![البنك الاهلي البنك الاهلي](/UserFiles/Ads/8372.jpg)
![أمين الخولى وتجديد الفكر الدينى (4)](/Userfiles/Writers/160.jpg)
د. عزة بدر
أمين الخولى وتجديد الفكر الدينى (4)
بقلم : د. عزة بدر
التسامح وحقوق القلوب وضريبة المعرفة
من أهم ما قدمه المجددون الأسلاف للحياة الدينية ظاهرة التسامح الدينى، الرحب الأفق، المسالم، المتواد، البار.
كما قدم المجددون للحياة الخلقية ذلك الشعور بالوحدة الاجتماعية التى تجعل من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.
• الشعور بالواجب والانفتاح على المذاهب الأخرى
وفى كتابه «المجددون فى الإسلام» يتناول أمين الخولى «1895- 1966» تلك الحياة الخلقية السمحة، وذلك الشعور بالواجب من خلال ما ترجمه من حياة المجددين الأوائل، ومنهم الإمام «ابن سريج»، وهو أبوالعباس أحمد بن عمر بن سريج القاضى البغدادى «ت: 306 هـ»، وهو فقيه شافعى عاش فى فارس وفى العراق، وقد تعرض «ابن سريج» لمحنة شديدة ثبت لها, فقد رشحه الوزير - فى عصره - لتولى مهمة القضاء فامتنع فخيَّره الوزير بين الامتثال لأمره أو أن يُسمِّر عليه بابه فيكون ذلك أكثر من سجن، لكن «ابن سريج» لم يل القضاء، ولم ترهبه العقوبة الغريبة القاسية!
وكان «ابن سريج» قد عمل قاضيا فى صدر شبابه، وامتناعه عن تولى القضاء بعد ذلك كان زهدا، وفى الوقت نفسه كان نوعا من التمرد على هذا النوع من التحكم من قبل السلطة، ووجوب أن يكون العلماء هم القوة المقاومة للاستبداد.
ومن المهم أن نذكر أيضا من حياة «ابن سريج» وتصرفه مع الوزير ما كان بعد ذلك من التزام «ابن سريج» بتقديم صحيح الدين، والفتوى للحاكم مهما حدث من شدة الاختلاف.
فقد منح الوزير رضاه لفقيه آخر مالكى يتردد عليه فولاه القضاء، وتلطف له بأسباب النعمة، لكن الفقيه المالكى تورط فى فتوى خالف فيها الجماعة، وما قطع فيه الفقهاء بالإجماع ذلك فيما تتبع زملاؤه الفقهاء من أعماله ضجرا بكبريائه واعتزازه بصداقة الوزير، وتمت دعوة الجميع إلى مجلس عام للفتوى، وحضره «ابن سريج» فيطلب إليه الوزير الفتوى فى الأمر، وهنا تتجلى سماحة الفقيه، ويقوم بواجب الفتوى بما يحسم النزاع فى مسألة فقهية، وأخبر بأن ما أفتى به الفقيه الآخر ورد فى كتاب مالكى، وبدا «ابن سريج» سمحا ومنفتحا على مذهب آخر، حفظ منه ما لم يحفظ صاحبه.
• احترام الاختلاف وأهمية الحوار
ومن الصور الخلقية التى أشار إليها أمين الخولى فى كتابه قيم احترام الاختلاف وضرورة الحوار بين العلماء والفقهاء، وأهمية هذه القيم الخلقية فى عطاء المجدد الفكرى بصفة عامة، ومجدد الفكر الدينى بصفة خاصة، لقد كان أبوسليمان داوود بن على الأصفهانى «ت 270 هـ» معاصرا لابن سريج المجدد فكانت له معه مناظرات، كما ألف ابن سريج أكثر من كتاب فى الرد على محمد بن داوود الظاهرى فى القياس الذى ينكره الظاهرية، ومع مثل هذا الاختلاف، وهذه المناظرات يكون بين البشر ما يكون من تنافس وتغاير، لكن تترفع النفوس الكريمة للعلماء فتقدر مخالفيها، وتعرف فضلهم، وهكذا كان «ابن سريج»، الذى جلس لتقبل العزاء فى معاصره ومنافسه ابن داوود الظاهرى، وذكر فضائله ومناقبه.
