فريدة مونودراما مؤثرة
عودة «فريدة حلمي» لمسرح الطليعة
محمد بغدادي
بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات عادت الفنانة القديرة عايدة فهمي لتقدم لنا مونودراما "فريدة" في موسم جديد على خشبة مسرح الطليعة، وإعادة تقديم هذا العرض مجددًا يعتبر مغامرة فنية، ومسؤولية كبيرة بالنسبة للفنانة عايدة فهمى، خاصة أن هذا العرض أحدث ردود فعل واسعة لدى الجمهور، فعندما قُدم لأول مرة حصل على إشادات جماهيرية ونقدية كبيرة، وذلك طوال ليالي عرضه بالقاهرة والمحافظات، وخلال مشاركته الدولية في عدد من المهرجانات، ومن أبرزها مهرجان "مشاهد على مفترق الطرق" بمدينة بلوفوديف ببلغاريا، كما قدم العرض، بجانب حصوله على جائزة السينوغرافيا بمهرجان الزرقاء الدولي للمونودراما بالأردن والذي أقيم ضمن الاحتفالات الخاصة باختيار مدينة إربد عاصمة الثقافة العربية لعام 2022.
ولكن الفنانة عايدة فهمى أثبتت أنها قادرة على التواجد مرة أخرى بنفس القدر من التألق والحضور، رغم مرور أكثر من 3 سنوات على إنتاج العرض.
"فريدة" مونودراما تستعرض المعاناة النفسية والإنسانية التي يتعرض لها كبار الفنانين، عندما يتقدم بهم العمر، وتنصرف عنهم الأنظار، وتنفض من حولهم الشهرة، وهم جالسون في كواليس المسرح، أو يقومون بعمل أدوار بسيطة وصغيرة، بعدما كانوا نجوما، وهذا ما يصيبهم بالألم والحسرة والانكسار، إلا أن الأكثر تأثير بالسلب و الاحباط هو انحسار الأضواء عن الفنان، وهذا مؤلم نفسيًّا إلى حد كبير.
قد لا يفيدنا كثيرًا أن نعقد مقارنة بين، العمل الأصلي المُستَلهم منه عرض فريدة، وهو "أغنية البجعة" للكاتب الروسي أنطون تشيكوف، والذي كان فى البداية قصة قصيرة كتبها تشكوف عام (1886)، تحت عنوان "كالخاس" عن الكاهن كالخاس، أحد شخصيات "أوبرا هيلينا"، وفى عام (1887) حولها إلى مسرحية من فصل واحد، إذ لا ينتمي النص الأصلى "أغنية البجعة" إلى مسرح المونودراما، بل يتكوّن من شخصيتين هما الممثل والمُلقن، كما أنّ بطل العمل (الممثل) رجل وليس امرأة، وهو شيخ عجوز وحيد، وهب حياته للمسرح، وأدّى أدواراً عظيمة من الأدب العالمي، وحين كبر في السنّ لم يعد أحد يتذكره. ذلك هو النص الأصلى، ولكن المخرج والكاتب أكرم مصطفى عندما أعد هذا النص و مصره، سنكتشف بسهولة مدى التباعد بين العملين، حيث أسند المخرج البطولة لنجمة مسرحية، أنطفأت من حولها الأضواء، ولكن يشدها الحنين إلى المسرح، وبعد 37 يومًا من العزلة لم تخرج خلالها من منزلها تقرر أن تذهب إلى المسرح لتحضر بروفة عرض مسرحى لتستعيد ذكرياتها، وتجتر مشاهد قدممتها لجمهورها عندما كانت نجمة المسرح الأولى، وتتقمص الأدوار التي لعبتها من قبل، فتدب فيها الحياة وتنطلق، و تنتقل بنا من مشهد إلى مشهد آخر، ما بين شخصية "الليدي ماكبث" بكل قسوتها، وشخصية "ميديا" بدمويتها، و "طقوس الإشارات والتحولات"، إلى المرأة المغلوبة على أمرها التي يسيطر عليها شعور بالقهر والظلم، ثم الفتاة الريفية الطيبة، التي تذكرنا فيها بدور (نعمة/ فاتن حمامة) فى فيلم أفواه وأرانب، و أدوار أخرى كانت أدّتها على المسرح في الماضي، تعود لتتذكرها وتؤديها بمهارة، وقد أضاف المخرج أصوات التصفيق لتتخيل أن هناك جمهور يصقق لها بحماس، ويحيها على براعتها فى الآداء.
