علاقة طردية بين قوة الجمهورية وحيوية الصحافة.. البداية والنهاية جرت دون ترتيب!
الأسُس التي تأسّست عليها الجمهورية الثانية يجد اعتمادها فى تأسيس صحافتها وأولها التخطيط الأستراتيجى بعيد المدى
مرحلة الإعداد للجمهورية الثانية شهدت إعادة بناء الكادر السياسى والكادر الوظيفى .. مَن يعيد بناء الكادر الصحفى؟
إذا اختفت الصحف الورقية.. هل سنقرأ تاريخ مصر بعد خمسين عامًا من (هاشتاج) و (لينك)؟
الجمهورية الأولى.. نقلت مِلكية الصحف إلى الشعب وحولتها إلى مؤسّسات ومدارس مهنية ومع مرور السنين ماذا جرى؟
النص الدستورى الحالى يدعم بناء جديد للصحافة.. ولكن مَن يستوعبه؟
لا نزال أمام تصريح الرئيس «عبدالفتاح السيسي» بأن مصر على موعد مع إعلان الجمهورية الثانية، وذلك مع الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة.. وسَعَينا خلال مقال العدد الماضى ونسعى فى هذا المقال أيضًا إلى استيعاب هذا الإعلان بالغ الأهمية السياسية، الذي يؤسِّس إلى حقبة جديدة فى تاريخ مصر من واقع فهمنا لأبعاده ومقصوده..
فمن وجهة نظرنا أن الجمهورية الثانية ليست مجرد مبانٍ حديثة ومدن عصرية؛ ولكنها (الجمهورية القابلة للبقاء) ويضمن بقاءَها (التخطيط الاستراتيجى المحكم بعيد المدَى) المستند إلى نصوص دستورية طموحة.. بمعنى أن الرؤية الوطنية تظل حاكمة وليست الرؤى الشخصية، وأن كل قادم يكمل على منهج محدد استراتيجيّا بدأه مَن سبقه فى كل المواقع.. وهو النموذج الذي ضمن البقاءَ (للجمهورية الفرنسية الخامسة) التي أسَّسَها «ديجول»، وجزء من مَيْلنا إلى هذه المقاربة هو استلهام تجربة الأكاديمية الوطنية الفرنسية، وتأسيس الأكاديمية الوطنية المصرية للتدريب، التي باتت بصماتها واضحة فى إعادة بناء الكادر البشرى المصري فى العديد من المجالات. أمّا اختيارُ الانتقال إلى العاصمة الإدارية تحديدًا ليكون موعدًا لإعلان الجمهورية المصرية الثانية فمرجعه- من واقع تقديرنا- ليس فقط لكون العاصمة الإدارية تُعبر عن الدولة المصرية الحديثة؛ ولكن أيضًا لكونها الأرضَ التي تحتوى فى باطنها على عمق 14 مترًا (عقل الدولة المصرية)، الذي يضم جميع بيانات دولاب عمل الدولة المصرية والخوادم الإلكترونية الخاصة به، وهو السياق الذي يفسر منطقية توصيفنا بأن الجمهورية الثانية هى جمهورية التخطيط الاستراتيجى بعيد المدَى.
ونظرًا لأهمية الإعلان السياسى التاريخى وجَدنا أنه من المهم أن نوثّق رؤيتَنا حول هذه الجمهورية بحثًا عن المستقبل وقراءة لدروس الماضى فى العديد من المجالات والقضايا التي تشكل فى مجملها الشخصية المصرية، سواء فى الجمهورية الأولى أو الثانية، وطبيعى أن تكون البداية من الصحافة ليس باعتبارها مهنة؛ ولكن من منطلق كونها ذاكرة وطن ونبضًا للأمّة المصرية وجزءًا شاهدًا على حيوية الدولة وسلاحها الأصيل فى الدفاع عن قضاياها.
ولكن.. قبل الانطلاق فى الحديث عن الصحافة بين جمهوريتين وقراءة الصحافة فى عهد الجمهورية الأولى والبحث عن مستقبلها فى عهد الجمهورية الثانية.. علينا أن نضع عددًا من المحددات والإجابة على عدد من الأسئلة.
