عاجل
الأحد 12 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
البريكس ونظرية جمالية جديدة في الفنون التعبيرية

البريكس ونظرية جمالية جديدة في الفنون التعبيرية

في حضور كريم رفيع المستوى، عادت في البيت الروسي في القاهرة أجواء الحوار المثمر المدمج بمشاعر الدفء الإنساني، ذلك أن البيت الروسي بالدقي يبدو كبيوت كبار العائلات في الريف المصري. 



 

حيث ذلك الدفء النادر الذي تشعر به وينعكس على تفكيرك، إنها روح الشرق القوية البسيطة ذات الطابع القوي العميق، وفي هذا المكان حضرت أجيال عديدة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية حيث دار حوار حضاري في ضيافة السفير الروسي جيورجي بوريسنكو، وحيث بقيت من بعيد وفي خلفية مشاعر الجميع تلك الآمال والآلام المتصلة بصراع القطبين الطويل خلال الحرب الباردة، وإذ حرص الجميع على الإشارة لضرورة تخفيف ضغوط القطب الواحد في عالم معاصر، والدفع بدول الشرق والجنوب نحو الحضور الفاعل في عالم واحد، كنت في صباح الاثنين الماضي الباكر هناك في الثامن عشر من نوفمبر الجاري 2024، مشغولاً بفكرة مسيطرة، وهي كيف يمكن أخذ الأنظار في ذلك الحوار المعنون "مؤتمر بريكس آفاق التعاون الاقتصادي والثقافي" في اتجاه هام يتجاوز التعاون بين الدول الأعضاء ليتجه نحو الخطاب مع العالم الغربي ومراكزه وأطرافه، وهو التوجه الذي برعت فيه الصين على المستوى الاقتصادي داخل أسواق الغرب والشرق وأسواق الولايات المتحدة الأمريكية.

 

كنت سعيداً أيضاً لأن مؤسسة الحوار للدراسات الاستراتيجية والإعلامية قد خصص محوراً هاماً للحوار حول آفاق التعاون الثقافي. وكنت قد لمست خلال عملي بمجال الفنون تأثير التفاعل الثقافي في مصر مع روسيا والشرق، وأيضاً هذا التأثير في تفاعلها مع الغرب وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

 

كنت أجلس في ذلك الحوار وأعرف وأذكر نفسي طوال الوقت أنني مواطن من مصر التي هي دولة عظمى ثقافياً. والتي هي المحور العالم التاريخي والمعاصر لتفاعل ثقافات جهات العالم الأربع، وأنها علمتنا أن المصريين يأخذون من العالم الخارجي ما يريدون ويتركون ما لا يريدون ويعيشون بطريقة مصرية خاصة جداً، حيث قوت اليوم مع الضحك من القلب والتشاركية الإنسانية، والشعور بالأمن في سربهم والابتهاج بالصحة والعافية، غير عابئين بطريقة التفكير الرأسمالي المعاصر عبر الرفاهية والتنعيم المبالغ فيه وعبر الملكية المبالغ فيها وتحديد قيمة الأفراد بمراجعة ثرواتهم في البنوك.

 

ولذلك يبدو الجنوب بكل أطفاله اللانهائيين وخصوبة ولادة الأطفال لتحسين الحياة سلوك مصري أيضاً، ويبدو الشرق الذي يفضل معظمه النوم بعد غياب الشمس والاستيقاظ مع استيقاظ الحياة كل صباح سلوك مصري أيضاً.

 

مصر هي تحالف مصري بين أفراد شعبها العظيم، لا تستهدف السيطرة على أي بلاد أخرى، فهي صاحبة الجيش الأقوى في العالم القديم والذي لم يعرف احتلال دولة أخرى، ولم يقاتل إلا لتعزيز مكانتها ولرد المعتدين والحفاظ على مصالحها، إذ أن التراب المصري المقدس كما رأى المصري القديم لا يجب أن يختلط بتراب آخر أو أرض أخرى، إنها مصر كما هي على خريطة العالم، منذ أدرك الإنسان الجغرافيا حتى الآن. وهكذا عندما يفكر تحالف البريكس كمجموعة عمل في آفاق التعاون، وهو التحالف الذي بدأ مبكراً كفكرة وتعاون قبل الحرب الروسية الأوكرانية بكثير عام 2009، وهو ما يؤكد أنه ليس مجرد صياغة سياسية لتجاوز أزمات بعينها، ولكنه تفكير عميق جاد يعبر عن إدراك الشرق والجنوب لسؤال الوجود المعاصر.

