لم تكن المعارضة يومًا ترفًا سياسيًا، ولا صوتًا نشازًا خارج السياق الوطني، بل كانت في تجارب الدول الراسخة، أحد أعمدة بناء الدولة الحديثة، وشريكًا أصيلًا في تصويب المسار لا كسره، وفي النقد لا الهدم، وفي الاختلاف لا التخوين.
وفي الحالة المصرية، يظل سؤال.. كيف يجب أن تكون المعارضة؟.. سؤالًا مشروعًا وملحًا، لا سيما في ظل تحديات اقتصادية إقليمية معقدة، وصراعات دولية تضغط على الداخل، ومسار إصلاح وبناء لا يحتمل المزايدات ولا الشعارات الجوفاء.
المعارضة الحقيقية لا تُقاس بحدة الصوت، ولا بعدد بيانات الرفض، ولا بحجم الظهور الإعلامي، وإنما بقدرتها على تقديم بدائل قابلة للتنفيذ، ورؤى واقعية تنطلق من فهم عميق لتعقيدات الدولة، لا من أوهام السياسة أو حنين الشعارات القديمة.
فالدولة لا تُدار بمنطق "إسقاط كل شيء"، بل بمنطق تصحيح ما يمكن إصلاحه، وتطوير ما يحتاج تطويرًا، ودعم ما يخدم الوطن.
الخلط بين معارضة السلطة ومعاداة الدولة هو أخطر ما أصاب المجال السياسي في مراحل سابقة. فالدولة كيان ممتد، والسلطة مرحلة، والمعارضة الواعية تدرك الفارق بين الاثنين، تختلف مع السياسات، لا مع وجود الدولة، تنتقد الأداء، لا تشكك في المؤسسات، تراقب وتحاسب، لا تحرض وتفكك.
أما المعارضة التي تراهن على الفوضى، أو تتغذى على الأزمات، أو تنتظر الانهيار لتقف فوق الأنقاض، فهي ليست معارضة… بل عبء على الوطن، واللحظة الراهنة لا تحتاج معارضة “رافضة” فقط، بل معارضة مقترحة، إذا انتقدت سياسة اقتصادية، فعليها أن تقدم بديلًا رقميًا مدروسًا.
المعارضة الحقيقية.. إذا اعترضت على تشريع، فعليها أن تطرح صيغة قانونية أفضل، إذا تحدثت عن العدالة الاجتماعية، فعليها أن توضح كيف تُموَّل وتُنفَّذ، السياسة ليست "بوست فيس بوك"، ولا مؤتمرًا صحفيًا عاطفيًا، بل علم وإدارة وحسابات دقيقة.
واحدة من أزمات المعارضة المصرية خلال السنوات الماضية، أنها فقدت قدرتها على التعبير الحقيقي عن الشارع، إما بسبب انفصالها عن الواقع، أو لانشغالها بصراعات نخبوية ضيقة، أو لاستخدام لغة لا تشبه الناس ولا تلامس همومهم اليومية.
في المقابل.. أثبتت التجربة أن من يخاطب الناس بوضوح، ويشرح التحديات بصدق، ويتحدث بلغة بسيطة، هو الأقدر على كسب ثقتهم، ولذلك لم يكن غريبًا أن يظل الرئيس عبد الفتاح السيسي، رغم قسوة الملفات، هو الأكثر حضورًا وتأثيرًا في الشارع، لأنه يخاطب المواطن مباشرة، دون وسطاء، وبمنطق "الشراكة في تحمل المسؤولية".
مصر تحتاج معارضة تؤمن بالدولة الوطنية، وتحترم الدستور، وتملك كوادر وخبرات، وتتعامل مع العالم بواقعية لا بعقلية المؤامرة، وتضع مصلحة المواطن فوق مكاسب اللحظة، معارضة تعرف أن البناء أصعب من الهدم، وأن النقد الحقيقي شجاعة، لكن الاقتراح مسؤولية.
الدولة لا تُبنى بصوت واحد، كما لا تُدار بفوضى الأصوات، وبين هذا وذاك، تظل المعارضة الوطنية الرشيدة ضرورة لا غنى عنها، شريطة أن تكون معارضة تفهم الدولة، وتحترم الوطن، وتعمل من أجل المستقبل.
فالمعركة الحقيقية اليوم ليست بين سلطة ومعارضة، بل بين من يريد دولة قوية قادرة، ومن لا يرى أبعد من لحظة غضب أو مكسب سياسي عابر.



