د. عادل القليعي
وعلمه محيط بكل شيء.. سبحانه
إنما هي أسئلة تطرح نفسها كل حين وحين وما أن يجد المرء ضالته المنشودة في الإجابات الشافية، إلا ويأبى الشيطان الماكر القابع بداخلنا، إلا أن يجدد التساؤلات مرة أخرى، لم لا وتلك طبيعة الجبلة والفطرة الإنسية البحث الدؤوب عن اللا إجابات حتى يظل دائما وأبدا في حيرة وقلق وجودي وفي بحث سيال متدفق عبر الآنية الفكرية لمحاولة الوصول إلى اللاوصول.
نعم علم الله، أو بلغة أهل الفكر الفلسفي العلم الإلهي، فهل الله الضامن لكل حقيقة، عالم ومحيط بكل شيء، أم أن علمه مقصور على العلم بكليات المسائل، علمه مقصور على العلم بالمجردات أو ما أطلق عليه الفلاسفة العلم بالكليات، أما العلم بالجزئيات فلا يعلمها وإنما يجعل مدبرا لها بمثابة الوسطاء بينه وبينها. وهذه الحجة سنبطلها عما قليل، لأنهم يقولون إن الله مطلق وكامل وما دونه جزئي ناقص، فلو علمه أو أحاط به علما سيشوبه النقصان وتلك سفسطة يعوزها الحجة والدليل.
أما بطلان هذه الحجة الواهية فهو كالتالي، أليس من الحجج المنطقية أن من يعلم الكليات بالضرورة والحمية المنطقة سيعلم الجزئيات، لماذا، لأن الكليات ما هي إلا مجموع الجزئيات وموجدهما واحد، الله تعالى، فالذي يعلم الكل علمه محيط بالجزء.
وثم سؤال آخر قد يثار أيضا ما قول الفرق الكلامية في هذا الأمر، وهل من الممكن أن نعقد مقارنة بين علمنا وعلمه تعالى، وما موقف القرآن والسنة.
أما الفرق الكلامية سواء الخوارج أو المعتزلة أو الأشاعرة أو الماتريدية فلم الخلاف بينهم حول الأصل بمعني حول هل الله يعلم أو لا يعلم وإنما جميعهم أقروا حقيقة العلم الإلهي، إنما كان الخلاف بينهم حول طبيعة وصفة هذا العلم، هل علمه صفة لذاته أم زائد على الذات، فالخوارج والمعتزلة أقرا أن العلم الإلهي صفة من صفات الذات الإلهية ليست زائدة على ذاته، أما الأشاعرة والماتريدية فقالوا بزيادة زائدة على ذاته.
أما أهل السنة والجماعة فأقروا ما أثبته الله تعالى لنفسه من صفات كما وردت في القرآن الكريم.
ثم كان لفلاسفة الإسلام ولا سيما الفارابي وابن سينا اللذين قالا إن الله عالم بالكليات ولا يعلم الجزئيات وتصدى لهم الغزالي وكفرهما في كتابه تهافت الفلاسفة. ورد عليه ابن رشد في تهافت التهافت، أما إذا أردنا أن نتحدث عن علم الله فيمكننا أن نقسمه ثلاثة أقسام بعيدا عن تقسيمات علماء الكلام والفلاسفة وإنما مما جاد به علي الإله جل وعلا.
أما القسم الأول فهو العلم المسموح به وهو ما يعلمه الله تعالى علما أزليا وسمح بمعرفته من وهبهم ملكة التعلم من عبادة المخلصين، كمن علمهم العلوم الشرعية ومن علمهم العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وهؤلاء علومهم منقوصة بمعنى أن الله تعالى يعطيهم فهم هذه العلوم على قدر استيعابهم وعلى قدر عقولهم التي تتسم بالمحدودية ليعطي فرصة لمن يأتي بعدهم للتعلم والتحصيل فيدخر في علمه الغيبي مكنونات هذه العلوم ليظل علم الله الأزلي محيط بكل شيء، ويظل موصوفا باللامحدودية، متمثلا في قوله تعالى (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، فكل هذه العلوم مخلوقة لعلة هي الله تعالى، أما علمه تعالى فهو قديم منذ الأزل لماذا لأنه ليس ثم واهب له هذا العلم وإنما علمه من ذاته وبذاته ولذاته فهو عالم بعلم، وقادر بقدرة ومريد بإرادة وسميع بسمع وبصير ببصر وحي بحياة، وكل هذه الصفات محدثات مخلوقات بالنسبة لخلقة أما بالنسبة له تعالى فهي قديمة ومنها العلم الإلهي.
أما القسم الثاني فهو الممنوع وهو العلم الذي لا يعطيه لأحد من خلقه سواء من اصطفاهم أو من عوام الناس ولا حتى يعطيه للملائكة المقربين ولا الأنبياء أولي العزم ولا حتى جبريل أو حملة العرش ليظل فعل الكينونة الإلهية هو المسيطر ولإقرار الوحدانية والفردانية والصمدية له، ولنعطي أمثلة على ذلك علم الغيب، هل يستطيع أحد أن يعلم الغيب، قل لا يعلم غيب السموات والأرض إلا الله، علم الساعة، ويسئلونك عن الساعة قل إنما علمها عند الله. العلم بانقضاء الأجل، لا أحد يستطيع أن يعلم متى موته، شقاء الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وغيرها من الأمور الميتافيزيقية.
أما القسم الثالث فهو الممنوح ، وهو الهبات الصفائية التي يمن بها الله تعالى كمنحة في الدنيا تمهيدا لمنازلهم في الآخرة ، قال عنهم الله تعالى وعلمناه من لدنا علما. نتيجة اجتهاداتهم في الطاعات وسلوكهم في مراق ودرجات ففاض الله عليهم بنفحاته وإشراقاته فصاروا ربانيين لا إلهيين، لا هم أهل حلول ولا فناء ولا اتحاد ولا وحدة وجود ولا شهود وإنما هم قوم أخلصوا دينهم لله تعالى ففتح الله لهم كنوز معارفه لكن على قدر طاقاتهم وقدراتهم العقلية ولطائف قلوبهم واستعداداتها للتلقي، لا هم أهل نبوة ولا نبوءة ولا هم أهل ولاية ولا أهل خزعبلات ولا دجل ولا شعوذة وإنما راحوا في سياحة ربانية ففارقوا الزمكانية لا تحدهم حدود وشواغل المادة ولا نزعات الحواس.
وإذا ما أردنا استقراء الآيات القرآنية التي تحدثت عن العلم الإلهي، فإننا سنجد العديد من الآيات القرآنية الجامعة المانعة التي تدل دلالة قطعية الثبوت على علمه تعالى وإحاطته بكل شيء ولم لا وهو الذي علمه محيط بكل شيء، فهو يعلم دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في ليلة ظلماء، وهو الذي يعلم السر وأخفى ويعلم الظاهر والباطن وما توسوس به النفوس، بل ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم الغيب وعنده مفاتحه وما تسقط من ورقة ولا رطب ولا يابس ولا حبة في ظلمات الأرض إلا يعلمها.
يقول تعالى في غير ذي موضع من كتابه الحكيم، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف) الخبير، ويقول أيضًا (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)، وقوله تعالى (وسع ربنا كل شيء علما)، وقوله تعالى (واسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور)، ويقول جل وعلا، (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده يمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال).. فالله تعالى علمه كلي وأزلى سرمدي.. وعلمه محيط بكل شيء.