
الأمرا
بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني
فاجأه أن سيدة أنيقة مثلها تنام على الرصيف وقد كورت جسدها حول حقيبتها في استغراق شديد.. تقدم منها.. كانت بدلتها السوداء ذات النسيج الحريري الفاخر تشي بأنها من طبقة راقية.. أقبل عليها.. بدا وجهها شاحبًا جدًّا.. حاول إيقاظها بكلمات هادئة : (سيدتي.. لو سمحتي.. سيدتي.. من فضلك) لكنها لم تحرك ساكنًا.. بدأ الأمر يصبح أكثر درامية.. حاول أن يلمس كتفها محاولًا التأكد من أنها على ما يرام.. لكنها أيضًا لم تظهر أي رد فعل.. ولم تجد كذلك كل محاولاته لإفاقتها.. لذا اتصل بالإسعاف..
أخبروه في المستشفى أنها مصابة بحالة هبوط حادة.. لم تأكل ولم تنل أي قسط من الراحة منذ أيام.. وفي اليوم التالي عاد لها قبل أن يذهب لقسم الشرطة حيث يعمل.. دخل عليها بملابسه الرسمية وهو ذلك الرجل الطويل الأربعيني.. فتهيبته.. يعرف هذه النظرة في وجوههم قبل أن يبدأ في استجوابهم جميعًا.. طمأنها :
- كيف أنت اليوم ؟ أنا من حملك إلى هنا بالأمس..
- الحمد لله أنا بخير.. ذلك الخير الذي تعرفونه..
- ولماذا لا تعرفينه أنتِ؟
صمتت وتنهدت بعمق.. اقترب منها قليلًا.. قال :
- لا أعلم ما قصتك.. لكنك لست من النوع الذي ينام على الرصيف.. وسامحيني المبلغ الذي وجدوه في حقيبتك وكارت الفيزا والماستر تجعل مما رأيتك عليه أمرًا لا منطقي.. سأبسط الأمر أكثر.. يمكنك الاعتماد علي.. أنا ضابط شرطة قديم ويمكنني أن أساعدك فعلًا..
صمتت ثم بدأت في الكلام رويدًا ريدًا.. فقدت ابنها منذ ست سنوات وكان عمره تسع سنوات.. رأته منذ ثلاثة أيام في الشارع الذي افترشت رصيفه.. لم تعد لمنزلها منذ رأته ولم تفارق هذا الرصيف منذ رأته.. سألها :
- ربما لم يكن هو.. ست سنوات كفيلة بتغيير ملامحه كليًا.. كيف عرفتي أنه هو؟
- بعضنا لا تتغير ملامحه منذ الطفولة المبكرة كثيرًا..
ثم دفعت إليه بصورة ابنها.. رجع بظهره للوراء.. بدت على وجهه أمارات الدهشة ثم قال بهدوء :
- إنه أمير..
- لكن اسمه ليس أمير..
- أصبح اسمه أمير.. هو أحد "الأمرا" الآن..
- "أمرا"؟!!!
- ابنك اختار حياة غريبة بالنسبة لنا يا سيدتي.. لكنها ترضيه..
- اختار ؟ وهل يختار ابن 14 سنة لون ملابسه بكفاءة حتى؟
- أنا أعمل في قسم الشرطة الذي يتبع له هذا الشارع.. أعرف "الأمرا" جيدًّا.. ولا أعرف ماذا يجب أن أفعل لهم في الحقيقة.. أمرهم يحيرني..
- أنا لا تهمني حيرتك بقدر ما يهمني أن أعرف ما حدث لابني.. أريده جدًّا..
صمت قليلًا.. كان يحتاج لسحب نفس من سيجارة لكنه فوجيء بأنه في مستشفى.. فزفر زفرة طويلة وشرع يخبرها عن الأمرا.. ثم شرع يقص القصة :
- منذ حوالي ست سنوات قام أحد زعماء عصابات تشغيل الأطفال في التسول بضرب فتى من فتيانه يُسمى "أمير" –عمره 12 عامًا- ولكن الفتى تمكن من ضربه بمطرقة حديدية وهرب.. حاول رجال العصابة العثور عليه عبثًا لفترة طويلة.. ثم ظهر أمير مرة أخرى بعد القبض على العصابة ومعه مجموعة من الأطفال أصغر منه كل منهم يدعى "أمير" أو هكذا يخبرون العالم لذا فهم "الأمرا".. هم لا يؤذون أحدًا.. فقط يأكلون من مطاعم المنطقة مجانًا ويحمون بعضهم بالقوة التي يستطيع كل منهم تقديمها.. بعد فترة طويلة من الضياع شعر هؤلاء الأطفال بأنهم أقوياء وأنهم "الأمرا".. فكرت كثيرًا في القبض على أميرهم لكن حظهم الغريب أو ربما الخوف منهم.. يجعل كل أهل الشارع يرفضون الاعتراف عليهم..
- هل يمكنني أن أرى ابني؟
- سأفعل ما بوسعي.. لكن عليك أن تكوني جاهزة لكل ردود الأفعال.. قد لا يرغب في العودة إليك.. عندها سأكون رهن أمرك فيما تريدين..
بالفعل استطاع الضابط أن يصل لابنها.. وأوصل إليه عن طريق طفل متسول بالمنطقة أن والدته عرفته وأنها تنتظره في المستشفى لأنها مريضة جدًّا وتتوق للقائه.. استيقظت صباح اليوم التالي لتجده فجأة أمامها.. يقف إلى جوار سريرها.. يحدق في ملامحها.. هي أيضًا لم تفعل سوى التحديق به لفترة ثم جذبته إليها في قوة وعانقته باكية.. أما هو فكان صامتًا لكنه لم يرفض عناقها..
تحدثت معه طويلًا.. أخبرته عن سعادتها وخططها لحياتها معه.. هي لم تعد وحيدة لاسيما أنه يذكرها ويحبها.. كان صامتًا معظم الوقت.. تناولا الغداء معًا.. وفي المساء وهي تنام على كتفه سألته :
- أنا سعيدة أنك عدت لي..
- سأزورك غدًّا..
- ولماذا سترحل؟
- لا يمكنني أن لا أكون "أميرًا".. أنا صاحب كلمة.. من يحمينا لو رحلنا؟
- يمكنني إبقاؤك بالقوة..
- ويمكنني الهروب بلا عودة..
- ستعود؟
- سأعود.. كل يوم..
- وهل ستبقى ذات يوم؟