 

وربما يعلو صوت الاقتصاد ومقترح العملة الموحدة في مواجهة الدولار، إلا أن التفكير الواقعي حقاً هو تفكير يعرف أنه لتخفيف ضغط الاعتماد عليه في التبادل التجاري العالمي، وليس للاستغناء عنه. وإذ يعلو صوت الاقتصاد في التجمع يأتي صوت الثقافة المنخفض نسبياً، رغم العديد من الإنجازات في هذا المجال. ولكن ورغم العمق الحضاري الثقافي يبقى شأن الفنون والحضور التاريخي لها، ربما لم يلفت نظر خبراء السياسة بشكل عملي في المجموعة. ولذلك فعندما دخل التفكير للتعاون الثقافي حيز التنفيذ فقد ذهب البريكس إلى أحدث الفنون وهى السينما، كأداة أساسية للتعاون في هذا المجال بين دول المجموعة للبحث عن التأثير الأكبر. بينما يعرف خبراء الفنون أن المسرح هو ابتكار الحضارة المصرية القديمة، وكذلك فنون الموسيقى والرقص والفنون التشكيلية، ويعرفون أن حضارات الشرق الأقصى قد عرفت أنواعاً مسرحية مختلفة وبالغة الابتكار والأهمية، ويعرف الخبراء أن فنون الرقص الشعبي والاحتفال الكرنفالي عميق البهجة والإنسانية هو ابتكار روسي قديم جداً ومرتبط بحضارة ذلك البلد العريق، وأن رؤية تلك الحضارات القديمة وأيضاً الفنون والحضارات الأفريقية هي رؤية مختلفة للعالم يجب فهمها وإعادة إنتاجها مرة أخرى في عالم معاصر. إذ أن السينما بعد اختراع البث الرقمي التليفزيوني عبر الأقمار الصناعية تراجع تأثيرها الواسع على الجماهير الغفيرة، كما تراجع تأثير الشاشات التليفزيونية أيضاً بعد الحضور الفعال العالمي للشبكة الدولية للمعلومات وإنشاء عالم المنصات الإليكترونية الذي جعل تأثير المنصات بطابعها الجديد هو التأثير الأكثر فاعلية.  ومع تعزيز عالم التواصل عن بعد أصبح الإنسان المعاصر خاصة في الغرب يحتاج حقاً لذلك التفاعل الحي الذي يصنعه المسرح واللقاء المباشر مع الجمهور، ويحتاج لهذا الفرح الإنساني الذي تبثه حالة الكرنفال الاحتفالي والتجمع البشري المباشر.

 

وهكذا يجب إدراك حقيقة الفنون لأنها تعبير عن رؤية الإنسان للعالم لأنها بالفعل تعبير عن الطريقة التي يدرك بها الإنسان الوجود.  بما يحمل من فلسفة ورؤية تشكل الثقافة وأسلوب الحياة الذي يشكل رغبات الإنسان في عالم واحد ويشكل السوق.

 

ولذلك فإن الفنون التقليدية لحضارة مصر القديمة وحضارات الشرق والجنوب يجب إعادة إنتاجها داخل دول المجموعة، وطرحها للخطاب والتواصل مع كل دول العالم. لأنها تعبير عن رؤية مغايرة للحياة تختلف جذرياً مع الرؤية المركزية الغربية للحياة والعالم. ولعل التجربة الصينية والروسية والهندية في إعادة إنتاج الفنون التقليدية للحضارات القديمة وإدماجها مع التكنولوجيا المعاصرة هي تجارب تستحق الدراسة والتأمل والسير على نهجها.

 