أولها.. متى انتهت الجمهورية المصرية الأولى؟
فى ظنّى أن الجمهورية المصرية الأولى التي أسَّسَتها ثورة يوليو المجيدة لم تنتهِ فى تفاعلات 25 يناير 2011؛ لأن كل ما جرَى فى يناير كان تقاطعًا تاريخيّا قاسيًا، ولكن كان يمكن تجاوزه مثلما تجاوزت الجمهورية الأولى تحديات أخرى بالغة القسوة وفى مقدمتها نكسة 1967.. ولكن فى ظنّى- أيضًا- أن الجمهورية الأولى انتهت فى تلك اللحظة التي وصل فيها خصم ثورة يوليو التاريخى إلى حُكم الجمهورية التي أسَّسَتها ثورة يوليو.. بمعنى أنها تلك اللحظة التي وصلت فيها جماعة الإخوان الإرهابية إلى حُكم مصر.
ثانيًا.. متى انتهى العقد الاجتماعى لثورة يوليو؟
علينا أن نعترف أن ثورة يوليو جاءت بعقد اجتماعى فريد فى بُعده الاجتماعى، كانت وضعية الدولة المصرية جاهزة له من حيث إمكانياتها والعُمق المصري يستدعيه بقوة.. ونجحت فى ذلك بامتياز، وهو سبب خلود اسم الرئيس «جمال عبدالناصر» فى قلوب بسطاء هذا البلد، وما أكثرهم إلى يومنا هذا.. كان الجنيه المصري يتجاوز فى قيمته الجنيه الذهب بقروش.. ولكن انتهى هذا العقد الاجتماعى واقعيّا بعد نكسة 1967، وكان يجب تحديثه وإعادة تطوير مبادئه بعد نصر أكتوبر 1973 بما يلائم حالة الدولة الاقتصادية وخزينتها الخاوية من جراء الحروب المتتالية، ولكن هذا لم يحدث، ولم تصمد محاولة اقتراب الرئيس «السادات» لإعادة ضبط منظومة الدعم سوى ساعات وتراجَع.. واستمر هذا المنهج منطقة محظور الاقتراب منها طيلة فترة حُكم الرئيس «مبارك»، فتحوّل العقد الاجتماعى إلى عبء بالغ ومنافٍ لواقع الدولة، وأصبحت مصر تعيش يومًا بيومه إذا جاز التعبير، وكان ذلك أحد أسباب شعور المصريين بتراجُع حضور الدولة فى سنوات حُكم الرئيس الأسبق «مبارك» الأخيرة.
ثالثًا.. كيف أدى غياب التخطيط الاستراتيجى بعيد المدَى إلى نهاية الجمهورية الأولى؟
دعنا نعترف أن بدايةَ معرفة مصر للتخطيط القومى جاءت مع الجمهورية الأولى ومع تولى الرئيس «جمال عبدالناصر» الحكم، ولكنه كان تخطيطا اقتصاديّا لا يتجاوز السنوات الخمس، وكان يُعرف باسم «الخطة الخمسية»، وهو المصطلح الذي استمر حتى منتصف حُكم الرئيس «مبارك».. لكن غاب التخطيط الاستراتيجى بَعيد المدَى الذي يضمن بقاءَ الجمهورية نفسها.. بمعنى أن مصر فى ظل حُكم الرئيس «عبدالناصر» تم تشكيلها على حسب رؤيته هو وفقًا لمشروعه، ومع رحيل «عبدالناصر» وتولّى الرئيس «السادات واجَه تحديات جسيمة عنوانها الرئيس استعادة الأرض، وواقعها بلد يعانى اقتصاديّا ومجتمعيّا ومؤسَّسيّا وكان بحاجة إلى فلسفة مختلفة، فتمت إعادة تشكيل مصر على حسب رؤية الرئيس «السادات» وتغيير التركيبة الناصرية وهو ما دفعه إلى مواءمات سياسية كان هو أول من دفع ثمنَها بإطلاق يد الإسلام السياسى فى مصر، ثم جاء حُكم الرئيس «مبارك» واستمرت المواءمات باقية ولكنها عرفت سياسة الباب الدّوّار.. وكان تحدّى التنمية هو أهم تحديات الحقبة الأولى وأنجز فيها الكثير، أمّا الحقبة الثانية فكانت أمام مصر فرصة مواتية لتطوير العقد الاجتماعى بَعد حرب الخليج الثانية، ولكن «فوبيا» ما جرى فى عصر «السادات» منعت القرارَ الحاسمَ إلى أن دخلنا فى عام 2000 وبدأ مخطط (التوريث) الذي ينقَضّ على مبادئ الجمهورية الأولى نفسها، ودون الدخول فى تفاصيل تعكس الهوَى السياسى؛ فإن كل مَن عايش السنوات العشرة الأخيرة من حُكم الرئيس الأسبق «مبارك» يدرك أن مخطط التوريث كان واقعًا وبدأت إعادة تركيب الجمهورية على مبدأ يناقضها.. ومع تقدّم عُمْر «مبارك» وضعف قبضته على الحكم كانت الوتيرة تتسارع.