وقد أبرز أمين الخولى فى كتابه «المجددون فى الإسلام» أهمية هذا التسامح الدينى فى خُلق المجددين الأوائل وأثره على الحياة الدينية فيقول وهو يترجم عن حياة أبى الحسن الأشعرى المجدد «ت 320 أو 330هـ»، «كان الأشعرى ينظر فى فقه المذاهب، ولا يتحزب لبعضها على بعض، بل يُنسب إليه القول بتصويب المجتهدين فى الفروع، وهذا مما سهل له جمع كلمة أهل السنة، بل كان يقول للحنابلة: «أنا على مذهب أحمد بن حنبل»، ويريد بذلك أنه ليس لأحمد مذهب خاص فى المعتقد سوى ما عليه جمهور أهل السنة، وكان تصويبه المجتهدين فى الفروع يشفعه بقوله إنه لا يُكفَّر أحدا من أهل القبلة، وتفسيره اختلافهم بأنه كله اختلاف العبارات، ويرجع ذلك إلى تسامحه الدينى، وأفق تفكيره التوسطى الانتخابى بين المذاهب الذى هو اعتراف بقدر من الصواب فى كل طرف من الطرفين المتقابلين يصححه هذا التوسط.
ويعلق أمين الخولى وهو يعرض لفكرة الوسطية عند الأشعرى فيقول: «أنه لو قلت عن توسط الأشعرى بين الآراء المختلفة صدى لفكرة أرسطو عن الفضيلة وأنها وسط لم يكن فى ذلك بأس».
فهذه الوسطية فى علم أصول الفقه تستمد أساسها من الآية الكريمة: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» سورة البقرة آية 143.
أما عما سلكه الأشعرى فى تفكيره من أسلوب انتخابى وفيه يأخذ الآخذ من كل مذهب بطرف يختاره وينتخبه، ويكون ذلك أمارة على عدم قدرة الفكر على الإدلاء بجديد أو أنه يمر بفترة من عدم الخصوبة، لكنه يعد خطوة على طريق التطور الاعتقادى، ولو لم يكن فيها إلا تخفيف حدة التوتر المذهبى، وهى كما يرى الخولى تعد تطورا اعتقاديا فى الحياة العقلية والاجتماعية.
• نقد الذات
ومن الملامح المهمة التى حرص عليها المجددون الأوائل من تجديد الفكر الدينى هو الحرص على نقد الذات وتطورها، ومن ذلك أن أبا الحسن الأشعرى كان قد وضع كتابا بعنوان «فى باب شىء» ثم رجع عنه ونقضه وقال: «من وقع إليه فلا يعولن عليه»، فكان الأشعرى دائم التفكير، متطلبا للحقيقة، باذلا فى ذلك جهده الإنسانى بصدق.
وهذه الجوانب من الصورة العقلية والاعتقادية للأشعرى الذى شغل فى الميدان الاعتقادى الإسلامى مكانة مهمة جعلته شيخ طريقة أهل السنة، وإمام المتكلمين.
• ضريبة المعرفة
ومن المعالم الحيوية المجدية على الحياة الدينية والاجتماعية بصفة عامة ما أطلق عليه أمين الخولى: ضريبة المعرفة أو ضريبة العقل على العلماء العارفين بمعنى أن العالم أو المفكر لابد أن تكون معرفته ملكا لمجتمعه يثريه بعلمه وتجربته فيؤدى عن تلك المعرفة ضريبة لمجتمعه.
والباقلانى المجدد «ت 403 هـ» وهو من أهل البصرة، تثقف ببغداد حتى صار الإمام، فكان حسن الفقه، وأعرف الناس بعلم الكلام حتى سمى «شيخ السنة»، ولسان الأمة، وكان على طريقة أبى الحسن الأشعرى، وقد أعلى الباقلانى القاضى من أهمية دور العالم أو الفقيه تجاه مجتمعه، فكان يقول عن تدريسه العلم: «إن تعليمى هذا العلم هو أوثق أعمالى عندى فأخاف أن تداخله داخلة إذا أخذت عليه أجرا، ولا أحتسب أجرى فيه إلا على الله».
