د. حسام عطا
أزمة شكري سرحان.. قراءة نقديـة
عن أزمة الإشارة للفنان الكبير شكري سرحان، بأنه ممثل غير موهوب أخذ حجما أكبر من حجمه، كما جاء على لسان ممثلين من الجدد، وعن ملاحظات أخرى حول عدم رغبة فنان آخر في سماع السيدة أم كلثوم، وما شابه ذلك من تصريحات، رأي البعض أنها تجاوزات تستحق المساءلة القانونية، ورأي أخرون أنها تدخل في باب التعبير عن الرأي.
أرى أن ذلك ليس سلوكاً شخصياً بل هو تعبير عميق عن رؤية جيل تظهر متناثرة هنا وهناك. إنه عالم معاصر يسوده التعقيد وعدم اليقين، إذ ضاع هذا اليقين بالثوابت العامة لندخل عالم الشك. وهي واحدة من سلبيات عالم ما بعد الحداثة والتي ربما لا يعرفها من هاجم شكري سرحان بدون إبداء أسباب وبمنتهى السهولة. إنها الحدود المنهارة بين الحداثة التي ينتمي إليها الفنان شكري سرحان وجيله وما بعدها. ذلك أن البصمة الشخصية التي ميزت عمله الإبداعي في فن التمثيل في السينما والمسرح هي من أساليب الحداثة والكلاسيكية المصرية في الفنون التعبيرية. إن الموهبة الكبرى والحضور النادر لشكري سرحان هو ما جعله يعتمد هذا الأسلوب، وهو أسلوب البصمة الشخصية في فن التمثيل فشكري سرحان ليس نمطا ثابتا لكنه فنان كبير مبدع يحمل بصمة شخصية يضعها في كل عمل.
وقد كنت ألاحظ عبر متابعتي لجيل الكبار عندما كانوا حاضرين في المهنة أن شكري سرحان لم يلعب دور البطولة الثابتة أبدا، أو الأدوار المساعدة، أو حتى ضيف الشرف في السينما المصرية عندما لم يعد في أواخر عمره المديد هو نجم الشباك. وقد بقى على موقفه حتى رحيله كريماً معتزا بما أنجزه كنجم شباك وكبطل سينمائي ومسرحي كبير، وكعلامة بارزة في تاريخ السينما المصرية.
أما بصمته الشخصية في فن التمثيل فلم يتركها أبداً حتى في دوره مع يوسف شاهين في عودة الأبن الضال. وهذا ليس دفاعا عن شكري سرحان فتاريخه الإبداعي يرد عنه، وإنما هي محاولة لشرح الحالة التي يصدر عنهما مثل هذا الرأي السلبي في قامة فنية كبيـــرة.
إنها حالة السيولة التي تعيشها ما يعد الحداثة المصرية متأثرة بما يحدث في العالم المعاصــــــر كلـــــــه.
إنها حالة حدث فيها ذلك الدمج بالقيمة بين فنون الثقافة العليا ومنهما أم كلثوم وشكري سرحان وبين الثقافة الجماهيرية السهلة البسيطة، والتي لا تلوي في إنتاجها على شيء. ولعل هذه الحالة يجب أن تشكل انزعاجاً على الأقل للمنتمين للمدارس الأكاديمية والتي يجب أن تبقى مشغولة بحفظ إنتاج النخب الثقافية والإبداعية، فتغير مناخ الإنتاج الإبداعي والثقافي لا ينفي حضور رموز الحداثة المصرية وضرورة درسهم وتأملهم، رغم ما يحيط بنامن تفشي للأعمال السهلة والهابطة في جمالياتها وطرحها الفكري إلا قليلاً.
وبالتالى فما حدث هو تعبيرعن تكاثر الطبعات الشعبية للأدب القائم على التسلية، وتراجع فعل القراءة العميقة، والعروض التجارية المسرحية والسينمائية وغرائب الغناء المستحدث على إيقاع واحد. وقيام تلك الفنون التجارية بعملية خطيرة، هي من سمات ما بعد الحداثة، ألا وهي محاولة إدماج مهارات الفن الراقي مع الفن التجاري في عدد من الإبداعات الجديدة، حتى أصبح تمييز الحدود بينهما غير ممكن، إنه طمس الحدود بين النماذج الجمالية والمعرفية واستخدام استعارات غير حقيقية من الفنون الجادة الحداثية إلى عالم ما بعد الحداثة بكل سيولته، ومنها الأفلام ذات الطابع الرومانسي الجديد.
جدير بالذكر أيضاً أن ذلك الفاعل المبدع البورجوازي الفردي القادر على المقاومة، تتراجع قدرته وسيلقى الهزائم المتتالية في محاولاته لاستعادة البصمة الشخصية، لأننا في عالم تسيطر عليه الرأسمالية المندمجة والموحدة والقواعد المؤسسية النمطية ومجتمع مستهلك لفنون التسلية بكل أنواعها، ولم يعد أسلوب الحنين للماضي ممكناً. ولذلك فمثل هذا الهجوم على شكري سرحان بلا أسباب هو تعبير عن طريقة تفكير مرحلة معاصــــــــــرة. وهي مسألة حقاً تعبر عن جزء جوهري من عالم ما بعد الحداثة الذي نعيشه، وإن بدا المصطلح لمن يستخدمه من النقاد الجدد وكأنه مصطلحاً دالاً على إكتشافات نقديــــة عظيمـــــــــة. إنه عالم ما بعد الحداثة حقاً الذي فرض نفسه بالسلوك والإنتاج الفني، والنقد المتسارع الشغوف بمتابعة أحدث المستجدات، والسرعة في كل شيء، إن سلوك معاداة النماذج الكبرى الإبداعية هو تعبير عن تمرد ما بعد الحداثة، وأحد تجلياتها هي تلك النظرة للرموز.
وهذه مسألة لا تدخل في باب حرية الرأي قدر ما هي سلوكيات طبيعيه لعدد من الأفراد، هم أبناء فترتهم. وفي عالم ما بعد حديث يظهر في كل شيء في العمارة والإعلام وعلم اجتماع التأويل والسخرية اللامتناهية والسهولة، والنسخ التي تنتشر بشكل لا محدود، ثم يختفي أثرها سريعاً وفقاً لمجتمع الاستهلاك الثقافي والفني والإبداعي والإعلامي.
ما يجب استخلاصه من تلك الواقعة التي استفزت أسرة الفنان الكبير شكري سرحان ودفعتها للشكوى ضد من أثارها، فهو ضرورة إدارك أن الإنجاز الإبداعي الكبير لرموز الحداثة المصرية يجب أن يخضع للدرس والفهم والحفظ الأكاديمي والمؤسسي وإعادة إطلاقه للأجيال الجديدة، لعلهم يتأثرون ببعض من جمالياته وقدراته علي طرح المشاعر والأفكار.
مما يؤكد أننا لا يمكن إعادة إنتاج الماضي، وأن ما هو جميل وحداثي لم يعد قادرا علي التأثير في الجمهور العام. ولكننا نقدر حقا علي إعادة تثقيف ما بعد الحداثة التجارية بالقيم الإنسانية المشتركة وبمفاهيم علم جمال الفنـــون. بعض من الجمهور الضروري للمعالجات الإبداعية رفيعة المستوي وسط كل هذا الزحام. تراكم نوعي ومهرجانات استيعادية للفنون الحداثية المصرية، وثقة في تعدد شرائح وذائقة الجمهور. ضرورة عودة المغامرة للإنتاج الفني في مصر في تعدد مؤسسات الإنتاج التي تقلصت، وفي تفكيك قدرة البيروقراطية علي توفعيل خاصية الصمت تجاه ما هو حادث من تعميق الفجوات بين الجمهور، عبر إنكار الواقع الثقافي والإبداعي المتردي، ولذلك فمن الطبيعي في هذه السيولة المفرطة أن تنكر الأجيال التي تثق ثقة مطلقة في ثقافة السخرية من كل شيء، والإكتفاء بالسهولة المفرطة ومغازلة الشارع في وجهة العشوائي، شكري سرحان وأم كلثوم. هذا تفسير لما حدث وقراءة لمشهد عابر، لكن يجب قراءة دلالته خوفا علي الحاضر والمستقبل. وهذا بعيدا عن حرية الرأي وعن العقاب والثواب وعن الجدل الشخصي. فلشكري سرحان بالتأكيد جمهور ووطن يعرف قدره، ولأم كلثوم في الضمير الوطني وفي مصر والوطن العربي مقامها الرفيع. إنه لغو وثرثرة، وهي صفة جوهرية لعالم ما بعد الحداثة ما كان أن تمر دون فهمها. فهي تدق ناقوس الخطر من أجل البحث عن معايير ضرورية للحاضر ولمستقبل الفنون التعبيرية في مصر والوطن العربي.