زاد الجدل فمنع السلطان "حقمق" الكلام إكراما للصيام
تحت عنوان "أهلا رمضان.. عندما منع السلطان الكلام إكراما للصيام" الكاتب الصحفي أمين عزالدين، في مجلة روزاليوسف "، منذ أكثر من 50 عامًا تحقيقًا عن ذكريات وقائع خلال شهر رمضان المبارك عبر العصور بعد دخول الإسلام مصر.
أحضان القرية المصرية
وقال: الذين نشأوا، مثل الكثيرين منا، في أحضان القرية المصرية، وعاصروها في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، لابد وأنهم يحملون الكثير من ذكريات رمضان، ويعرفون بفضل التجربة المباشرة مجموعة الظواهر والعادات والقيم الاجتماعية التي ارتبطت بهذا الشهر الكريم.
في طفولتنا المبكرة تعرضنا جميعا لنصيحة مشددة بالصيام، ولم يكن آباؤنا يوضحون لنا القيمة الدينية للصيام، ولعلهم لم يكن لديهم الوقت أو المثابرة لتقديم هذا الإيضاح، وإنما كانوا يبثون في نفوسنا أن الصيام من شيم الرجال وملمح مهم من ملامح الرجولة.
كان جدنا العجوز يمتحن رجولتنا بمعايير عديدة، كان يرسلنا إلى الرجال الساهرين في الغيط لنخترق الزراعات العالية المخيفة في الظلام الدامس، فيه سمة الرجولة.
وكان يكلفنا بتسويق بعض المحاصيل في المدن المجاورة، ونعود إليه بأموال كبيرة، وكثيرة في حرص ونحو لانزال أطفالا، فهذه علامة الرجولة أيضا. وبالمثل كان يأمرنا بالصيام.
وفي قريتنا، وربما في جميع القرى المصرية كانت الحياة طوال شهر رمضان تتخذ طابعًا جماعيًا وإنسانيًا رائعًا. بحيث تصبح "المشاركة" أبرز سمات العلاقات الاجتماعية.
الناس يشتركون في تقديم وجبات الإفطار "الجماعية" في "المنادر والدواوين" يدعون إليها القريب والغريب، يتجمعون حول "الصوانى" جنبا إلى جنب دون تمييز وفي جو رائع من البر والإخوة والإيثار. الناس يشتركون في إشعال فوانيس الساحات والحواري والأجران.
الناس يشتركون في "إحياء" الليالى بقراءة القرآن أو"ترتيب" المقرئين لتلاوته في سهرات تطول حتى وقت السحور وتدور عليهم فيها "صوانى" القهوة والتمر هندى والبلح الراسب في أكواب الماء والسكر.
وتعمق روح "الجماعية" بين الناس ف؟؟؟ في إثارة خلافاتهم اليومية، وتتصالح الأسر المتخاصمة، ويردع أهل السوء الساعين بالشر بينهم، وتمر أيام الأسواق الأسبوعية دون حوادث أو عراك.
والغريب في كل ذلك أن عجائز قريتنا وكهولها كانوا لايرون ذلك كافيا، وكانوا يرددون دائما أن الكثير من تقاليد رمضان قد ضاعت أو بهتت ألوانها، وأن الناس أصبحوا أقل اهتماما بها أو أن الخيرات والنعم قد زالت من القرية لأن الإنسان ولد جهولا.
وهذه بطبيعة الحال إحدى جوانب الرؤية عند السلفيين من كهول قريتنا، فالماضى عندهم دائما شيء رائع و؟؟ والحاضر شيء ناقص وباعث.
وفي ثرثرة رجال علم الاجتماع -أو لطلبة علم الاقتصاد -يفسرون ازدهار "الجماعية" في رمضان العشرينات من هذا القرن، وما قبله بأن "الملكية" كانت جماعية للأسرة وأن ذلك كان يمكنها من ممارسة تقاليد المشاركة اليومية في وجبات الإفطار وفي الحفاوة بالشهر الفضيل، وسواء فتح هذا التفسير أو قصر من الإقناع فإن أحدا لا ينكر روعة هذه التقاليد، وروعة هذه القيم الرمضانية التي غلبت الجماعية والمت؟؟ على مظاهر الفردية والأنانية في القرية المصرية.
وقد نجحت القرية والمدينة المصرية، قرونًا عديدة في الحفاظ على قدر معقول من القيم الاجتماعية الرمضانية وتطويرها لصالح الجماعة وتكافلها وكان التركيز في الحفاظ على القيم متجها في الأغلب إلى الاحتفال برؤية الهلال، والسور طول الليل وقراءة القرآن وصحيح البخاري، والتوس في توزيع الصدقات وخاصة الأطعمة، والبر بالأهل والجيران.
