د. إيمان ضاهر تكتب: لبنان.. مدرسة علمتنا الحياة ودرستنا كيف يكون الأمل
لبنان.. أنت الوطن والقلب وأنت النبض.. اسم لبنان قديم جدا ويطلق على جبال لبنان تم ذكره في ثلاثة من الألواح الاثني عشر لملحمة جلجامش ٢٩٠٠ ما قبل الميلاد، وهو ملك بلاد ما بين النهرين الذي اورث البشرية اقدم الأعمال الأدبية على الإطلاق.
لبنان، فخر الأرز العظيم، لبنان هو قبل كل شيء جبل شامخ، جبل لبنان يغمره بحر مغذي وعميق، وشجرة الأرز تنمو على القمم، وتقوى في العاصفة وليس في المياه الضحلة.
وقد شكل هذان العنصران الهوية الخاصة لهذا البلد وسكانه. ويمتد الجبل مسافة مائة وسبعين كيلومتراً على طول البحر الأبيض المتوسط من صيدا جنوباً إلى طرابلس شمالاً، تاركاً بعض المساحة لسهول ساحلية صغيرة استوطن فيها السكان الأوائل في العصور القديمة. ويرتفع في المتوسط ما بين 1500 و2000 متر، ويبلغ ذروته عند 3080 متراً وسرعان ما ينحدر إلى البحر، وتنحدر من القمم شلالات وأنهار صغيرة وتصب في البحر الأبيض المتوسط بشكل متعامد مع الساحل، وقد حفرت ودياناً عميقة كانت دائماً تشكل عائقاً لحركة السكان ولكن أيضًا لجيوش الغزاة.
كلمة "لبنان" التي كانت في الأصل تعني الجبل فقط وليس الدولة الحديثة، غالباً ما ترتبط بالقمم المغطاة بالثلوج والتي تهيمن على الأفق.
ويتجلى حقيقة لافتة للنظر في هذه المنطقة، هذا البلد سمي "لبنان" أي "البلد الأبيض"، ويجسد بالعربية "لبنان" معنى "الحليب".
كانت الطبيعة شديدة الانحدار لسلسلة الجبال وقد سحرت الشاعر فولني أثناء رحلته في نهاية القرن الثامن عشر: "عندما يسافر المسافر عبر المقامات الداخلية لهذه الجبال، فإن وعورة المسارات، وسرعة وباطن المنحدرات، تزهل هناك، كما في جبال الألب، يسير أيامًا كاملة، ليصل إلى مكان، كان، منذ البداية، في الأفق... وطني لبنان، اليس كنزاً لا توازيه درر العالم وإن اجتمعت؟ هنا أو في أي مكان آخر في الأدب والجغرافيا والتاريخ يحكي عن هذا "الجمال العظيم" للساحل اللبناني، "إبداع" الآثار التاريخية التي يحيط بها محيط طبيعي فاتن في القريب وخلاب في البعيد. هكذا أوضح ألفونس دو لامارتين سبب تسمية الإمبراطور أوغسطس لمدينة بيروت، حيث أُطلق عليها لقب "المدينة السعيدة" هذا بسبب خصوبة محيطها ورحابته ومناخها المتناغم الذي لا يضاهي وروعة موقعها. يمكننا أن نقول ذلك مباشرة، إن هذا "الجمال الغامض" الذي تتمتع به أرض الأرز هو إلى حد كبير بناء لرؤية مبدعة "الشرق القريب".
ومع ذلك يبقى صحيحاً أن لبنان يتمتع بخصائص طبيعية وبشرية تجعله مكاناً ممتعاً جداً لرغد العيش. أليس صغر حجم البلاد وتضاريسها الوعرة يتناقض مع المساحات الشاسعة المسطحة والصحراوية في الشرق الأوسط، مما يجعلها "جوهرة صغيرة" في وسط السهول القاحلة؟. بالنسبة لتمثيل شرق الرمال، يقدم لبنان صورة سعيدة للمسافر فهو مستعدًا للآخر، يجد امرا مشابهًا وقريبًا، فخرا معروفًا في هذه الأرض.
وعبر الشاعر لامارتين الذي عشق لبنان وعاش فترة طويلة في جباله مندهشا بمنظر الجبل الذي يظهر من بيروت قائلاً: "هذه جبال الألب تحت سماء آسيوية… ماذا يمكن أن يكون أكثر وضوحا من إبداع أعمدة جوبيتر أو معبد باخوس في بعلبك؟ إنهم الفينيقيون من هؤلاء التجار البحريين القدماء مخترعي الأبجدية، الذين سُميت مدنهم باسم صور، وصيدا، وجبيل، تلك المدن التاريخية الثلاث هي في الواقع مدن لبنان الحالي.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن قاعدة امتداد هؤلاء "الفينيقيين"، كما أطلق عليها اليونانيون بسبب اللون الأرجواني الصبغة التي جعلت سمعتهم هي أكبر بكثير لأنها تشمل أيضًا ساحل البحر الأبيض المتوسط. كيف لا تنبهر بالبيوت ذات الأقواس الثلاثة والتراث المعماري اللبناني الأصيل وبالطبع بآثار جبيل الفينيقية؟ يتنوع كتالوج السياح بقدر ما يتنوع الثروات الثقافية المحلية.. من رقصات السيوف الدرزية إلى صابون زيت الزيتون في صيدا.
وهكذا يجد الزائر نفسه منغمسًا في عالم تم تنظيمه للاستجابة للتوقعات المنسقة، ورغبات منظمي الرحلات السياحية الذين يسارعون إلى كثافة وعمق المشهد الثقافي وإذا قلنا كلمة "فنان"، فإن الإشارة ستتأرجح بين شخصية المبدع البوهيمي وأقلامه في يده ورأسه في النجوم متاثرا بالتراث المتنوع الثراء والحرف اليدوية، بين الآثار الرائعة والترفيه الليلي. يكافح الإنتاج الثقافي في لبنان للعثور على مكان له في المشهد الطبيعي.
أينما نظرنا، نجد الإنتاج الفني في حالة توهج، لدرجة أن الناظر يشعر بدوخة عارمة أمام هذه الحيوية الفنية التي تفيض، صيفا وشتاء، في المهرجانات والمعارض والعروض والحفلات الموسيقية وغيرها.
لبنان، حلم شعراء الشرق والغرب. ولطالما جسد لبنان حلم الشرق، وهو ما دفع الأدباء الرومانسيين إلى القيام برحلات لأرضه الرائعة واحتفل شعراء مثال هوغو ونيرفال وموريس باريس وآخرون بشكل غنائي بجماله، الذي غالبًا ما كان مشبعًا بالروحانية.
كما أن الأصوات العظيمة في الأدب اللبناني لها استطلعت لبنان الأبدي هذا، مزجت ببراعة بين الواقع والخيال، والذاكرة والشعر.
إذا كانت اضطرابات التاريخ لم تنج هذا البلد إلا بصعوبة، فإنها لم تقلل من قوة جاذبيته، ولا من سحره الذي يمارسه على الكتاب.
تمت قراءة حروبه بطريقة حقيقية ورمزية، واستمرت مناظره الطبيعية ورجاله ودموعه في إلهام النصوص القوية والقصائد الرائعة.
لبنان المعاصر هو أكثر من أي وقت مضى أرض التناقضات.
من جبران خليل جبران الى ميخائيل نعيمه وايليا أبو ماضي، مارون عبود واسماعيل الفقيه ومي زيادة وشعراء العرب العظماء أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وعمر ابو ريشة ومحمود درويش، نزار قباني وغيرهم الكثير والعديد من الرابطة القلمية والعصبة الاندلسية والنادي الأفريقي، حيث يترعرع طعم لبنان بصوت الحفاوات الشعرية الرائعة والخالدة وعطر أزهار البرتقال الساحر في الطبيعة الغناء. وكيف يمكنني انهاء كلماتي عن موطني الحبيب وهو اليوم غارق في جحيم الاضطرابات امنيا واقتصاديا. لسوء الحظ لا ألمح حاليا أي أمل في موطن الأمل الجميل الذي يرزح في بلاء انحطاط لم يعرفه قبلا.
اللبنانيون تعبوا وهم منهكون من حمى الانتكاسات والسيادة الفارغة، الضئيلة المصابة بالهشاشة العضوية.
لقد تم زعزعة سيادته الكاملة في الداخل. ولكن هل سيستمر القارب اللبناني في الابحار في بحر متضارب ومحيط دولي عاصف بشتى الرياح العاتية؟
وأختم بالتفاؤل وإبداع نزار قباني الشاعر العاشق لبيروت الأنثى: "يا ست الدنيا يا بيروت.. حيث الوعد الأول.. والحب الأول.. لبنان.. أيهّا الوطن الحاضنُ للماضي والحاضر، أيها الوطن يا من أحببتهُ منذُ الصغر، وأنت من تغنى به العشاقِ وأطربهُم ليلُك في السهرِ أنت كأنشودة الحياة وأنت كبسمة العمر، وستبقى جبلاً شامخاً ترنو لك الأرواح، وتتعلّق بك القلوب، وتشخص لك الهمم مهما أثخنتك الجراح يا لبنان.