عندما تنظر إلى الصورة كاملة تدرك معنى وجود استراتيجية وطنية لجمهورية قابلة للبقاء، وهى أساس الجمهورية الثانية.
شارع الصحافة بين جمهوريتين.. القصة يجب أن تروى
فى نوفمبر 2014 قال الرئيس «عبدالفتاح السيسي» إن الرئيس جمال عبدالناصر كان محظوظا بإعلامه.. وهو قول صادق، نَعَم كان «عبدالناصر» محظوظا بأشياء كثيرة وفى طليعتها الصحافة التي تسلمها.. تسلم الرئيس «عبدالناصر» صحافة مصرية تمثل أحد روافد ثورة 1919، وأحد عناوينها العريضة «روزاليوسف» المؤسَّسَة التي نشرف بالانتماء إليها والتي انطلقت بعد دستور 1923 بعامَيْن.. الصحافة التي جاءت بعد ثورة 1919 كانت صحافة تفكير متطورة جريئة.. ويوثق الكاتب «محمد توفيق» فى موسوعته (الملك والكتابة) الكثير من هذه التفاصيل، ويكتب فى هذا العدد عن مَراحل تطور الصحافة فى عهد الجمهورية الأولى.. الصحافة قبل ثورة يوليو لم تكن حُرة مثلما يظن مَن يقدسون العهد الملكى.. وتاريخ «روزاليوسف» يشهد بذلك بالعديد من محاولات التدمير للدار الصحفية وللسيدة نفسها إذا انتقدت حزب الوفد مثلاً، وأن أول اعتقال لـ«إحسان عبدالقدوس» جاء بعد انتقاده للاحتلال الإنجليزى.. ولكنها كانت صحافة وطنية حتى النخاع، وهذه هى الأرض الصلبة التي جمعت بين ثورة يوليو والصحافة التي كانت تنادى بالاستقلال وتبشر بأمل الدولة الوطنية، وهنا علينا أن نكتب اسم «إحسان عبدالقدوس» بحروف من نور؛ لأن ثورة يوليو هى التي جاءت بالدولة الوطنية.. كانت قوة الصحافة فى عنصرَيْن أولهما قوة الكادر الصحفى نفسه وامتلاكه لأدواته، أمّا العنصر الثانى فهو الإيمان بمهنة الصحافة، وهذا العنصر هو ما ضمن للصحافة رسالتها بَعد مَرحلة التحولات الجذرية.. وهنا أتذكر قبل سنوات لقاءً جمعنى مع الأستاذ الكبير «مفيد فوزى» وتحدّثنا عن هذه الفترة وكيف باشرت الصحافة دورَها؛ بل وشيدت مدارس صحفية كبرى كان رَدّه مختصرًا، قائلاً (لأنهم كانوا صحفيين).
مرحلة التحولات الجذرية
فى الشهور الأولى للجمهورية الأولى كانت العلاقة ضبابية مع الصحافة ومع الوقت تحولت إلى خلاف قاد إلى تحولات جذرية.