الرؤية
ظلت الظهور القبطية، حتى بعد دخول الإسلام إلى مصر، هي علامات الطريق لمواسم الزراعة، تتحدد على أساسها أوقات الزرع والري والحصاد والتخزين والتسويق ولكنها فقدت الكثير من أهميتها في الحياة العامة والحياة الاجتماعية في مصر الإسلامية عندما أصبحت الشهور الهجرية علامات الطريق الممارسة الدينية والسلوك العام والمعاملات.
ولما كان شهر رمضان من أهم هذه الشهور وأبرزها مكانة في الحياة الدنيا والآخرة.
" فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وهو شهر الصيام، وشهر ليلة القدم، وشهر بدر" فقد كان من الطبيعي أن تزداد الحفاوة بمقدمته وأن تصبح رؤية هلاله مناسبة عامة وعامة في المجتمع الإسلامي المصري، ومن ثم فقد أصبحت معالم الاحتفال "بالرؤية" إحدى الظواهر الاجتماعية في مصر التي لفتت نظر المؤرخين والرحالة العرب والأوروبيين.
وقد صادف الرحالة الفذ ابن بطوطة مناسبة هذه الاحتفال في مدينة - أو قرية أبيار بالبحيرة في منتصف القرن 14 الميلادي "حوالى سنة 1340" فقال إن هذا الاحتفال كان يبدأ باجتماع الفقهاء - في كل قرية ومدينة - بعد صلاة العصر في اليوم التاسع والعشرين لشعبان، وذلك في دار القاضي، وكان نقيب المتممين، وهو ذو إشارة وهيئة حسنة، يقف بباب الدار، فإذا جاء فقيه أو وجيه من أهل القرية- أو المدينة - استقبله في ترحاب وسار أمامه وهو يسمى بالله وينادى باسم القادم، وهنا يقوم القاضي ومن معه تحية له ثم يجلسه النقيب في الوضع الذي يليق به فإذا تكامل الجميع ركبوا، ومعهم القاضي، ومن ورائهم مكان البلدة جميعا من الرجال والنساء والصبيان حتى يخرجوا إلى مرتفع من البلدة فرشت عليه السجاجيد والمفارش يطلق عليه “مرتقب الهلال”، وهناك يجلسون في خشوع يترقبون هلال رمضان، فإذا شهدوه، عادوا بعد صلاة المغرب إلى المدينة بين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس، حتى إذا دخلوا المدينة أوقد أهلها الشموع على الحوانيت والبيوت.
وينتهي الموكب عند دار القاضي ومنه يتفرق الجمع بعد تبادل التهاني بشهر الصوم. ولا شك أن هذا التقليد الذي شهده ابن بطوطة قد عاش قرونا طويلة، ولم يكن يعطله غير قيام الحروب أو الثورات كما حدث خلال الحملة الفرنسية.
والموكب المعاصر لهذا التقليد هو ما تطبقه محافظة القاهرة وبعض المحافظات الإقليمية وتشترك فيه مواكب الطرق الصوفية وعربات الحرفيين، ويخترق القاهرة حتى ميدان سيدنا الحسين إعلانا بحلول الشهر المبارك.
الأنوار والطبول
بإعلان حلول الشهر المبارك تلبس القاهرة ثوبا زاهيا وتفيض حواريها السفحة، وساحات الفضاء وحول أضرحة الأولياء ودور العظماء والوجهاء، في بحر من الشموع والمشاعل والأضواء، وتنبعث من شوارعها وحواريها ضربات الطبول والغناء والمديح طوال الليل، وقد شهد الرحالة فايز الذي زار مصر سنة 1443 م جانبا كبيرا من هذه المظاهر وأخذته الدهشة لكرة الأنوار والمشاعل في الطرقات والفوانيس المختلفة الأشكال والألوان التي يحملها الكبار والصغار.
وأكد الرحالة برنارد دي بريد أن ضجيج القاهرة في رمضان، طول الليل، أفض مضجعه وحرمه من نعمة النوم أيام إقامته.
ومن الغريب حقا أن القاهرة الساحرة في رمضان طوال العصور الوسطى وما بعدها كانت بحاجة إلى "التسحير" والمسحراتية.
وقد تابع الدكتور سعيد عاشور، هذه الظاهرة، في كتابه "المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك "فقال: في القاهرة جرت العادة أن يطوف أصحاب الأرباع "جمع ربع" وغيرهم بالطبلة على البيوت وهم يضربون عليها، أما أهل الإسكندرية فاعتادوا أن يكون التسحير بدق الأبواب على أصحاب البيوت والمناداة عليهم.
ويقال إن بعض العلماء اقترح على السلطان" برسباى" سنة 830 هـ عدم إطفاء القناديل في رمضان إلا قبيل طلوع الفجر، إيذانا بآخر فرصة للتسعير.
