د. حسام عطا
الفنون التعبيرية والمجلس التخصصي للتنمية الاقتصادية
لا شك أن الكثير من النقاد والكتاب والنجوم ومتذوقي الفنون، بل وقسم كبير من أصحاب الحضور الإبداعي في المسرح والفنون التعبيرية يشعرون بحضور واضح للنزعات الشكلية وللأنماط الفنية التي لا تترك ذلك الأثر الروحي والفكري والجمالي الذي كانت تتركه الأعمال الفنية حتى منتصف التسعينات.
فهل من نجوم معاصرة في فن التمثيل على سبيل المثال، رغم الحضور الكبير لعدد من النجوم اللامعين قادرة على صناعة ذلك الأثر الذي تركه محمود ياسين، أحمد زكي، نور الشريف، عادل إمام، محمود عبد العزيز، حسين فهمي، محمود الجندي وغيرهم؟ والحق أن المثال لا يعود أيضاً لجيل العمالقة لا يعود لفاتن حمامة و عمر الشريف و فريد شوقي و محمود المليجي وزكي رستم على سبيل المثال لا الحصر. لماذا يحدث ذلك إذن مع توحيد معيار مشترك بين كل الفترات منذ الستينيات المصرية حتى الآن آلا وهو معيار الرقابة على المصنفات الفنية.
إنها إذن النزعة الشكلية التي أصبحت نمطية وأيقونية أما الأعمال التي تقع خارج الإنتاج التجاري الجماهيري الكبير، فقد أصابتها صبغة عدمية وذهبت لتسأل أسئلة بالغة الكآبة كنوع من إعلان الاختلاف.
والتفسير الذي أراه مناسباً في تقديري لهذا النزوع الشكلي السهل ولتلك العدمية الكاذبة أيضاً ولسيولة الحضور والغياب في عالم الفنون التعبيرية تفسير يعود إلى سببين كبيرين السبب الأول سبب مصري محلي وهو يعود في تاريخنا الحديث لأمر عميق في التفاعل الحضاري الثقافي في مصر مع الحداثة الغربية، وهى الحداثة التي تمت عبرها عملية تنظيم إنتاج الفنون التعبيرية المصرية المعاصرة.
وهي الصدمة التي حدثت لمصر ودول العالم الثالث كما اصطلح على تسميته سياسياً عند التعرف على الحداثة الغربية، وذلك لأنه مختلف عنها لأنها قادمة من ظروف مجتمعية وعقلية مختلفة عنه.
وهكذا ولدت الحداثة المصرية وهي تحمل في داخلها بذورا مضادة، ولذلك فهي حداثة ضد نفسها تنازعها القديم نتيجة وجود أصول ثقافية لديها القدرة على مقاومة استيعاب الحداثة الغربية. وقد كادت مصر ومعظم دول المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي أن ينسوا الشق الاستعماري العدواني الغربي في مسألة الحداثة الغربية لولا حضور الحرب الأخيرة الحاد المؤلم. مما يعمق الانفصام الحاد، حيث لا يزال المركز الغربي يتحدث عن التعددية الثقافية والتفاعل الدولي في القيم العامة الحاكمة لعالمنا المعاصر. إن العالم الغربي لا يزال ينشر مشروعه الثقافي الحر، بينما على الصعيد العسكري والسياسي والاقتصادي يحدث كل ما نراه من تراجع واضح يعود لقوى الرجعية الاستعمارية التاريخية. وفي ظل هذا التناقض يجد المبدعون أنفسهم في أزمة وجودية فيذهبون للشكلية الأيقونية كحل سهل بسيط يعتمد التجاهل ويدفع في اتجاه التسلية والترفيه خاصة مع وجود مراكز اقتصادية عربية جديدة داعمة لهذا الاتجاه. أما السبب الثاني فهو سبب دولي بعيد عن مصر ومحيطها العام، وهو حضور تلك النزعة الشكلية، وأيضاً النزعة العدمية في الإنتاج الكبير للمركز الغربي.