فى كتاب (تاريخ صحافة الإثارة فى مصر) للدكتور «محمد الباز»، وهو بالمناسبة موضوع رسالته الأكاديمية التي نال بها درجة الدكتوراه.. اعتبر الدكتور «الباز» خطاب السيدة «فاطمة اليوسف» إلى الرئيس «جمال عبدالناصر» ورد الرئيس «عبدالناصر» على خطابها هو بداية هذه التحولات؛ إذ بين الخطاب والرد قناعات مختلفة بين السُّطور.
بدأت الجمهورية الأولى تشعر أن الصحافة لا تُعبر عن واقعها ومشروعها، فكان تأسيس جريدة الجمهورية عام 1953 برئاسة تحرير «محمد أنور السادات»، وفى 1954 كان اعتقال «إحسان عبدالقدوس» بعد مقاله (الجمعية السرية التي تحكم مصر).. وهى التجربة التي حوّلت «إحسان» من صحفى يملك لغة أديب إلى أديب يوجّه رسالته الصحفية من قصة.. وفى عام 1956 كان تأسيس جريدة الشعب وتولاها «صلاح سالم»، وبعد العدوان الثلاثى على مصر تمت الاستعانة بشاب عبقرى وهو الأستاذ «أحمد بهاء الدين»، الذي قاد جريدة الشعب إلى مصاف صحف التأثير قبل أن تسترد «روزاليوسف» بضاعتها وتجعله رئيسًا لتحرير مجلة «صباح الخير».. ولكن عام 1956 كان مفصليّا من زاوية أخرى ليس ببزوغ «أحمد بهاء الدين» فقط ولا بتأسيس وكالة أنباء الشرق الأوسط بمعايير بالغة التطور حينها، ولكن بتولّى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» رئاسة تحرير الأهرام، وقد كان ذلك حظ «عبدالناصر» الأكبر فيما يخص الصحافة.
الطريق إلى تحوُّل مِلكية الصحافة وجعلها مِلكًا للشعب
فى اللحظة التي نشر فيها المقال الأول للأستاذ «محمد حسنين هيكل» على يسار الصفحة الأولى لجريدة الأهرام، ظهر بوضوح أن الجمهورية الأولى وجدت ضالتها الصحفية.. قلم مختلف مستوعب للمشروع الوطني والاجتماعى لثورة يوليو، مدرك لكل الأبعاد الإقليمية والدولية التي تتقاطع مع هذا المشروع ويتأثر بها وتؤثر فيه.. فى المقابل كانت الأقلام الأخرى تبحث عن البوصلة وجميعها لأساتذة من عظماء الصحافة، ولكن كان قلم «هيكل» يفرض نفسه وبقوة.. ومع تولى الأستاذ «هيكل» رئاسة تحرير الأهرام لم يكن بداية عصر الأهرام فقط ولكن بداية دخول الصحافة كلها وأهلها عصر «هيكل».. الذي انتقل بمهنة الصحفى من الكاتب أو الجورنالجى حتى لو كان هذا هو لقبه المفضل إلى مرحلة المفكر ثم إلى مرحلة رجل الدولة مُخَلفًا عقدة تاريخية تحمل اسمه (عُقدة هيكل)، وهى التي توصف نزعة الصحفى الأوحد القريب من عقل الرجل الأول.. وهى النزعة التي أضاعت الكثير من المواهب الصحفية ربما يتجاوز بعضها موهبة الأستاذ «هيكل» نفسه، ولكن لم يصل أحد إلى ذكائه الذي لم يفارقه حتى يوم رحيله، وعنوان هذا الذكاء هو محددات المسافة.
ظلت المناورات الصامتة بين الصحافة والجمهورية الأولى.. وبدأ ضيق الرئيس «عبدالناصر» يظهر فى أكثر من خطاب سياسى؛ تحديدًا فى عامَى 1958 و1959، والنقطة الرئيسية أن الصحافة لا تُعبر عن الناس ولا عن الثورة وتخاطب مجتمعات أخرى وتُعبر عن (نادى الجزيرة)، والبعض فسّر هذه الإشارة آنذاك أنها موجهة إلى «إحسان عبدالقدوس» ولم تكن الإشارة الأولى.. وكان الأستاذ «هيكل» يسبق فى هجومه على الحالة الصحفية هجوم الرئيس «عبدالناصر» إلى أن جاء 24 مايو 1960 وصدر قانون تنظيم الصحافة وخرج مانشيت الأهرام (الصحافة مِلك الشعب)، وبموجبه انتقلت مِلكية الصحف من المِلكية الخاصة إلى المِلكية العامّة.
أبعاد أخرى فى الصورة بعد قانون تنظيم الصحافة 1960
التاريخ ليس له وجْه واحد.. وكل تجربة تاريخية لها إيجابياتها وسلبياتها.. بعد قانون تنظيم الصحافة 1960.. عرفت مصرُ مفهومَ الصحافة القومية التي تحفظ قيم المجتمع وثوابته وتدرك معنى الدولة وأهدافها وتدافع عنها.. ودخلت الصحافة مرحلة المؤسَّسية بنطاق أبعد.. أصبحت الأهرام من أفضل 10 صحف فى العالم على سبيل المثال، وكانت الصحف تثبت وجودها بشكل مختلف.. وللتاريخ كانت «روزاليوسف» قد بدأت المرحلة المؤسَّسية قبل قانون تنظيم الصحافة، وقام «إحسان عبدالقدوس» بشراء المبنى الحالى من أجل استيعاب الطموح المؤسَّسى واقترض من البنك الصناعي لتطوير المطابع، وقد رأيت أصل محضر مجلس إدارة روزاليوسف آنذاك، الذي يمكن اعتباره «تسليم وتسلم»، وكان أطرافه الثلاثة بحسب توقيعاته «الأستاذ إحسان عبدالقدوس والأستاذ فتحى غانم والأستاذ يوسف السباعى».. والذي يحسب له تاريخيّا الحفاظ على الرسالة الصحفية والثقافية فى مرحلة سياسية دقيقة.
وظلت الصحافة القومية درعَ وعْى مدافعًا عن الأمّة كلها، ولكن التحولات السياسية أربكتها هيكليّا وصحفيّا. التحولات السياسية على الصحافة القومية.. الصيغة انتهت بتركة!
كان التوجُّه الاشتراكى للجمهورية الأولى فى الحقبة الناصرية، وتحديدًا بعد قانون تنظيم الصحافة عام 1960 قد أخذ امتداده داخل المؤسّسات القومية، محدثًا ارتباكًا هيكليّا لا يزال إرثه باقيًا.. كان موقع الأفراد فى الاتحاد الاشتراكى موقع التأثير داخل المؤسّسات الصحفية.. سواء كان كادرًا صحفيًا أو كادرًا إداريًا أو كادرًا عماليًا.. لا يهم الاسم المكتوب على ترويسة الصحف.. هذه الحالة خلقت ثقافة عمالية مُسَيّسَة وكادرًا إداريًا وظيفيًا وكادرًا صحفيًا أيدلوجى الهوَى وإن ظل يمارس أيدلوجيته بمهنية.
استمرت الصيغة مع بدايات عصر «السادات» وبدأ يعيد التكوين الصحفى بما يدعم مرحلة إعداد الدولة للمعركة، وظهر نجم «موسى صبرى» وعبقرية «صلاح حافظ» وصدرت مطبوعات تؤرّخ للتحوّل السياسى، مثل جريدة مايو ومجلة أكتوبر، وفى عام 1977 كان صدور جورنال الأحرار أول جريدة معارضة فى عهد الجمهورية الأولى برئاسة تحرير الدكتور «صلاح قبضايا».. ثم جاءت المواءمة السياسية بين السادات وتيار الإسلام السياسى ليخترق هذا التيار الشارع الصحفى من جهة وتكتب أقلامه ومشايخه فى الصحف القومية من جهة أخرى.
تحولتْ الصيغة إلى تركة مع بدايات عهد «مبارك» ولمعت أسماء الأساتذة «إبراهيم نافع وإبراهيم سعدة ومكرم محمد أحمد وسمير رجب».. وكان المتغير الأول الذي دفع الصحافة إلى الأمام تجربة الأستاذ «مصطفى شردى» فى الوفد من عام 1984 حتى عام 1988.
