عاجل
الأحد 9 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
البنك الاهلي
تغيير إيقاع

تغيير إيقاع

بقلم : د. نهلة زيدان الحوراني

    كأنت امرأة تتذكر المستقبل.. تمر بها اللحظات بلا جديد.. تشعر كثيرًا أنها جدتها.. وأنها لا تفعل أى شئ سوى انتظار تلك الحياة التى عاشتها الجدة على جرعات مكثفة أو عينات صغيرة من الألم والنعيم.. وفى معظم الوقت تتأقلم مع الشعور الحيادى الذى تحول لرائحة تستوطن كل أركان حياتها يوميًا.. واليوم وهى تحضر حفل تخرج ابنتها من المدرسة الثانوية تغير إيقاع المستقبل للمرة الأولى.. حدث ما لم تستطع تذكره..



   عيناه الحادتان صارتا أكثر جمالًا خلف زجاج نظارة طبية.. نظر لها بطيبة وفرح معًا.. اكتشتفت للمرة الأولى أنها أقصر منه كثيرًا لأنها تخلت عن صديق وفى (الكعب العالى).. اقترب منها وأضواء كرة الألوان الكريستالية تنعكس فى بهجة على خصلات شعره البلاتنية.. صافحها بحرارة.. كانت وحيدة فى الحفل وهو كذلك..

-      كم سنة مرت؟.. يااه.. تغيرتِ كثيرًا إلا عيناكِ..

-      ثلاثون سنة.. تركنا المنصورة من ثلاثين سنة.. وأنت تغيرت عيناك لكننى أراك كما أنت.. وهذا يضحكنى.. ابنتك أيضًا تتخرج؟

-   نعم.. هى الشقراء الجميلة هناك.. لو لم تمانعى.. هل يمكننا الخروج فى استراحة المعلمين.. لم أعد أحتمل ضوضاء الموسيقى كالسابق.. أنا كبرت جدًا..

   كان يتبع حركة قدميها.. ومع كل خطوة يصغر عامًا.. فى استراحة المعلمين كان قد عاد مراهقًا فى الخامسة عشرة من عمره.. كما تركته وكما تركها.. قال:

-   أنا مدرس الرياضيات على فكرة.. كيف لم أرك قبل ذلك؟

-  آه عرفتك.. ابنتى تعشق حصصك.. والدها كان يحضر مجالس أولياء الأمور.. هى المرة الأولى التى أحضر فيها.. سافر لندن فجأة فى رحلة عمل..

-   خسارة.. ثلاث سنوات مرت ولم أعرف ابنتك..

-   (منال كامل).. حصلت على الترتيب الثالث على المدرسة العام الماضى..

-   طبعًا أعرفها.. ونعم الفتيات.. فتاتى صديقتها (علا)..

   صمتا قليلًا ثم ضحك هو فجأة:

-   أما زالت طائرتنا عند القمر؟!..

-   ربما.. عندما خطفها الهواء ولم تعد تأكدنا لفترة طويلة أنها وصلت للقمر..

-    كنا نظن أن كل شئ يرتفع للأعلى يصل للقمر لأنه طيب..

-   من يستطيع أن يجزم أنها لم تصل للقمر؟!.. بحسابات بسيطة يمكن تحويل جسدها لجزيئات ثم ذرات ربما تسربت من ثقب الأوزون..

-   أنت دائما تكون على حق حتى لو قلبت الحقائق..

-   أتذكرين أول قطة ربيناها معًا؟.. كانت تحب الخيار حتى أننى ظننتها ابتلعت فأرًا مازال حيًا فى بطنها.. القطة النباتية الوحيدة التى صادفتها..

-   أتذكر يوم ماتت؟.. كنا حزينين لدرجة أننا نمنا إلى جوار قبرها تحت شجرة الليمون ليلتين.. تعلمت الصلاة حتى أصلى لها..

-   لكن مراقبتها علمتنى كيف أتسلق سور الحضانة..

-   وعلمتنى كيف أرسمها.. أنا مصممة جرافيك حاليًا على فكرة..

-    لطالما كنت رسامة موهوبة..

-   لم أعلم ذلك حتى الصف الأول الثانوى حين رسمتك..

-   كنت أنا الموديل الأول.. لي الشرف..

ضحكا.. جلب كوبين من عصير البرتقال.. اعتذر لانشغال كل العمال مع الطالبات فى قاعة الاحتفال.. كان صوت الموسيقى عاليًا لكنه لم يعلُ على صوتهن.. قالت:

-    رائع أن يعشن هذا الوقت السعيد..

-    من يدرى؟.. ربما لو بقيتِ أربعة أعوام أخرى لكانت منال ابنتى..

-    رائع أننى لم أبق.. أذكرك دائما هذا الفتى الذى جلب لى أول وردة وأول قطعة شكولاتة.. ولم أذق مثلها حتى الآن..

-    أذكرك كلما رأيت قطعة شكولاتة.. يومها تركت الهدايا على باب شقتك فى طريق نزولى من بيتنا..

-    وفتح أبى الباب وظل يحقق معى طوال اليوم.. لكننى سرقت الشوكولاتة..

-    أكلناها معًا.. ورسمتنى يومها..

-     مازلت أحتفظ بالرسم..

-    أحتاج أن أراه جدًّا.. جدًّا..

-    لن أمانع..

-  رحلتى فجأة.. عدت من الإسكندرية ولم أجدكم..

-   كى لا تتذكرنى بألم اللحظة الأخيرة..

   انتهى الحفل بسرعة.. تبادلا رقمى هاتفيهما.. ركضت الفتاتان نحوهما فى سعادة كبيرة.. شعر كليهما أن الأمور تسير كما يجب أن تسير.. لكن غصة فى القلب كانت تحركهما نحو سؤال مستفز: (كيف سمحا لنفسيهما بأن يخسرا كل هذه البهجة مع السنين؟!)..

   فى المساء اتصل بها.. سأل عنها.. وطلب منها أن يزورها مع زوجته عند عودة زوجها.. شعرت بأن البهجة يمكن أن تعود.. وأنها لن تتذكر الحياة بعد ذلك.. فقط لأن طفلة داخلها عادت للحياة.. أما هو فكان سعيدًا لأن تلك الطفلة التى كانت تلقاه كل عصر على درج منزل عامر بالدفء ستأتى لا محالة ولن تهرب من جديد..

 

 

تابع بوابة روزا اليوسف علي
جوجل نيوز