وإذا تأملت هوليوود على سبيل المثال وأنماطها الشكلية الأيقونية في مجال السينما، خاصة أفلام الحركة والمطاردات ستجد هذا الحضور الشكلي، وإذا ما تأملت نجاحات لعروض مسرحية استعراضية مثل "مولان روج" المعروفة ستجد في قلب الإبهار وحكاية الحب والحرية رؤية بالغة العدمية لفكرة حرية المرأة في علاقتها بالرجل، إنها حرية الجميلة التي يجب أن يستمتع بها الجميع. ويعود ذلك الأمر إلى السبب الأوضح وهو الاقتصاد.
فالقوة الاقتصادية كصانعة للقوة الثقافية هي التي تسعى طوال الوقت لصنع اتساق ثقافي عام بينما تتحدث بصوت مرتفع عن التعددية الثقافية.
وهكذا كان حضور فنون ما بعد الحداثة بما تحمل من صفات استخدام الصور وذهابها في اتجاه الجمهور الكبير، وقدرتها على التفكيك السهل والسخرية الحقيقية أكثر سهولة وإن اتفقت ما بعد الحداثة بعيداً عن مركزها الغربي على استيعاب مشكلات الحداثة التقليدية، وعلى إدماجها في نزعات أيقونية شكلية وذات طابع عدمي أيضاً، إنها ليست حلاً لمشكلات الحداثة العالقة، بل إعادة تعميد لمشكلات الحديث في قالب ما بعد حديث.
ولذلك تحضر قيم القوة والثروة والجنس كمحرك عام لمعظم الفنون التعبيرية المعاصرة. ومع محاولات التقليد أو محاولة الانتماء لقوى ورموز عالمية وصور وأزياء وإشارات قادمة إلينا من نجوم كبار يزداد الأمر تعقيداً، خاصة مع حضورهم في المشهد بشكل حاد، ومع تصاعد الصراع الجماهيري معهم وهو الصراع الواضح على وسائل التواصل الاجتماعي. وهو ما يتصور البعض أنه نزاع يرجع للغيرة أو النظر بريبة للملايين أو ما إلى ذلك، بينما سببه الحقيقي هو تلك النزعة الشكلية التي تخرج النجم من فكرة التعبير عن آمال وآلام الجمهور الكبير، وهي الفكرة التي حضرت بوضوح لدى نجوم الأجيال السابقة. ويأتي تحليلي هذا كمحاولة للتفكير في الحفاظ على القيمة الرمزية للفنون التعبيرية المصرية. وأيضاً كتفكير اقتصادي، وجدير بالذكر أن تفكيك تلك النزعة الشكلية والتي أصبحت أيقونة وتجنب تلك العدمية في فنون النخبة لهما ضرورتان لعودة الثقل والقيمة الاقتصادية للفنون التعبيرية المصرية. ويأتي ذلك التفكير في إطار اهتمامي بعمل المجلس التخصصي للتنمية الاقتصادية الذي تمت إعادة تشكيله بقرار جمهوري من السيد رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي. وهو المجلس الذي يجب في تقديري أن يشكل حلقات بحث، ويدعو لدراسته حالة الفنون التعبيرية المصرية، وعلى رأسها المسرح والسينما لاستعادة قدرة الفن المصري على أن يكون حاضراً في تعظيم موارد الاقتصاد، كما كان سابقاً ولبحث تشجيع رأس المال الخاص للعودة للإنتاج ولدعم التعددية الثقافية بعيداً عن حالة الاتساق الثقافي المفرطة في عملية الإنتاج، والحفاظ على دور العرض المسرحي والسينمائي والحفاظ على حيوية القوة الناعمة المصرية بالعمل، فحق العمل المنتظم هو القادر على تجديد تلك الحيوية وحصد المكاسب الرمزية والمادية معاً. فلا شك أن الفن المصري يحتاج لتعدد مراكز الإنتاج، ولاحترافيتها وابتعادها عن الأنماط الشكلية حتى يعود كقوة اقتصادية وروحية وثقافية كبرى كما كان في الماضي القريب. ولا شك أن مسألة الفنون التعبيرية المصرية كمصدر اقتصادي من مصادر مصر الاقتصادية يجب أن يكون تحت بصر المجلس التخصصي للتنمية الاقتصادية، وفي هذا ننتظر الكثير.