نجحت الفنانة عايدة فهمى فى أن تنقل لنا تلك المشاعر المؤلمة التي تنتاب النجمة المشهورة عندما تنطفأ أضواء الشهرة من حولها، ولكى تؤكد للمشاهد إلى أى مدى كانت ممثلة قديرة ونجمة مشهورة، ونجح الكاتب والمخرج أكرم مصطفى إلى حد كبير فى اختيار الأدوار المؤثرة التي تستدعيها النجمة من ذاكرة المسرح، وتأديها باحتراف وتمكن، وتنتقل من شخصية إلى أخرى، ومن مشهد إلى مشهد، وهى تستعيد أمجادها باقتدار، ولعبت الإضاءة، والمكياج دورا متميزا فى تأكيد تمكن الممثلة لأداء أدورها المتعددة التي استعادت بها امجاد تألقها على المسرح، ولو أن المخرج حاول أن يستبدل الملابس من خلال تغيرات بسيطة تمنح الشخصيات التي لعبتها عايدة فهمى حيوية وتنوع، لتأكيد الإيهام المسرحى التي تجتره النجمة، لكان ذلك أفضل بكثير من أن تظل بملابسها العادية التي ظهرت بها طوال العرض، خاصة وأن الأداء الحركى، وتحرر الممثلة من مظاهر الشيخوخة كان واضحا مؤثرا للمشاهد، وكان أى تغيير طفيف فى الملابس سيأخذنا إلى حيث تريد الشخصية، ولكن "أغنية البجعة" المقصود بها أن البجعة عندما يتقدم بها العمر، وتصبح وحيدة تطلق أغنيتها الأخيرة، التي تنهى بها حياتها، وهذا ما حدث مع بطلة العرض فريدة التي، استدعى لها المخرج صوت صديقتها "إلهام" وللأسم دلالته هنا وهو (الإلهام)، كما أن اسم البطلة (فريدة) وأيضا (حلمى)، له دلالته، من التفرد والحلم، فهى أحلام بالعودة إلى الأضواء، وتفردها بالأدوار التي لعبتها قبل ان تنحسر عنها الأضواء، ويأتى فى نهاية العرض رجل الأمن بالمسرح، ليطلب منها أن تغادر خشبة المسرح، فتطلب منه أن تخرج من الكواليس كما كانت تخرج أثناء أداء أدوارها الشهيرة على المسرح، ونلاحظ هنا نظرة الانكسار، ووهن وبطء حركة خطوة الخروج، فتسحب حقيبتها، ووشالها و(الجاكت) الذي كانت ترتديه من شماعة الملابس، وتجرها على الأرض، وتخرج مهزومة منكسرة، تودع حياتها المسرحية الصاخبة التي عاشت فيها للحظات، لتستقبل النسيان وكأنها البجعة التي غنت أغنيتها الأخيرة، وغادرت خشبة المسرح، أو غادرت حياتها، حيث يطويها النسيان مرة أخرى. المونودراما تحتاج إلى ممثل مقتدر وموهوب، قادر على أن يملك أدواته لمدة ساعة تقريبًا، دون أن يمل أو يفلت الجمهور من سيطرته، وهذا ما نحجت فيه الفنانة عايدة فهمى، فقد أدت الدور بصدق لا يخلوا من المشاعر الحقيقية، التي تستدعيها من مناطق اللاوعى بداخلها، وهذا ما منحها قدر عال من المصداقية فى الآداء، ورهافة حس توافقت إلى حدٍ كبير مع بطلة العرض التي عشقت المسرح، وعاشت بين جدرانه الثلاثة حبيسة أدوراها التي تألقت فيها عبر مشوارها الفنى الطويل.
لعبت موسيقى محمد حمدى رؤوف دورًا مؤثرًا لتأكيد رؤية المخرج أكرم مصطفى، وهيأت المشاهد لانتقال بطلة العرض من مشهد إلى مشهد، ومن حالة إلى حالة أخرى، وساهمت الإضاء والديكور الذي صممه عمرو عبدالله فى الإيحاء بالجو العام لمسرح تحول إلى أطلال من وجهة نظر بطلة العرض النجمة المشهورة التي انفض من حولها الجمهور، وانحسرت عنها الأضواء والشهرة، وجاءت معالجة أكرم مصطفى كتابة وأخراجا لنص تشكوف "أغنية البجعة" مصرية بامتياز، ومنح الفنانة عايدة فهمى طاقة هائلة فى الحركة على المسرح، مما أكد حضورها الطاغى فى كل مشهد استعادته من ذاكرة المسرح العالمى والمصري.