ومع مطلع التسعينيات كانت التركيبة المجتمعية تتغير ومعها التركيبة الثقافية والصحفية المصرية، كانت مصر تواجه إرهابًا شرسًا فسمح الظرف السياسى إلى انطلاق قوى لـ«روزاليوسف» فى فترة «الأستاذ عادل حمودة» (1992 - 1998) كان عادل حمودة المسؤول الفعلى عن تحرير «روزاليوسف» بينما كان الأستاذ محمود التهامى رئيسا لمجلس الإدارة والتحرير.. هذا الانطلاق سمح لـ«روزاليوسف» بمساحات صحفية شائكة استخدمت فيها كل الأدوات الصحفية المقبولة وغير المقبولة، سمّها كما تشاء، وبعدها عرفت مصر صحافة التراخيص القبرصية والصحافة الصفراء الرخيصة.
مع عام 2005 بدأت صحافة رجال الأعمال تشتد وتحولت الرسالة الصحفية من هدف مجتمعى إلى أداة ضغط هدفها حماية مصالح رجال الأعمال.. وبدأت التيارات الإرهابية تنتقل لمرحلة أخرى مستغلة مساحات فارغة تركها لها الأفق السياسى المُنصَب على ملف التوريث، وأصبح لمكتب الإرشاد صحف يرتبط معها بمصالح وإن لم يمتلكها رسميّا فإنه تحكّم فى لغتها، أمّا الأخطرُ فكان صدور إصدارات صحفية تتبع المشروع الغربى بشكل مباشر وشبكة مصالحه وتخدم أهدافه تلك الصحف التي حولت أخبار المجتمع المدنى إلى أخبار صفحة أولى وجعلت من بياناتها المغلوطة بيانات سياسية لها أهداف اجتماعية كارثية.. إلى أن وصلنا لعام 2011 كانت تركة الصحافة القومية ومن خلفها الصحافة المصرية قد أصبحت تركة ثقيلة.. لتنتهى صحافة الجمهورية الأولى مع اللحظة التي وصل معها الإخوان للحُكم.. ومضت سنوات الفوضى والعشوائية تنعكس بالسلب على الصحافة وأهلها باستقبال جيل صحفى كل نظرته للصحافة أنها مظاهرة على الورق لا يمتلك من أدواته إلا الفُتات.. وبين أعوام 2011 حتى يونيو 2013 انحصر الإنجاز الصحفى الوحيد فى مقاومة أخونة الدولة رغم المواءمات التي أجراها البعض معهم.
الصحافة والجمهورية الثانية.. من أين نبدأ؟
بعد هذا السرد الذي يوضح العلاقة الطردية بين قوة الدولة وحيوية الصحافة والارتباط الوثيق بينهما.. وإذا كان مفهومنا للجمهورية الثانية أنها جمهورية التخطيط الوطني بعيد المدى بحيث تصبح غير قابلة للسقوط؛ فإن المبدأ نفسَه يجب أن ينسحب على الصحافة بأن تمتلك أيضًا رؤية وطنية بعيدة المدَى تتسق مع المخطط الاستراتيجى للدولة المصرية.
وهذا التفكير يستدعى الاستثمار فى الرسالة الصحفية نفسها، ونقطة البداية هى إعادة بناء الكادر الصحفى من وجهة نظرى بفلسفة هذا العصر وروحه وأدواته.. الصحفى الآن تُميزه عن المدوّن ليس بسرعة الخبر.. الخبر أصبح مُلقًى على قارعة الطريق.. على مواقع السوشيال ميديا.. ولكن بقدرته البحثية والتحليلية التي تجعل منتجه الصحفى إضافة فكرية يسبق مجتمعه بخطوة ويصحب الناس إلى أماكن من المعرفة من الصعب أن يصلوا إليها بمفردهم.. وهنا نناشد بأن تمتد أطر عمل الأكاديمية الوطنية للتدريب إلى الكادر الصحفى، وأن تتولى الدولة إعادة بناء هذا الكادر.. مثلما نجحت فى إعادة بناء الكادر السياسى وتطوير الكادر الوظيفى الذي يستعد للانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة
حتمية الحفاظ على الصحافة الورقية.. تاريخ مصر لن يوثق بـ (هاشتاج)
مَهْمَا تعددت وسائل الاتصال يظل للصحافة الورقية بشكل عام فى العالم كله أهميتها؛ وذلك مرجعه أن وسائل الاتصال الإلكترونية تبنى ثقافة مجتمعية (فوّارة) تصعد سريعًا وتنتهى أيضًا سريعًا وكأنها لم تحدث.. فى حين تبقى الصحافة الورقية وثيقة مكتوبة تحفظ يوميات وتاريخ وحركة الإنسانية.. وفى دولة بحجم مصر فإن هذا الدور يتعاظم لأسباب عديدة، أولها أن معركة مصر الحقيقية هى معركة (الوعى) وأدوات الاتصال (الفوّارة) لن تبنى وعيًا.. أضف إلى ذلك أننا فى مرحلة صناعة تاريخ وكتابة تاريخ جديد لمصر.. مَن الذي سيحفظ هذا التاريخ ويبتعد به عن التشويه أو التزييف؟.. هل سيحفظ التاريخ الجديد لمصر برابط إلكترونى (لينك) يُحذف أو يُعدل أمْ يوثقه ويحفظه (هاشتاج) ينتهى مفعوله مع نهاية يومه.. بعد خمسين عامًا من الآن سيكون ما توثقه الصحافة الورقية اليوم مرجعًا لمن يريد معرفة ما الذي يجرى على أرض مصر؟ حكاية الإنسان المصري الذي أعاد بناءَ وطنه تحت القصف واصطف خلف قيادته لتأسيس الجمهورية الثانية.. وهذا المنطلق للرسالة الصحفية لا يتسق مع الفهم المتعثر الذي ينظر إلى الصحافة على كونها (سلعة) تُباع وتُشترَى وتحقق رقمًا فى النهاية.. ولكنها رسالة أولاً.. تدعم بصناعة كبرى ثانيًا.. وهذه الصناعة إن تعثرت يجب أن يستثمر فيها ويكون الاستثمار معرفيّا وصحفيّا.. وتجارب الصحافة الغربية فى هذا المضمار كثيرة.. من الاستثمار فى بيوت التفكير ومراكز الأبحاث ودوائر استطلاعات وقياس الرأى العام وتحويل المادة الصحفية إلى مواد سينمائية، سواء وثائقية أو درامية، وصولاً إلى امتلاك ميزة تكنولوجية وبيعها وتصديرها وتأسيس مَعاهد ومدارس صحفية.. أمّا توصيل الرسالة الصحفية فله أيضًا أدواته، وهنا تستخدم وسائل الاتصال الحديثة ويدعم (اللينك) و(الهاشتاج) المحفور على الورق.
هل نمتلك النصوص الدستورية والقانونية التي تدعم الصحافة فى الجمهورية الثانية؟
دعنا نتفق أن الدستور المصري حفظ للصحافة مهمتها وحدّدها فى نصوصه، وجعل من نفسه سندًا لتنوعها بأن تصبح مُعبرة عن مكونات الرأى العام المصري.. إضافة إلى وجود هيئات صحفية وإعلامية مستقلة دستوريّا، وهذه النصوص تم تطبيقها ويمكن البناء عليها مستقبلاً.. قد يكون هناك تفاوتٌ بين طموح النصوص ومعوقات الواقع فى التنفيذ كما هو الحال فى العديد من المجالات، ولكنه أمْرٌ طبيعى لأن الدولة كلها كانت فى مرحلة إعداد للانتقال من عصر إلى عصر ومن زمن إلى آخر ومن جمهورية أولى إلى جمهورية ثانية.
الفكر.. هو الفلسفة التي تنطلق منها الجمهورية الثانية.
والفكر أيضًا يجب أن يكون هو الفلسفة التي تنطلق منها صحافة الجمهورية الثانية.
وإذا لم تواكب الصحافة الجمهورية الجديدة عليك أن تعلم أن الأزمة.. أزمة فكر. (وللحديث بقية)
من مجلة روزاليوسف



