عاطف حلمي
الفتنة ومأزق الحلول الأمنية
بقلم : عاطف حلمي
واقعة تعرية سيدة مصرية في المنيا تجعلنا نعود مرة أخرى لنحذر من سوء إدارة الملفات السياسية والاجتماعية بالطريقة الأمنية وجلسات الصلح العرفية، فلا نزال غارقين في صندوق مبارك ونظامه ولم نخرج منه حتى أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من الموت داخله.
الطائفية
وواقعة هتك عرض تلك السيدة المسنة ليست سوى عرض لمرض مزمن يعاني منه المجتمع المصري اسمه الطائفية، وهي قضية سياسية ومجتمعية في المقام الأول والأخير، تحتاج لعلاج سياسي ومجتمعي وتنويري وتخلص من مناهج تكفيرية تبث سمومها في عقول الأطفال والشباب، وليس لحلول أمنية لاتسمن ولاتغني من جوع، وأقصى ما تقدمه تلك الحلول الأمنية مجرد مسكنات وقتية، تخلف وراءها احتقاناً وتوسع من هوة الطائفية وتعمق من مستنقعها وساعتها لن نفيق إلا على كارثة أكبر.
العدل
وما لم نعترف بخطأ التعامل مع هذا الملف على مدار العقود الماضية، لن نستطيع الخروج بحلول جذرية له، فهل يعقل مثلاً أنه عندما يقتل مواطن مصري مسلم مواطناً مسلماً آخر، أو مواطن مسيحي مواطناً مسيحياً آخر تكون جناية عادية، في حين أنه عندما يتشاجر أو يحتك مواطن مسلم مع آخر مسيحي تصبح قضية أمن دولة؟، هنا تكمن أزمة إدارة هذا الملف ومن هنا تبدأ هوة الطائفية في الاتساع ولنا في ذلك تجارب وتاريخ سيء في عهد مبارك لاتزال تلقي بظلالها حتى الآن، ضاع فيها العدل وانقلبت الموازيين، في حين أن الحل سهل وبسيط جداً من خلال تطبيق القانون على الجميع بمسطرة واحدة دون محاباة أو دفن للرؤس في الرمال بجلسات عرفية وعناق زائف بين شيخ وقسيسس.
تاريخ أسود
وحتى تتضح الصورة أكثر أعود بالذاكرة للوراء إلى حدثين وقعا منذ سنوات أحدهما تضخم ولايزال بقعة سوداء في تاريخ مصر، والآخر انتهى ولم يعد يتذكره أحد، رغم أنهما وقعا في نفس التوقيت، ولكن اسلوب التعامل معهما صنع هذا الفارق.
الفتنة
الحدث الأول المعروف بفتنة "الكشح" في سوهاج، مواطنان أحدهما مسيحي والآخر مسلم في جلسة سكر أو ربما لعب قمار اختلفا فقتل المسلم المسيحي، فتعامل الأمن مع القضية بمنظوره الضيق، ولم يرد أن يجعلها جناية عادية وتسلم الملف جهاز أمن الدولة الذي حاول أن يثبت أن القاتل مسيحي بزعم عدم خلق الفتنة، فدخلت علينا الفتنة من أقذر أبوابها، فهم لايريدون الإعتراف بأن الجريمة بين أثنين من المواطنين، فإذا قُتل مسيحي لابد أن يكون القاتل مسيحياً أيضاً وإذا قُتل مسلم فلابد أن يكون القاتل مسلماً، ومن هنا تعقدت الأمور وتم إلقاء القبض على أكثر من 100 مسيحي في محاولة للعثور بينهم على من تلصق به تهمة القتل، فحدث ما حدث وتحولت جريمة قتل في "جلسة انس" إلى فتنة طائفية وحرق لبيوت مسيحيين، وفاقم منها تدخل أحد الأساقفة بشكل سلبي.
جناية
في المقابل وقعت جريمة قتل لراهب في دير المحرق بأسيوط، كان هذا الراهب قد تولى الإشراف على حدائق الدير خلفاً لراهب آخر وأراد ضبط العمل في الحدائق والحد من السرقات وهو الأمر الذي اعتبره بعض البدو المجاورين لتلك الحدائق ويعملون فيها أنه تضييق عليهم، فتربصوا به وقتلوه، هنا تعاملت الأجهزة الأمنية مع الحادث بصفته جريمة جنائية، وتم الاشتباه في نحو خمسة أفراد فقط وليس كما حدث في "الكشح" ومن ثم تم ضبط الجناة ومحاكمتهم، ولم تحدث فتنة ولم يعد أحد يتذكر الواقعة رغم أن الضحية كان راهباً وليس شخصاً عادياً.
المواطنة
ومن تجارب الماضي القريب ندرك أنه لافائدة من جلسات الصلح العرفية، ولا طائل من وراء دفن الرؤس في الرمال وغض البصر عن أصل الداء، فلا حل أفضل وانجع من تطبيق القانون على أساس المواطنة وليس على أساس الدين، فالقضية سياسية مجتمعية يغذيها الجهل ودغدغة المشاعر ولاتزال جرحاً غائراً قد تطفوا على السطح تارة وتختفي تحت الرماد تارة أخرى لكن نيرانها لاتزال مشتعلة، ومثل السوس تنخر في النسيج الوطني ونحن نرفض مواجهتها.
اللعب بالنار
وعلى المستوى السياسي، لانزال نلعب بالنار ونزيد من الأمور تعقيداً، فهل يعقل أن نظاماً قائماً على أسس دستور مدني لايزال يحتضن أحزاباً دينية تكفيرية مثل حزب "الضلمة" ومن على شاكلته من احزاب أخرى، رموزهم يكفرون الآخر ويكفرون من يهنئه بعيده، بل ويرفضون الوقوف لتحية العلم ـ رمز الدولة ـ ولايعترفون بالسلام الوطني؟، فأي ازدواجية تلك التي يعيشها نظامنا السياسي؟.
مصطلحات عنصرية
وأخيراً، علينا أن نتوقف عن ترديد مقولات من شاكلة "الوحدة الوطنية" و"عنصري الأمة"، و"الأخوة المسيحيين"، فهذه مقولات عنصرية، فالوحدة تكون بين عنصرين مختلفين وجنسيات واثنييات مختلفة أو مناطق جغرافية متباينة، ومصطلح الأخوة المسيحيين يصورهم كما لو كانوا الأخوة في "تنجانيقا" أو جالية غريبة طارئة على المجتمع في حين إنهم جزء أصيل في النسيج الوطني ... اخرجوا من صندوق مبارك المظلم لتروا نور إعلاء قيم المواطنة ودولة المؤسسات والدستور والقانون.