وقد استمرت ظاهرة الأنوار والفوانيس والتسحير قرونا عديدة حتى عصرنا الحاضر. ومن الطريف أن القيادة العسكرية البريطانية وسلطات الاحتلال عادت إلى تعطيل هذه المظاهر خلال ثورة 1919 خوفا من التجمعات الشعبية وحتى لا تنقلب إلى تجمعات سياسية لحساب الثورة.
فلما ألقت وزارة محمد سعيد باشا في أعقاب مارس 1919 للتهدئة كان أول قراراتها إباحة الشهر في رمضان والسماح للأهالي بالتسخير.
تلاوة القرآن والبخاري
المبررات الرمضانية حول المقرئين وحول تلاوة القرآن والحديث، وهي السهرات التي شهدناها في طفولتنا، أصولها التاريخية.
ففي العصور الوسطى الإسلامية، وخاصة في العصر الفاطمي وما بعده، كانت تلاوة القرآن وقراءة صحيح البخاري، بالقلعة وفي جميع المساجد والمدارس ودور الوجهاء والأمراء بالتالي، من أهم المظاهر الرسمية والشعبية لإحياء شهر رمضان، ففي أيام السلطان شعبان، أحد سلاطين المماليك، جرت العادة على أن تبدأ قراءة البخاري في أول يوم من شهر رمضان بين يدي السلطان وفي حضور جماعات من الفقهاء والفقهاء والعلماء.
وفي عهد السلطان "المؤيد شيخ" أغناه هذا التقليد ليشمل شهر شعبان وانسح مجلسه بالقلعة حتى ضم مشايح العلم والطلبة.
وكان يصرف لكل منهم ألف دورهم فلوسا. وقد هاجم المقريزي هذه الجلسات أو بعضها لما كان ينسب فيها أحياناً من خلافات في التفسير أو نشوب مشاحنات بين العلماء.
وربما كان ذلك هو ما دفع السلطان "حقمق" سنة 832هـ إلى منع الحاضرين عن الجدل والاكتفاء بالتلاوة والقراءة.
الطعام لكل فم
إذا كان شهر رمضان هو شهر الصيام، فإنه قد أصبح بمرور الوقت شهر التوسع في ألوان الطعام من أجل إطعام كل فم، ومن أجل البر بالمساكين وأهل السبيل والمحتاجين، فالتوسع، هنا لا يقصد به الذات والنفس وإنما هو توسيع من أجل الغير.
هذا هو المعنى الدقيق "المتوسع" في شهر رمضان، وهذا هو المظهر الذي ورثه مجتمعنا من تراث العصور الوسطى الإسلامية وتقاليدها.
فالسلطان برقوق اعتاد أن يذبح طوال سلطته في كل يوم من أيام رمضان خمسة وعشرين بقرة، وتوزيع لحومها مع ما يطبخ من الطعام وما يخبز من آلاف الأرغفة -على أهل الجوامع وحتى السجون بحيث يخص كل فرد رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة.
ويؤكد المقريزي أن السلاطين الذين؟ برقوق ساروا على هذا التقليد فأكثروا من ذبح الأبقار وتفريق لحومها". وزاد بعض السلاطين على ذلك بإقامة المطابخ للمساكين، ويقول إن خمسة آلاف طاعم كل يوم كانوا يأكلون في مطابخ السلطان بيبرس طوال أيام رمضان.
كما جرت العادة على زيادة مخصصات "التموين" التي كان يوزعها السلاطين على العلماء وأصحاب الجامكيات، وقد بلغ راتب السكر أيام الناصر محمد "سنة 745هـ" ثلاثة آلاف قنطار قيمتها ثلاثون ألف دينار منها ستون قنطارا كل يوم من أيام رمضان برسم الدور السلطانية.
وقد ورثت القرية المصرية الحديثة، إلى عهد قريب، شيئا من هذه التقاليد وحافظت عليها، وإن كان نرى الكثير منها آخذا في الاندثار في الوقت الحاضر.
ما هو البديل المعاصر؟
إن وقفة خاطفة أمام هذا الثراء الكبير من تقاليد السلف في رمضان، تطرح أمامنا سؤالا مهما وضروريا وهو: أين البديل المعاصر لهذه التقاليد؟ وما هى المؤسسات الحديثة القادرة الآن على إحياء هذه التقاليد في إطار حياتنا المعاصرة.
إن القيادات الرسمية وغير الرسمية في القرية وفي المدينة المصرية مطالبون اليوم بالتبصر في هذه التقاليد وهذه القيم الإنسانية وتقديم بديل معاصر لها يتواءم مع نمط حياتنا الحاضرة. صحيح أن شيئا من هذا وذاك، لايزال باقيا بصورة أو أخرى في الوقت الحاضر، ولكن لايزال هناك الكثير مما يمكن أحياؤه وتجديده من هذه التقاليد.



