د. حسام عطا
مقاتلون من أجل الحرية.. شهادة العدو للفلسطينيين!
تردد عن مصادر مسؤولة في الكيان الصهيوني وأبرزهم على المستوى الصحفي جريدة إسرائيل اليوم أن يحيى السنوار ورجاله بقوا ثلاثة أيام متصلة بلا طعام قبل استشهادهم.
وذلك بعد الفحص الطبي للأجساد الكريمة المقاتلة، وربما يأتي هذا الخبر من مصدره بصيغته المحايدة بلا تحليل منحاز، أو تعليق بعينه ليلقي بظلال من الدهشة أطلت من حيادية إطلاقه وطبيعة مصدره. وإذ لا يمكن وفقاً لتحليل الدلالات والقراءة المنحازة للخبر، أو تأويله الإيجابي، إلا أنه أمر بطولي حقاً. فهكذا يقاتل الرجال، وهكذا يستشهدون وهم على ثباتهم، فما كل هذه الإرادة الإنسانية؟ ربما مثل هذا الخبر يستهدف إشارة سلبية ما من مصدره، عن هؤلاء الذين يستبسلون عبر قوة إرادتهم ويزيدهم الجوع صلابة، ولكنه وإطلاقه بهذا الحياد حول العالم لا يمكن للقارئ أو المختص في علم الدلالة أن يغفل عن تضمين الإعجاب، وهو إعجاب يحمل احتراماً ممزوجاً بالدهشة، وهو احترام خفي جداً يأتي من فزع وعدم قدرة على تقبل إدراك معنى المقاومة ضد الاحتلال. وهو خبر محايد جداً، لكنه أعاد طرح اسم السنوار مجدداً في كل وسائل الإعلام حول العالم، وكأن قاتله حقاً يساهم في إعادة طرح بطولته مجدداً ويكمل نسج أسطورته البطولية. إنه في علم نفس الصراع يمكن اعتباره نوعاً من الإعجاب الخفي بالخصم. ولا شك أن الكيان الصهيوني هو أكثر من يعرف صلابة البطل يحيى السنوار ومدى إيمان المقاومة بالقضية الفلسطينية. وهو ذلك الإعجاب الذي تجلى واضحاً في اعتراف بالحق جاء على لسان عاموس شوكن صاحب جريدة هآرتس الإسرائيلية إذ قال في وصف واضح للفلسطينيين المقاومين قولاً واضحاً، فهم كما قال: "مقاتلون من أجل الحرية" وفي تقديري أن هذا الرأي الصحيح هو قمة الوعي السياسي الباحث عن حل لإيقاف الحرب، وهذا هو دور الكتاب عندما يتجردوا من الإنحياز لصالح مهنيتهم التي تفرض عليهم الإنحياز في عالم الكتابة للحق والحقائق. وهكذا أصبح عاموس وهو صاحب صحيفة تكاد تكون الأشهر في فلسطين المحتلة كاتباً مهنياً يقول الحقيقة وينحاز لإنسانيته، وهي أيضاً أحد أبرز قراءات علم نفس الصراع إذا ما طال، وأصبح بلا هدف واضح، ووصل حده الأقصى من اللاإنسانية والتوحش إلى تلك التحديثات الكريهة لجرائم الإبادة الجماعية. وبالتأكيد انقلبت على رأسه الدنيا، وأعلنت وزارتا الداخلية والثقافة للكيان المحتل مقاطعتها للجريدة، وتم تعقيباً على إقراره المهني والإنساني بالحقيقة صدمة وضغطاً كبيراً عليه، فقدم اعتذاره عما قال من العاصمة الإنجليزية لندن، وقد كان هناك في ذكرى وعد بلفور الذي وضع خارطة طريق المأساة الإنسانية في فلسطين الحبيبة. وتعد هذه التصريحات ضد المجازر في غزة وضد الحرب على لبنان بمثابة نوع من الأداء الإعلامي العميق بالغ المهنية، وهو يساهم في عملية غسل وجه النظام في الكيان الصهيوني.
هكذا علمنا درس الدراما، وقراءة الدراما عبر علم الدلالة هي قراءة يمكن عبرها سبر أغوار الواقع، فما الدراما ونقدها إلا إعادة تجميع ومحاكاة الواقع. ورؤية وتأمل ذلك الواقع عبر القراءة النقدية الثقافية ربما تكون دليلاً وشرحاً ومساهمة مختلفة في قراءة الواقع السياسي ومشاهده بالغة التعقيد والغرابة. ووفقاً للنقد الثقافي الأنثروبولوجي يمكن فهم تصريح عاموس شوكن، وما نشر في ذات السياق معبراً عن الإعجاب الخفي بالسنوار عبر نشر خبر عدم تناول الطعام لمدة ثلاثة أيام، على أنها نوع من استراتيجية شعورية بالغة الدهاء، أو لا شعورية إنسانية حقيقية، لكنها وحتى ولو كانت مزجاً بين الأمرين معا وهو ادعاء الإنسانية وقول الحقيقة عبر الدهاء لفتح مساحة من الحوار مجدداً، فهي عملية يسميها الأنثروبولوجي الثقافي استراتيجية تحديد الهوية، وهي طريقة يستخدمها طرف من أطراف النزاع لإعادة تعيين هويته مجدداً، يكسر حدة الاستقطاب ويخرج نفسه قليلاً من موقف العدو إلى موقف المتأمل المحايد الذي يتحدث في استراحة المحاربين ويفتح أفقاً للحوار مجدداً.
وهذه الطريقة في إعادة تعيين الهوية من عدو تجاوز كل القيم الإنسانية إلى عدو يحترم خصمه هي طريقة تستهدف الحوار، وهو العلاقة الطبيعية التي تجعلنا نكتب اسمه، فقد نجح السيد عاموس، لأنها استراتيجية لا يمكن وفقاً لتدريبات الدراما أن نرد عليها بالصمت أو التجاهل وصورتنا وفقاً لتفاعل الأخبار والأحداث سوف تكون بالضرورة؛ كي نبدو متحضرين هي التداخل الثقافي.
ولكننا في حقيقة الأمر نكرر له أن الصورة الصحيحة أنه يعيش مع من ينتسب إليهم في جزيرة منعزلة ثقافياً، ولن تخدعنا تلك الحيل بالغة الدهاء والاحترافية.
ذلك أن خلافنا الجذري التاريخي هو قمة المساواة والإنسانية وهو الحق المشروع لأهلنا في فلسطين، ولا أعرف حقاً هل هي صيغة تمهيدية تعرف بأن نتيجة الانتخابات الأمريكية ستحسم لصالح الرئيس ترامب، وهو صاحب الإنجاز على أرض الواقع في مسألة صفقة القرن، وصاحب القدرة العملية على فتح المسارات المغلقة وهو الذي صرح في خطابه الأخير خطاب ما قبل الفوز النهائي بأن أهدافه على أولوياتها التعليم والجيش القوي، وعدم الدخول في حرب؟
فهل هذه الإشارات الخافتة تعبير عن اتجاه لإنهاء الحرب وعودة مسار المفاوضات من أجل حل الدولتين؟ ربما وربما لا، وهي مجرد ألعاب أو استثناءات احترافية بالغة الدهاء لأشخاص مهنيين يعرفون ما يقولون، وها هو الأمر شئنا أم أبينا قد استحق التحليل بعد الرصد الذي لا يمكن تجاهله.
وسوف تكشف الأيام المقبلة عن حقيقة النوايا وعن قدرة العالم المعاصر حقاً على إيقاف الحرب والإبادة الجماعية.