محمد الطماوي يكتب: أنا آسف لأنني حاولت
عندما تُطلق رصاصة الرحمة على الطموح، فهي لا تقتل أملًا كان قائمًا، بل تُجهز على كيان بأكمله، لحظة الضغط على الزناد ليست سوى إعلان لنهاية إنسانية كاملة، لأن الطموح ليس مجرد حلم يُحكي أو هدف يُسعى له، بل هو العمود الفقري الذي يقيم الإنسان من داخله.
تلك الرصاصة الباردة لا تأتي مصادفة، إنها ناتج صمتٍ مُدوٍ لأصوات كانت تشجّع ذات يوم، واختفت في لحظة ما، تأتي بعدما تُثقل الروح بما يكفي من الهزائم، وبعدما تصبح الكلمات التي كانت تُقال للرفع من العزم مجرد صدى بعيد، يختنق في حنجرة من سمعها. هي لحظة يمسك فيها الشخص يديه ببرود، ينظر لنفسه في مرآة مكسورة، يرى انعكاسًا باهتا كان ذات يوم حالما يتوهج. في تلك اللحظة يعرف أن كل ما بناه في عقله قد تحول إلى سراب، وأن عينيه اللتين كانتا تتوهجان بشغف، قد أطفأهما الزمن بخبثه. رصاصة الرحمة لا تُطلق من الخارج فقط؛ أحيانًا نحن من نسحب الزناد بأنفسنا، حين نؤمن أننا لا نستحق شيئًا، أو حين نسمح للشك بأن يغرس أنيابه في أحلامنا، تلك اللحظة القاسية حين تستسلم، لا لأنك ضعيف، بل لأنك تعبت من المقاومة، وحين تتعب روحك من الركض خلف أفق يتراجع كلما اقتربت منه. إنه موت بطيء، لا يسمع به أحد، صوت الطلقة التي تمزق القلب يكون مكتومًا، كأنك اخترت أن تغرق في صمتك دون أن تزعج أحدًا، كأنك تقدم اعتذارك للعالم: "أنا آسف لأنني حاولت". رصاصة الرحمة ليست فعل قتل فقط، بل هي إعلان للحياة أنك رفعت الراية البيضاء، وأنك لم تعد تريد شيئًا، حينها، يصبح النظر للأفق مؤلمًا، وتصبح فكرة الغد مجرد امتداد ليوم بلا معنى. لكن ما لا تعرفه تلك الرصاصة، أن الطموح حتى لو دفن، سيظل صدى صوته يلاحقك، سيذكّرك بأحلامك الميتة، بلياليك التي سهرتها، وسيصرخ في أذنيك: "ألم تكن تستحق فرصة أخيرة؟" لكن ما يدمي الروح حقًا، ليس صوت الرصاصة ولا برودتها وهي تخترق الطموح، بل اللحظة التي تفتح فيها عينيك بعد إطلاقها، وتجد أن العالم لم يتغير، الشمس ما زالت تشرق، والناس يمضون في حياتهم، والكون لم يتوقف ليحزن على حلمك المقتول، تدرك حينها أنك كنت وحدك من يحمل وزنه، وحدك من صدّق أنه يعني شيئًا، والأقسى من ذلك، أنك حين تنظر إلى ما تبقى منك في المرآة، ترى شبحًا بلا ملامح، شخصًا لم يعد يعرف لماذا وُجد، ولماذا يستمر، تلك اللحظة هي جحيم حي، حيث تكتشف أن الرصاصة لم تقتل الطموح فقط، بل قتلتك أنت. لكن ما لا تدركه الأيادي الآثمة التي ضغطت الزناد وأطلقت تلك الرصاصة، أنها ذات يوم ستجد نفسها في نفس الموضع، تلك الأيادي التي اغتالت الطموح بلا رحمة، ستتذوق مرارة فعلتها عندما تنقلب عليها الأيام، ستجلس في الظلام، تحاصرها أشباح الأرواح التي وأدتها، وستسمع صدى الطلقات يرتد في صدرها، حينها، ستفهم أن نفس الرصاصة التي أطلقتها، ستُطلق عليها، لكن هذه المرة لن يكون هناك من يحمل عنها العبء، ولن تجد من يمد يده لينتشلها من كأس المرارة الذي ستشربه حتى الثمالة، ستعيش ما قتلت، وستحترق بنفس النار التي أشعلتها في قلوب الآخرين، ولن تجد مهربًا من عدالة القدر حين تدور الدوائر. وفي النهاية، اعلم أن كل دمعة سقطت منك لها وزن عند الله، وأن كل وجع مزق روحك قد صعد إليه، محمولًا بأنّات لا يسمعها إلا هو، لكن الحقيقة المؤلمة التي لن تُمحى بسهولة، حتى لو جاء العوض، هي أن الوجع يترك أثرًا لا يزول، سيبقى في صدرك درسًا محفورًا بالنار: أنك في الحزن تكون وحدك، تمامًا كما كنت في لحظة الطلقة، ستكتشف أن العالم لا يتوقف لأجل آلامك، وأن كل من حولك إما يتهرب من شكواك أو يردها بعبارات خاوية، لا روح فيها، كأنها مجرد واجب ثقيل. حينها ستتذكر كلمات قالها من هو خير منك، حين رفع بصره إلى السماء في أشد لحظات الضعف وقال: "إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني؟ أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي." ستفهم أن الملاذ الوحيد هو الله، وأنك مهما حملت من جراح، لن تجد ملجأً أصدق من السجود، ولن تكون دموعك أثمن إلا حين تُسكب بين يديه.