وذلك لأن تلك الفنون هي نظرية جمالية مختلفة للمسرح وكل الفنون الأخرى تعبر عن فلسفة أكثر بساطة وإنسانية في فهم الحياة. ولأن أوروبا القرن التاسع عشر ومع تمددها الاستعماري وقوتها الاقتصادية قد جعلت من طريقتها في المسرح والموسيقى والفنون الأخرى هي الطريقة المتبعة حول العالم، حتى في دول الشرق والجنوب، ثم مع امتداد الثقافة الأنجلوسكسونية والثروة والتنوع البشري الحاضر من كل دول العالم لأمريكا كبلد واعد بالفرص استقبل الأفراد المتميزين من كل أنحاء العالم، ووفر لهم نظام عمل داعم فقد أصبحت صورة الفنون الغربية المعاصرة هي الصورة الذهنية المعتمدة لدى الأكثرية من الجمهور حول العالم، وهكذا جاءت هوليوود في المقدمة في فن الأحلام المصورة السينما، وفي فنون أخرى لتصنع رؤيتها للعالم وتدفع بها لكل البشر، ومع الوقت والتراكم والإنتاج الكثيف أصبحت تلك الرؤية طريقة حياة صاغت السلوك البشري نحو قوة السوق الأمريكي الأوروبي حول العالم، وصعود الدولار ليصبح القطب الواحد القادر على تحقيق وفرة ورهافة الحياة اليومية حول العالم على الطريقة الغربية الأمريكية الباحثة حقاً عن راحة يحتاجها البشر وعن متعة وعن شعور بالتحرر والخيال. بينما أصبح المركز الغربي ينظر بشوق لسحر الشرق وعنفوان الجنوب ولإنسانية فنونه واختلافها الذي يحل مشكلات الإنسان في عالم يبحث عن القوة والثروة والمتعة فقط، ولذلك بقي الجمهور في معظمه في الشرق والجنوب يتعلم الطريقة الغربية في تلقي الفنون. ولذلك فإن عملية إحياء الفنون التقليدية للشرق والجنوب بحساسية مشتركة ضرورة للعالم أجمع.

 

وربما أشير لخبراء السياسة لكتب هامة مثل كتاب العلامة فوبيون باوز المسرح في الشرق، والذي يشير إلى أشكال جمالية ومعرفية في الفنون بين دول الشرق، وهو ما يوحد بينهما على أساس نوعي فسيح، يتفق في جوهره الاحتفالي المبتعد عن المدرسة الواقعية الغربية التقليدية، وعن أهداف التسلية والترفيه فقط الذي يشيع في السينما والمسرح والفنون الأمريكية الأكثر انتشاراً عبر المنصات الإليكترونية الكبرى، وشركات البث التي تتجاوز ميزانية بعضها ميزانيات بعضاً من الدول حول العالم، وكذلك  تجدر الإشارة للفنون الأفريقية واللاتينية وما فيها من إلهام كبير، وذلك اعتماداً على مبدأ عدم تقادم الفنون والذي تعتمده النظريات العلمية فالفنون القديمة هي مصدر من مصادر الحداثة وما بعدها. وبينما أصبحت السينما الآن الوسيلة الأقل تأثيراً في عالم المنصات الرقمية المعاصر، ولذلك فقد أصبح من الضروري وجود نظرية جمالية تعيد إنتاج فنون الشرق والجنوب بطريقة معاصرة، ليس فقط لهذا التجمع، ولكن من أجل ثراء التنوع الثقافي العالمي وصفاء الروح الإنساني.

 

وهذا يتم عبر صياغة جمالية مشتركة ستضع حيوية وحضور إنساني متجدد مع إمكانية جذب الجماهير إلى المناطق السياحية الأثرية وإعادة إطلاقها حية ممزوجة بعروض الفنون التقليدية في الشرق والجنوب، والذهاب للعالم الغربي بفنون مدهشة مع ضرورة التفكير في حضور المنصات الإليكترونية وإدماجها كي تصبح تلك الفنون متاحة وقادرة على التفاعل مع الذائقة الفنية الجديدة في عالم معاصر، مع إدراك قوة البث الرقمي التليفزيوني الفضائي أيضاً، والذي لا يزال فاعلاً في عالم معاصر هو عالم المنصات الإليكترونية. وإن كان ذلك لا ينفي أهمية السينما وقدراتها اللامحدودة ولا ينفي أيضاً أوجه التعاون الثقافي الثنائي أو متعدد الأطراف بين دول المجموعة في مجالات التعاون التقليدي، إلا أن طفرة ونقلة وحضوراً وتأثيراً حقيقياً لن يحدث إلا إذا جعلنا العالم يفكر في الحياة ويراها من وجهة نظر الشرق والجنوب.

 

مما يعكس إنسانية أكثر في عالم هو قرية واحدة ويقدم أنماطاً للحياة ورؤى قادرة على خلق رغبات وأسواق مختلفة تسمح بالتعدد وتساهم حقاً في الإنجاز الاقتصادي وفي رؤية جديدة معاصرة للوجود الإنساني في عالم معاصر.

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز