عاجل
الإثنين 11 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
السودان .. وضمير العالم الغائب

السودان .. وضمير العالم الغائب

تقرير نشرته الإيكونوميست الأسبوع الماضى أظهر بوضوح أن الأزمة فى السودان وصلت إلى حدود «الصفر». 



 

صفر موارد، صفر طاقة، صفر طعام، صفر مياه شرب نظيفة، وصفر قدرة ملايين من السودانيين على العيشة أو الاستمرار فى الحياة، مع صفر إرادة لإنهاء استمرار اشتعال النيران فى ثالث أكبر بلد أفريقي ذي ثروات ومكان.

 

تبذل مصر الجهود الأكبر فى أزمة السودان.

 

تعمل مصر على حلول على الأرض. الحلول على الأرض مختلفة عن شعارات ينحتها البعض هنا أو يضعها هناك. 

 

الأمور فاقت الحد.. بينما ضمير العالم غائب.

 

إن جيت للحق، الضمير العالمى غائب عن نقاط مختلفة على خريطة الكوكب. الأرض مأزومة بصراعات، تتخفى وراءها رغبات ومصالح ومحاولات للصيد فى مياه عكرة. 

 

الأجواء مأزومة فى غزة، وضمير العالم غائب هناك أو غائب عن هناك، ومع ضمير العالم الغائب غابت الإرادة.. وغابت بالضرورة رغبات الحوار وأدنى رغبات فى إيقاف الصراع.

 

فى ليبيا.. الأمور كما نقول بالدارج المصري: على كف عفريت، بينما المعادلة السياسية هناك أعقد من أن توصف بأنها مجرد تشابكات.

 

يبدو ضمير العالم يقظًا فى أوكرانيا وحدها. كما لو أن أوكرانيا هى العالم، وكما لو أن روسيا وحدها هى الشيطان. 

 

أن تكيل القوى الكبرى بأكثر من مكيال أصبح اعتيادًا وعقيدة وممارسة نراها ونلمسها ونتابعها كل يوم.

 

تستمر مصر على خط الرشد.. وتسير على محددات الضمير اليقظ، بينما يبقى هناك فى أماكن أخرى على هذا الكوكب من يصر على العبث بمقدرات الشعوب. 

 

(1)

عملت الدولة المصرية فى السودان كما عادتها وانطلقت من منطلقاتها. 

عملت على الرشد، ومحاولة إيجاد الحلول على الأرض، وكف البنادق وأصواتها وطلقاتها. عملت الدولة المصرية على جمع الفرقاء، وطرح كل ما من شأنه إيقاف النزاع، وإضفاء الرمال الصفراء على مصادر اللهب. 

 

كان للقاهرة، السبق فى طرح الحلول ومحاولة مد جسور الحوار منذ اندلاع الحرب، وجلوس الجميع فى عملية سياسية وحوار سودانى - سودانى.

 

جمعت مصر القوى السياسية السودانية المختلفة تحت سقف واحد، ولمرة أولى، منذ اندلاع الحرب.

 

وللمرة الأولى تحققت توافقات سياسية وطنية فى مؤتمر القاهرة، انعكست على بيان ختامى توافق عليه الجميع.

 

احتضنت القاهرة قممًا ومؤتمرات، احتضنت جلسات وحوار ونقاشات. القاهرة أدرى بالسودان من أى بلد آخر، وأدرى بشعب السودان من أى شعب آخر.

ما الذي يعطل الحلول إذًا؟ 

 

الإجابة: تعطل الحلول معادلات الجوار، وخريطة التطلعات التي تغيرت، وتمادت ألوانها على أجزاء مختلفة وجديدة على أنحاء الإقليم.

 

تستلزم الحلول مع تلك التغيرات، إرادة حقيقية لإنهاء الحرب، وإعادة السودان للسودانيين. 

 

تستلزم أى حلول لأى خلافات من ذلك النوع، دعم الجيوش الوطنية، والعمل على كف انتشار الميليشيات والمرتزقة، وإرجاع سلطة حمل السلاح للدولة، لا للمقاتلين فى مزادات السلاح، ولا للمرتزقة فى زقاقات الخرطوم وحوارى كردفان. 

 

لا تنحاز القاهرة لطرف من أطراف الأزمة على حساب آخر.

 

الأزمة سودانية - سودانية، والحلول يجب أن تكون سودانية - سودانية. ترجمت مصر حيادها فى جهودها لحلحلة الملف. تواصل المسؤولون فى القاهرة مع جميع الأطراف منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب.

 

صحيح.. تتواصل القاهرة مع الأطراف كلها.. لكن على كل الأطراف فى المقابل أن يجدوا لديهم إرادة حقيقية، وظاهرة وواضحة لإنهاء الأزمة، دون أن يكون ما يظهر غير الذي يخفيه البعض تحت الترابيزات.

 

(2)

مؤخرًا، باتت الطائرات المسيرة أجنبية الصنع اللاعب الأبرز فى ساحة الحرب السودانية. 

 

دخول الحرب مرحلة «المسيرات» تدفع بالأزمة إلى نفق أكثر ضيقًا وأكثر عمقًا. يقول خبراء إن الحروب عندما تدخل معارك المسيرات، فإنها تتشعب، وتزيد اشتعالًا.. وتتوسع نطاقاتها وسط ضباب فى الأفق. 

 

دخلت المسيرات المعارك السودانية، ودخلت معها ماركات وعلامات تجارية لمتفجرات صناعة أجنبية.

 

فى الإيكونوميست قال التقرير إن الحرب التي تدخلها المسيرات، تخرج منها المحاولات لحلول، بينما تلوح من آن لآخر فرص لإنهاء الأزمة لابد من اقتناصها. 

 

إذ لم تقتنص تلك الفرص، فإن الدورات تعيد الدوران، لتأتى فرصة أخرى على مدى آخر أكثر بعدًا، فيما هناك شعب أصبح جائعًا، وربما لا يسعفه الوقت كى تحين فرص جديدة.. لجهود جديدة.. لإبرام اتفاقات هى الأخرى جديدة. 

 

الكلام سليم. وحتى الآن فشلت أكثر من 10 مبادرات لوقف الحرب. بالعكس، بدأت الحرب من ضواحى أم درمان، وانتشرت فى الخرطوم والجزيرة ودارفور.

 

وصلت النيران، من ولاية لولاية، ومن شارع لشارع، ومن نطاق لنطاق. وصل اللهب إلى 14 ولاية من 18.

 

فى ولايات مثل الخرطوم والجزيرة ودارفور وحدها هناك أكثر من 48 مليون نسمة، توصد فى وجوههم أبواب إمكانيات الحياة، أو مقومات إكمال الحياة كل يوم وليلة، لكن يبدو أن فى الدول الكبرى يعتقدون أن الحرب الحقيقية الوحيدة فى أوكرانيا، وأن الخطر الوحيد على المواطنين وعلى حقوق الإنسان وعلى حقوق البنى آدمين فى العالم.. هى روسيا، وأن ما يجرى فى غزة، كما لو أنها ألعاب نارية للاحتفالات، لا قنابل تقتل الأبرياء والنساء.. وتقتل الإنسانية معهما. 

 

(3)

 

آخر الإحصائيات الدولية تشير إلى سقوط أكثر من 200 ألف قتيل فى أنحاء الحرب المختلفة فى السودان. الحكومة السودانية تقول إن الأعداد تفوق ذلك الرقم، بينما آخر تقرير للإيكونوميست يشير إلى أن ضحايا الحرب، حتى شهر 8 العام الماضى كانوا 150 ألف قتيل.

 

فى الأزمات من ذلك النوع، حتى أعداد الضحايا تكون مبهمة وضبابية، والقدرة على العدد غالبًا ما تكون أقل من سرعة وتيرة الأحداث وسخونتها.. وبالتالى أقل من وتيرة توالى الانفجارات.

 

فى الحروب والكوارث عادة ما يوقف الذهول القدرة على الملاحظة أو القدرة على الاستيعاب. 

 

أجبرت الحرب فى السودان 10 ملايين على الفرار من منازلهم، ومنتظر لو ظلت الأوضاع على نفس الحال أن يموت أكثر من 2 مليون من الجوع بقدوم الشتاء المقبل، فى أكبر وأسوأ أزمة إنسانية فى العالم، وأكبر قنبلة جيوسياسية موقوتة. 

 

الخطورة ليست على السودان وحده، ولا فيما يتعلق بانعكاسات أحداثه على دول الجوار، وعلى الأمن القومى والاستراتيجى لتلك الدول. فالدول الكبرى لن تكون فى معزل عن تداعيات الانفجار. 

 

حجم السودان وموقعه يجعلانه مُحركًا للفوضى خارج حدوده.. لذلك فإن الدول التي تزكى نيران الصراع، وتعمل على أن يطول مداه، لن تكون هى الأخرى بعيدة عن تداعيات الانفجار. 

 

التوقعات تشير إلى احتمالات صدمة جديدة للاجئين فى أوروبا، أشبه بتلك التي تلت الحروب فى سوريا وليبيا. فى مخيمات «كاليه» للاجئين جنوب المانش الإنجليزى، أكثر من 60 فى المائة من اللاجئين الموجودين.. «سودانيون». 

 

بسهولة يمكن أن يصبح السودان ملاذًا للإرهابيين، أو على الأقل، يمكن أن يوفر مكانًا، لأقدام أنظمة، أو أتباع دول حريصة على زرع الفوضى والاضطرابات. 

 

لا أحد يعرف لماذا ينظر العالم إلى السودان بنصف عين ؟ ولا أحد يعرف لماذا تحول الدول الكبرى وجوهها من على تلك البقعة من أفريقيا، كما لو أنها ليست هناك، وكما لو أن الأمور ليست على أبواب كارثة فى قلب القارة؟

 

صحيحة الجملة التي تقول إن العالم «استجاب لحرب السودان بالإهمال والقدرية».. وصحيحة أيضًا الجملة: «إن هناك من بات يعتقد أن الطريق للفوضى فى الإقليم أصبح أمرًا عاديًا».

 

فى الولايات المتحدة يقولون إنهم مشغولون بالسياسة مع الصين، وبالدعم فى أوكرانيا، وبالمراقبة فى غزة. 

 

الرأى العام الغربى ساكن هو الآخر تجاه الأزمة فى السودان، ومجلس الأمن يعمل ليس فقط ببيروقراطية، إنما بتكاسل رهيب. 

 

تجاهل العالم للسودان خطأ جسيم، والخطأ الأكبر جسامة هو اعتقاد بعضهم بأنه من الممكن بعد استنفاد أغراض الحرب أن يعاد السودان إلى ما كان عليه قبلها. 

 

بعد أكثر من 500 يوم من القتال والنيران والانفجارات والردود بالتفجيرات بلا رحمة، سوف يستغرق إصلاح الأضرار فى السودان عقودًا وسنوات طويلة. 

 

لا يجب أن يتناسى العالم أن هناك بالضرورة ما هو أسوأ.. وأنه فى الحروب هناك دائمًا ما هو أكثر بشاعة.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز