عاجل
الأحد 12 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
عصر الجماهير الغفيرة جدًا.. قراءة في التلقي

عصر الجماهير الغفيرة جدًا.. قراءة في التلقي

في جريدة المصري اليوم إصدار الاثنين الحادي والعشرين من أكتوبر 2024، أستوقفني خبر عن فيلم اسمه "جوازة توكسيك"، يتصدره نجوم من الصف الأول وهو فيلم كوميدي، والخبر يقول إن الفيلم حقق بيع 15 تذكرة في أحد حفلاته عبر اليوم.



ثم تذكرت موسم عيد الأضحى الأخير الذي بقي فيه فيلم بالغ الجدية والإبداع وهو فيلم أهل الكهف في موقع متأخر في إيرادات الموسم، وصدم صناعه وأعاد طرح سؤال الجمهور مجدداً. ما هذا التناقض الظاهري في اختيارات الجمهور؟ ظللت أتأمل الموقف جيداً، وفي تلك الأثناء عدت بذاكرتي إلى كتاب مهم وهو من تأليف د. جلال أمين وعنوانه الذي لا ينسى: "عصر الجماهير الغفيرة" 1952 – 2002، وقد أصدرته دار الشروق، ويحوي الكتاب تأملاً نادراً لتغير الذائقة المصرية واهتمامات المصريين في إطار القرن العشرين المصري والعربي، وتأثر مصر بالعالم الخارجي في مسألة الإنتاج الكبير وحضور الجماهير الغفيرة.

وهو تأمل يمكن مده حتى الآن مع بعض الإضافات والمستحدثات الجديدة، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي أضحى وبحق عنوانه الجماهير الغفيرة جداً. ولا يسعني من فرط عمق وبساطة ودقة ووضوح ما سطره د. جلال أمين إلا أن أضيء مقالي هذا بسطوره التي هي سطور من نور، إذ قال في كتابه عصر الجماهير الغفيرة محدداً مكونات الذائقة الثقافية والتي هي الموجه الأول لسلوك الجمهور واختياراته:  "انفتاح اقتصادي بلا ضابط على الاقتصاد الغربي والمؤثرات الثقافية الغربية وعلى الأخص المؤثرات الأمريكية، هجرة بمعدلات عالية إلى دول النفط العربية، ارتفاع كبير في معدل التضخم، انتشار واسع للتعليم مع هبوط واضح في مستواه، نمو سريع في الطبقة الوسطى مع درجة عالية من الانفصام بين نمو الدخل والجهد المبذول، مع تدفق دخول وثروات جديدة في أيدي شرائح اجتماعية ذات ميول وأذواق ثقافية متدنية، وزيادة تأثيرها في إنتاج المثقفين المصريين.

إنها قضية صراع محتدم بين ثقافة تخدم في الأساس مصالح تجارية، تمثلها شركات أجنبية ومؤسسات دولية بالإضافة إلى شركات ومؤسسات مصرية، حكومية وخاصة، وبين ثقافة تخدم مصالح بقية المصريين المنتمين إلى طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة، والذين يبحثون بعناء شديد وشق الأنفس عن بضع ثمرات من الإنتاج الثقافي الرفيع، تحاول الصمود أمام هذا التيار الكاسح من الثقافة الرديئة". ويضاف إلى ذلك الآن اقتصاد تحاول الدولة الدفع به للأمام في ظل اقتصاد حر، لكنه مختلف عن الرأسمالية الغربية ومختلف عن اقتصاد الدولة المصرية في ستينيات القرن العشرين.  وحضور لمراكز جديدة في الخليج العربي في دوائر الإنتاج الثقافي والفني والإعلامي، واشتباك ذلك الإنتاج مع النجوم المصرية المحترفة، ومع الجمهور العام في مصر. وبالطبع الحضور الحاد لوسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، وهو حضور مؤثر للغاية في صنع حساسية جديدة جوهرها الاختزال الشديد وحرية المحتوى وبساطة الإنجاز الاحترافي مع البرامج الرقمية المتطورة في عملية التوليف، مضاف إلى ذلك القدرات اللانهائية للذكاء الاصطناعي والتي أصبحت متاحة بشكل ميسر لعدد كبير من الفنانين والمؤثرين في الفضاء الإلكتروني المصري.  مما غير من تلك الدقة والتفكير الإبداعي الابتكاري في معظم الفنون التعبيرية المصرية، ودخلت يد الهواة إلى عالم الصورة الدرامية بشكل سهل وسريع وغير مكلف، حتى أنه قد أصبح لدينا نوع من الأفلام متناهية القصر أطلق عليها سينما أفلام الموبايل، ولا شك أن الكاميرا الرقمية التي سهلت عملية التصوير قد أصبحت قديمة ومكلفة مع وجود كاميرات بالغة الحساسية لأنواع من التليفون المحمول.