• المجددون والحياة العاطفية والفنية
ويرى أمين الخولى فى كتابه «المجددون فى الإسلام» أن المجدد الدينى لابد أن يتمتع بتقدير الفن، والعاطفة الإنسانية ذلك التقدير الحيوى الذى يُنزل الفن والعاطفة منزلتهما عند الأمم المشاركة فى الحياة، وتلك معان مهمة من تجديده يجب لفت أصحاب الدين والدنيا جميعا إليها.
فقد كان الإمام الشافعى حسن الصوت «كما ورد فى تاريخ بغداد جـ 1، ص 64»، فقد أقام بالمدينة مدة، وهى بيئة الغناء.
وأحب الشعر وكتبه وله ديوان شعرى، وفى كتابه «الأم» قال: «الشعر كلام حُسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، غير أنه كلام باق سائر فذلك فضله على الكلام».
ويدل موقفه من الشعر على تفتحه الفنى، بل إن للشافعى شعرا فى العاطفة الإنسانية فقال يتغزل:
«لو أن عينى إليك الدهر ناظرة/ حانت وفاتى ولم أشبع من النظر/ سُقيا لدهر مضى، ما كان أطيبه، لولا التفرق بالتنغيص والسفر».
• حقوق القلوب
بل إن ابن سريج المجدد رغم جده العلمى، وطابعه الدينى لم يكن يبخل على الحياة بنصيبها العاطفى، ويروون أن ابن سريج ناظر يوما صاحب كتاب «الزهرة» وهو محمد بن سليمان بن داوود بن على الظاهرى الذى ضم فى كتابه مائة باب، وتضمن كل باب مائة بيت شعرى فيها خمسون بابا للهوى وأحكامه، وتصاريفه وأحواله، وعندما تناظرا فى مسألة ما رد ابن داوود على ابن سريج ردا أغضبه فقال له ابن سريج: «أنت يا أبا بكر بكتاب «الزهرة» أمهر منك فى هذه الطريقة».
فرد عليه ابن داوود بأن كتاب «الزهرة» أحد مناقبه، وردد شعرا:
«أكرر فى روض المحاسن مقلتي/ وأمنع نفسى أن تنال مُحَرَّمَا»، فيرد عليه ابن سريج قائلا:
«أَوَ عليّ تفخر بهذا القول؟ وأنا الذى أقول»:
ومساهر بالغنج من لحظاته/ قد بت أمنعه لذيذ سناته/ ضنا بحُسْن حديثه وعتابه/ وأكرر اللحظات فى وجناته/ حتى إذا ما الصبح لاح عموده/ ولى بخاتم ربه وبراته».
كما أن لأبى سهل الصعلوكى المجدد «ت 369هـ» رغم نزوعه الصوفى الذى يمثله قوله: «ما عقدت على شىء قط، وما كان لى قفل مفتاح، ولا صررت على فضة ولا ذهب».
هذا الفقيه المجدد له أيضا شعر غزلى رقيق يقول فيه:
«لقد هتفت فى جنح ليل حمامة/ إلى إلفها شوقا، وإنى لنائم/ كذبتُ وبيت الله لو كنت عاشقا/ لما سبقتنى بالبكاء الحمائم».
.. لقد كان لهؤلاء الفقهاء المجددين هذا الشعور الإنسانى بحقائق الحياة، وهو ما يرجى به تجديد التدين تجددا حيويا، يهز بشعوره الإنسانى ما فسد من فهم هذه العواطف التى هى حقيقة فطرية، ويؤكد الخولى أن الحياة تعانى ببعد أهل الدين عن مجال العواطف أزمات صعبة من علاقة الدين بالفن، وشيوع هذا الانفصام الصارخ بينهما، ويتساءل: «هل يكون فى المتحدثين عن الدين من يعنى بهذه النواحى النفسية للعاطفة، ويدبر تدبيرا عالما، مجربا لرعايتها وتوجيهها بدلا من هذه العزلة العاجزة؟».
لقد قدم المجددون الأوائل للحياة الفكرية والدينية والاجتماعية فى زمانهم قيم التسامح، ونقد الذات، وضريبة المعرفة، ونظروا بعناية إلى حقوق القلوب وحقائق النفس الإنسانية فوضعوا معالم وملامح مهمة لقضية تجديد الفكر الدينى.