه لم يُسمح له يومًا أن يكون عاديًا.


في علم النفس، يُفسر هذا النمط بوصفه خوفًا من الانكشاف؛ خوف من أن تسقط الأقنعة التي تم بناؤها بعناية، فيظهر ضعف لم يُسمح له يومًا بالظهور، لهذا لم يكن التمسك بالعمل مجرد شغف مهني، بل كان وسيلة أمان، فالغناء هنا لا يُشبع فقط الطموح، بل يُبقي الذات متماسكة، ومن هنا يمكن فهم اعتماديتها المهنية العالية في مقابل استقلالها العاطفي الشديد، فأم كلثوم، كما تعكس مسيرتها، لم تكن تميل إلى التعلق، لا بالأشخاص ولا بالروابط التي قد تفرض عليها مشاركة القرار أو التنازل عن السيطرة، وفي نظريات التعلق، يُسمى هذا النمط التعلق التجنبي، حيث يتعلم الفرد أن القرب العاطفي قد يكون مهددًا لاستقراره، فيستبدله بالإنجاز والنجاح.

 

لكن هذا لا يعني غياب الاحتياج، بل على العكس، فالاحتياج كان حاضرًا، لكنه مكبوت، الحاجة إلى الاحتواء كانت تصطدم دائمًا بالخوف من فقدان الاستقلال، وهنا يتشكل صراع داخلي مرهق ما بين رغبة في القرب، يقابلها خوف من الذوبان، حب محتمل، يقابله سؤال دائم وهو "هل سيأخذ مني أكثر مما يمنحني؟".

 

حتى خوفها المرضي من فقدان الصوت يمكن قراءته نفسيًا بوصفه فقدان الأداة الأساسية للسيطرة، فالصوت لم يكن مجرد موهبة، بل كان اللغة التي تفاوض بها العالم، والدرع الذي حمت به نفسها منذ الطفولة، وفقدانه يعني العودة إلى تلك الطفلة العارية من القوة، وهو احتمال لم يكن مقبولًا نفسيًا بالنسبة لها.

 

 

بهذا المعنى، لم تكن مسيرة أم كلثوم فقط رحلة نجاح، بل كانت ساحة صراع مستمر بين الخوف والرغبة في التحكم، بين الحاجة إلى الآخر والخوف منه، وبين إنسانة تريد أن تعيش، وأسطورة لا يُسمح لها أن تضعف.

 

كل ما عاشته أم كلثوم من طفولة مقيدة وصراعات داخلية، لم يذهب هدراً، بل حولته هي إلى مشروع حياة متكامل، حيث تحول الألم المبكر إلى قوة، والخوف إلى نظام، والانضباط إلى سلاح، فالصوت الذي بدأ كأداة نجاة للأسرة أصبح أداة سيطرة على المصير، والوجود الذي كان مشروطًا منذ الطفولة أصبح أسطورة حقيقية، وفي علم النفس، يطلق على هذه العملية إعادة بناء الذات عبر المعنى، أي تحويل الخبرة المؤلمة إلى شيء ذي قيمة، واستخدام التجربة السابقة لتوجيه الاختيارات الحالية، فأم كلثوم لم تهرب من طفولتها ولا من قيودها، بل وظفتها، كل انضباط، كل حرص على الصورة العامة، كل مشروع فني كانت قراراته مدروسة، كان انعكاسًا لهذا التحول النفسي.

 

الصوت، الانضباط، القوة، التحكم، وحتى الرقة التي كانت تظهر أحيانًا، كل ذلك كان أدوات لبناء الذات، لخلق صورة واضحة للعالم: أنا هنا، أنا صاحبة القرار، وأنا من تحكم مسار حياتها، فالأسطورة التي نعرفها لم تُبن بالشهرة وحدها، بل بإتقانها فن الحياة، وفهمها العميق لذاتها ولمن حولها.

 

وبهذا، تصبح أم كلثوم أكثر من مجرد مطربة عظيمة، هي نموذجًا حيًا لكيف يمكن للإنسان أن يحول الطفولة الصعبة، والسلطة المفروضة، والقيود المبكرة، إلى قوة مستمرة، وسلوك واعٍ، وأسطورة لا تموت .. الست لم تغنِ فقط لتسعد الناس، بل غنت لتؤكد لنفسها وللعالم أن الطفلة الصغيرة التي كانت مخفية وراء زي الرجال، صارت امرأة تصنع أسطورة، وتترك أثرًا خالدًا.

 

تم نسخ الرابط