التجربة الدنماركية تتحقق بقصور الثقافة..
«بيت ثقافة العسيرات».. متى يتحول من موقع تسمين العجول لتثمين العقول؟!
تحقيق- محمد خضير
في الوقت الذي تحمل فيه وزارة الثقافة لواء المعرفة والوعي وتحمي التاريخ والحضارة بالتكاتف مع جميع القطاعات، خاصة التي تخاطب العقول لتصحيح المفاهيم الخاطئة لدى البعض، خصوصًا النشء والشباب، للمساهمة في بناء عقل الإنسان، نجد أن هذا الدور تقوم به وزارة الثقافة من خلال قطاعاتها المتنوعة لكن هناك تساؤلات حول وصول مدى تأثير هذا الدور لعقول ووجدان الأغلبية العظمى من الجماهير.
كما يقع على عاتق الهيئة العامة لقصور الثقافة الدور الأبرز في ذلك بربوع مصر الثقافية التي تهدف إلى تثقيف وتوعية المواطنين وتصحيح المفاهيم الخاطئة، لكن غالبا ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ونحن نستكمل التحقيقات حول الملفات المسكوت عنها بوزارة الثقافة رصدنا بالمستندات والصور ما تعاني منه فروع الهيئة العامة لقصور الثقافة بالأقاليم، التي تشير إلى الأسى والأسف الشديد مما وصل إليه أغلب المقرات والمواقع الثقافية بالأقاليم، خاصة الفروع البعيدة عن العاصمة، والتي أٌهمِلت وأَهمَلت، والعكس، فأصبح حال هذه الفروع يرثى لها.
«بوابة روزاليوسف» تواصل كشف الملفات المسكوت عنها وترصد ما وصل إليه حال «الثقافة الجماهيرية» والتي تعاني من عدم توافر أي من الاعتمادات المالية، والأيدي العاملة- خاصة بالإقليم- مع عدم كفاءة العاملين بالقدر الكافي الذي ينتج ويبرز عملًا ثقافيًا حقيقيًا على أرض الواقع؛ ينفذ الأهداف المرجوة من وجود هذه الفروع بأقاليم الهيئة على مستوى الجمهورية.
في إقليم وسط الصعيد الثقافي، نجد حالة فريدة، لكنها للأسف ليست فريدة في النشاط أو العمل على اكتشاف المواهب وتطوير الأداء الإداري، بل بالعكس نكتشف يومًا بعد يوم أن فرع من فروع الإقليم وهو فرع ثقافة سوهاج وصل إلى مرحلة صعبة من تردي الأداء، وتراجع النشاط الثقافي بشكل ملحوظ للجميع.
وفي زيارة لنا رصدنا أحد المواقع التي من المفترض أنها موقع ثقافي لنجد مفاجأة مؤسفة ومكانًا غير آدمي بمعنى الكلمة يطلق عليه «بيت ثقافة العسيرات»، الكائن بمركز العسيرات جنوب محافظة سوهاج.
ويتكون بيت ثقافة العسيرات من حجرتين من الطوب الأحمر ومسقف بالجريد والعروق والألواح الخشبية، والشقوق في جدرانها لا تعد ولا تحصى، وذلك على الرغم من تخصيص 1200 متر مربع لإقامة قصر للثقافة بذات الموقع منذ نحو أكثر من 13 عامًا، إلا أن عدم توافر الاعتمادات من قبل الهيئة العامة لقصور الثقافة حتى الآن يحول دون البدء في التنفيذ الأمر الذي يعوق العمل الثقافي.
وبالتحري والصور رصدنا أن البداية كانت مقرًا قديمًا للمكتبة الثقافية بالعسيرات، وقتما كانت قرية تابعة لمركز المنشأة، وكان قائمًا على جزء من قصر أبو رحاب، الذي استلمه الورثة بحكم قضائي، لأنه مملوك لهم وليس للدولة، ليتم نقل بيت ثقافة العسيرات إلى معلف لتسمين العجول بوسط المركز دون أي إنشاء.
أما الكتب فلا عاصم لها من الأمطار التي تهطل سوى وضعها في كراتين وتخزينها داخل الحمام خوفًا على ما تبقى منها ولم تلتهمه الفئران،
ولم يمر وقت طويل حتى هدم فرع ثقافة سوهاج مخول العجول، بعد أن أصبح المكان مأوى للأغنام ومرتعًا للقطط والكلاب الضالة.
التجربة الدنماركية.. أمر واقع
وخلال زيارة بيت ثقافة العسيرات رصدنا جانبًا مما أشار إليه الفنان عادل إمام في فيلم «التجربة الدنماركية»، أثناء زيارته لأحد مراكز الشباب، الذي أصبح أمرا واقعا؛ فاكتشفنا وجود مقلب زبالة كبير من الناحية الشمالية، رائحته الكريهة تزكم الأنوف، في المكان من المفترض أن يساعد على تنمية الفكر واكتشاف المواهب من رواد بيت الثقافة.
وبعدما تجاوزنا الباب الحديد، الذي تعلوه لافتة قديمة تحمل اسم «المكتبة الثقافية بالعسيرات» وجدنا مشهدًا مؤسفًا، فالمكان يتكون من حجرة صغيرة يطلق عليها مجازًا لفظ «»المكتبة«»، مر على بنائها ما يقرب من 70 عامًا- وقتما كان المكان معلفًا للمواشي- وهي مسقوفة بألواح وجريد وطين آيلة للسقوط وأصبحت وكرًا للقطط والحشرات الضارة، كما يحيط بها عدد من الآفات والعقارب، وتطل الغرفة على باقي مساحة الأرض، حيث بقايا معلف الماشية.
أما سور بيت الثقافة فتوجد به تصدعات وانهيارات في مختلف أرجائه، والفتحات الموجودة به تسمح بدخول الكلاب حتى أصبح المكان مأوى لها خلال فترات الليل.
أنشطة العسيرات.. للتصوير فقط
يوجد في «بيت ثقافة العسيرات» 6 موظفين منهم مدير الموقع، والمكان به دورة مياه متهالكة وغير صحية يستخدمها رواد المقهى المقام بطول الأرض المخصصة لبيت الثقافة.
ولأن المكان غير آدمي ولا يصلح لإقامة أي فعاليات أو أنشطة، يعزف الأدباء مضطرين عن المشاركة في الأنشطة، وإذا تم تنفيذ نشاط ثقافي فيكون للتصوير فقط.
وتعتبر مشكلة بيت ثقافة العسيرات من أكبر المشاكل التي تؤرق الأدباء والمسؤولين في قصر الثقافة بسوهاج، فهو من أقدم بيوت الثقافة، وخرج منه أدباء وشعراء كثيرون، وتألقت فرقة كورال العسيرات على شاشات التليفزيون في فترة الثمانينيات.
مركز العسيرات يستغيث
كل ما سبق وغيره يجعل مركز العسيرات بحاجة إلى سرعة تدخل وزارة الثقافة ومحافظة سوهاج بسرعة إنشاء قصر ثقافة العسيرات، ويعد مركز العسيرات أحد مراكز محافظة سوهاج ويقع بالقرب من مطار سوهاج الدولي وبالقرب من مدينة الكوامل جنوب مدينة سوهاج، ويضم ١١ قرية وأكثر من ٢٥٠ ألف نسمة.
ويرجع تاريخ الثقافة بالعسيرات إلى عام 1981 حيث تم تأسيس «بيت ثقافة العسيرات» علي يد السيد سعد الدين أبو رحاب في أحد قصور الخاصة التابعة للأهالي، وكان شعلة نشاط ثقافي وجاذبًا للأهالي، وتم تأسيس فرقة كورال العسيرات، التي كان لها تميزها ولها تاريخ كبير وكانت ترتيبها بالمراكز الأولى على مستوى الجمهورية في عام 1990.
إلا أنه في عام 2010 تم بحكم قضاء تسليم قصر ثقافة العسيرات إلى الورثة الشرعيين ونقل قصر الثقافة إلى معلف مواشي العسيرات، وهو مذكور في قرار تخصيص المجلس الشعبي المحلى عام 2011، وما زلت مزاود مخول المواشي موجودة، والمكان مرتع للثعابين والعقارب ومقلب للقمامة ومرتع للحيوانات الضارة والقطط، كما يسيطر على جزء منه بعض الأهالي الذين أقاموا «قهوة شعبية» يجلس الأهالي والشباب لشرب الشيشة.
كما أنه في 2016 صدر قرار إزالة للموقع، وتم في 2015 إرسال مبلغ قدره 450 ألف جنيه لإنشاء غرف، لكن تم إيقاف التنفيذ، وفي 2019 تم إرسال مبلغ 250 ألفا لإنشاء 3 غرف وصالة للعمل كمقر ثقافي، وتم إيقاف تنفيذ المشروع.
وعلمنا بأنه في بداية شهر فبراير 2023 أرسلت مذكرة من رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة إلى التخطيط الهندسي للوقوف على وضع المكان وتم حفظها، ولا أحد يعرف الأسباب حتى الآن.
وفي شهر يناير 2023 زار رئيس إقليم وسط الصعيد الثقافي، وقتها، موقع بيت ثقافة العسيرات، وحسب كلام العاملين بالموقع أشاروا إلى أن رئيس الإقليم أول مسؤول يزور هذا البيت، وكان برفقته مدير عام سوهاج، ومديرة المكتب الفني ومدير الشؤون الهندسية بالإقليم، ومدير مكتب رئيس الإقليم، ورصد أن الوضع كان سيئًا جدًا.
وبعد عودته للإقليم في اليوم الثاني أرسل مذكرة إلى رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، وقتها، شارحًا خطورة الوضع الذي ينبئ عن كارثة كبري، مقدما اقتراحات وحلولًا في المذكرة؛ للعمل على حلها، ووضح ذلك أكثر خلال عقد أول اجتماع للقيادات بالهيئة، وشرح الوضع الذي شاهده على أرض الواقع، ولكن لم يتم اتخاذ أي قرار من الهيئة.
ورغم كل ما سبق ما زالت الأنشطة تقام في بيت الثقافة بالعسيرات، ويطالب الأهالي بنقل قصر الثقافة لأي موقع تابع للمجلس المحلي للعسيرات بشكل مؤقت، وسرعة إنشاء القصر عن طريق وضعه في الموازنة أو ضمن خطة المبادرة الرئاسية «حياة كريمة»، وسرعة التنفيذ وعدم غلق المكان أو تسريح العاملين.
وكل هذا وغيره يطرح العديد من التساؤلات نضعها أمام وزيرة الثقافة ومحافظ سوهاج: ماذا تنتظر وزارة الثقافة؟ هل تنتظر موت أحد رواد بيت ثقافة العسيرات لدغًا؟ أم تنتظر موت أحد العاملين بسقوط الأسقف الخشبية المؤقتة فوق رأسه؟ أم تنتظر الموت بالمرض البطيء للمتعاملين مع الموقع من التعامل المباشر مع الأتربة واستنشاق الهواء الملوث بروائح القمامة؟
كما تعدد طرح المشكلة عبر العديد من الصحف والأقلام الشريفة والناتج صفر.
فعذر أقبح من ذنب، اعتماد مالي وميزانية.. كلمات محفوظة تتردد على السنة قيادات الهيئة العامة لقصور الثقافة.. ولماذا لم نصرف الـ106 ملايين التي تم تخصيصها لرفع كفاءة وتطوير جميع مواقع فرع ثقافة سوهاج؟ هل هو مبلغ زهيد؟ هل أعمال اللاندسكيب التي ستزين مدخل مبنى قصر ثقافة سوهاج اهم من حياة إنسان معرضة للخطر بأحد المواقع النائية؟