حدث كل ذلك مع تغير أيضاً في لغة الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي التي أدمجت العامية المصرية مع بعض الأرقام اللاتينية الدالة على حروف بعينها في العربية الفصحى، والتي أصبحت ببلاغتها الشهيرة لغة بعيدة عن وسائل التواصل الاجتماعي ومعظم الصحف الإلكترونية، وبات مقال الرأي أكثر اختزالاً، وأصبح الخبر سريع الانتشار، واختفي تعبير من قلب الحدث بمعناه المهني الحقيقي.

كما أصبح من السهل جدا الحصول على أحداث المقاطع الضاحكة والاستعراضات والرقص الشعبي، والأغنيات بأنواعها وقصائد الشعر، وفيض كبير من الصور اللانهائية لكل شيء.

وظهر قدرا كبيراً من الخلافات في كل الآراء حول الأحداث الجارية بطريقة لا يمكن فهمها على سبيل تعدد وجهات النظر، بل هي خلافات ذات طابع استقطابي حاد، وفي معظمه لا يستند على مرجعية فكرية واضحة، وبلا أسباب منطقية، بل ويصل هذا الاستقطاب إلى حده الأقصى في معظم الأحوال عبر السباب والسخرية الحادة.  بالإضافة إلى تراجع واضح في الإطار المرجعي للجمهور خلال هذا الربع الأول من القرن الحادي والعشرين وتراجع عادة الذهاب إلي المسرح والتي كانت عادة اجتماعية مصرية، وكذلك عادة الذهاب لدور العرض السينمائي، والتي أصبحت مرتبطة بالاحتفال بالأعياد في سياق متصل مع الخروج للملاهي والمتنزهات المتاحة لأهل مصر، وقد سبق ذلك كله تراجع في تعليم الفنون الجميلة في التعليم العام، والذي كان مصدراً هاماً لتأسيس الإطار المرجعي للمتلقي، ومع سيادة واضحة لأفلام التشويق والحركة على الطريقة الأمريكية، وانتشار شرائط الأفلام المصرية الضاحكة الخشنة وتكرارها، والابتعاد عن النصوص الدرامية المهمة.  ولذلك كان من الطبيعي هذا الأمر المحير في تراجع إيرادات الفيلم الرائع أهل الكهف الذي حمل اسم توفيق الحكيم ، مع نخبة من نجوم السينما المصرية، وكان من الطبيعي أيضا أن يحقق الفيلم الضاحك "جوازه توكسيك" عدد خمسة عشر مقعداً في كل حفلاته في يوم كامل. 

ذلك أن الجمهور قد أصبح في حالة ملل من السهولة المفرطة والضحك الخشن وتكرار الوجوه، وأيضا أصبح غير قادر على التفاعل مع الذائقة ذات المحتوي الفلسفي في فيلم أهل الكهف، دعنا نبحث عن الوسط الكبير الذهبي في معادلة التلقي المصرية بكل ما فيها من مكونات إيجابية تاريخية وطوارئ سلبية مستحدثة. إنها الجماهير الغفيرة جداً التي أصبحت مرتبطة بالذائقة العالمية، عبر نتفليكس وصناعة هوليوود والفضاء الرقمي المحلي والدولي معاً. جمهور يبحث عن السهل الممكن المبتكر، ربما لا يمتعه ذلك السهل الممتنع الذي كان علامة الإبداع المصري في الفنون التعبيرية، إلا أنه قد اكتسب مهارات جديدة في التعامل مع الفنون لا يقبل معها أيضا تلقي تلك السهولة والسذاجة المفرطة.

إنها الجماهير الغفير جداً التي تفتقد رؤية ذاتها إلا نادرا في الفنون التعبيرية، هكذا قرأت هذا التناقض في تلك الملاحظة عبر الإيرادات وهي علامة دالة تدعونا لرصد هذا المؤشر الخطر في تراجع الجمهور، وتدعونا لإعادة النظر والتخطيط والتفكير لحل تلك العلاقة بين الفنون التعبيرية والجمهور الغفيرة جدا على كل مستويات التأسيس وخطط الحاضر والمستقبل وعودة تعدد مراكز الإنتاج الفني واستعادة المصريين لرؤية ذاتهم في فنونهم التعبيرية.

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز