د. حسام عطا
نتفليكس.. أفلام سيبرانية جدًا عن الحب والحياة
تذكرت النقد السيبراني، وهو أحد مناهج علم النقد المعاصر، وهو مجال ومقترب نقدي مستحدث، ظهر في حزمة من العلوم الإنسانية الناشئة التي تقع في دوائر الاتصال والتقاطعات المعرفية.
وهو تفكير نقدي يسعى لفهم الإنتاج الإبداعي لعالم الشبكة الدولية للمعلومات.
تذكرت النقد السييراني بينما كنت أتابع الاستقبال النقدي الحار المحتفي بفيلم خيري بشارة، يوم الحداد الوطني في المكسيك، ومجموعة الأفلام الثمانية التي أطلقتها شبكة نتفليكس في عيد الحب هذا العام.
فكيف يمكن النظر لهذه الأفلام التي تم إنتاجها خصيصًا للمنصة الإلكترونية الشهيرة؟ هل يمكن رؤيتها كمجموعة من الأفلام القصيرة؟ أم هي مسلسلة درامية في حلقات متصلة منفصلة؟ وهى سلسلة تم تسميتها "الحب والحياة"، وهي تناقش موضوع الحب في إطار درامي، من مصر والمغرب وفلسطين والسعودية وتونس ولبنان.
وهي السلسلة التي تم إطلاقها في العاشر من مارس 2022، ولا يزال رجع صداها يتمدد بهدوء وبالتدريج، وبطريقة تؤكد أن دوائر الاستقبال العربية طبيعية ومتفهمة ومتفاعلة بشكل إيجابي مع الإصدار الجديد العربي لنتفليكس، الذي لا يستخدم الصدمات الثقافية الحادة.
مما يؤكد ملاحظة أساسية، أنه لا وجود للمقاطعة والرفض والانسحاب في عالم النقد السيبراني المعاصر، ذلك أن الانتقائية حسب طبيعة المحتوى هي التي تضع سياسات الاستقبال.
وفي ذلك تذهب شبكة التسلية الدولية الأكبر الأمريكية نتفليكس في اتجاه شديد الذكاء، إذ عهدت إلى استعادة سمعتها في المنطقة العربية إلى شركة محترفة، هي شركة اتحاد الفنانين للسينما والفيديو.
وقد عملت على هذا المشروع منذ عامين، وعهدت بالإشراف عليه إلى كاتبة السيناريو عزة شلبي، المصرية المعروفة بقربها من دوائر اليسار الثقافي المصري.
إنه ذكاء إنتاجي حاد يستقطب الأفراد المتميزين في سوق عمل فني أصبح بخيلًا في إتاحة الفرص الإنتاجية الفنية.
وهي حقًا فرصة مغرية جدًا، إذ إن مشروع في الحب والحياة يتم عرضه في مائة وتسعين دولة، مترجمًا إلى ثلاث وثلاثين لغة، ومدبلجًا إلى خمس لغات.
وذلك يتم في يسر وبساطة وبطريقة عمل جديدة، هي طريقة العالم السيبراني المتصل فى اتصال مذهل، يمهد لفكرة المتفرج العالمي، وهي فكرة جديدة يجب ملاحظتها وفهمها في ظل ذلك النوع من الإنتاج الفني.
ورغم أن المستهدف الأول هو جمهور المنطقة العربية من المشرق والمغرب والخليج العربي، إلا أن الدلالات الفنية والصياغة الجمالية تستهدف المتفرج العالمي، وهو نوع جديد من الجمهور لا مكان محدد له، وهو مجموع الثقافة المعاصرة عالمية الطابع التي تسعى لخلق بيئة وأفكار وجماليات موحدة، في عملية تلقي الفنون.
بينما كانت الفنون الدرامية وعلى رأسها المسرح والسينما تستهدف الإطار المرجعي للمتلقي المحلي أو الوطني أو القطري، عبر مخاطبة إطاره الثقافي المرجعي المكون من مجموع خبراته ومعارفه وديانته وظروفه الاقتصادية والسياسية، وعبر تلك المحلية وعبر المشترك الإنساني يتم تداول الأعمال المتميزة ذات الطابع الأصيل على نطاق دولي. إنه إذن تغيير خفي في أفق ترقب وتوجه المبدع، وهو يعرف مسبقًا أن عمله سيسافر في كل أنحاء الدنيا عبر الفضاء الإلكتروني في لحظة إطلاقه، ولذلك شاء أم أبى، وافق أو رفض، فهو يخاطب ذلك المتفرج في كل مكان، ذلك المتفرج العالمي، وهو الأمر الجديد المربك، الذي يمكن للتفكير النقدي السيبراني أن يلاحظه بوضوح.
وفي هذه الملاحظة تأتي مسألة ثانية مهمة للغاية، وهي مسألة المتفرج الفرد الذي يشاهد تلك الأفلام المصورة بذات الطريقة التي يفعلها القارئ الفرد الذي يقرأ كتابًا بمفرده، سواء كان كتابًا ورقيًا أو كتابًا إلكترونيًا.
إنها مسألة التلقي الفردي، وهي مسألة تختلف اختلافًا جذريًا عن التلقي وسط الجماعة، والتي هي مسألة تاريخية مرتبطة بالتجمع البشري المعروف في دور العرض السينمائية.
ولذلك يأتي فيلم "أخويًا" ضمن مجموعة الأفلام المطروحة بعالمه الريفي شديد المحلية أكثر هذه المجموعة اقترابًا من الواقع، وذلك لأن المخرجة ساندرا بصال، قد عبرت عن عالم محلي حقيقي، وتصرف مختلف لطفل مصاب بمتلازمة داون، لكنه فكر في حيلة طفولية رائعة، أفسدت زواج الحبيبة وأعادتها لحبيبها المكافح الطيب، في إشارة لعالم بريء يأتي خياليًا لكنه ممكن، خاصة في التعبير الخافت عن العلاقة الخاصة بين أهل الريف والحيوانات تلك العلاقة التي تقوم على محبة بين الإنسان والحيوانات التي يربيها حتى تصبح جزءًا من عالمه.
ويأتي أحمد عز، جديدًا مختلفًا في يسر وأداء بسيط مع مخرجة الفيلم، والتي قدمت نجمًا جديدًا من ذوي الهمم أشاع حالة من الدفء الإنساني، وأشار لحب أخوي خاص أبعد من علاقة الحب التقليدية بين رجل وامرأة.
أما فيلم خيري بشارة الذي حصد الاهتمام الأكبر، فهو يحاول خلق حالة افتراضية عن صراع بين من يمنع الحب ويجرمه حتى يصبح علاقة سرية، وبين المحبين وإرادة التعبير عن الحب وإعلانه.
والفيلم يستخدم الكوميديا السوداء للتعبير عن تلك الإرادة التي تحارب الحب، وهو يشير إلى إذاعة خيالية يعمل فيها المذيع حسن، الذي لعبه آسر ياسين بحضور خاص سهل ممتنع، وينتهي الفيلم بتحول هيئة منع الحب إلى هيئة دعم الحب، والإشارة في العنوان للمكسيك والحداد يلغيها الفيلم بالإشارة الواضحة لإذاعة مصر والتصوير في شوارع القاهرة الشهيرة، والتي أسماها الظافرة.
وهو يشير إلى خضوع مفهوم الحب لفكرة السوق والبيع والشراء، وتحول الحب إلى عالم سري، وهي صياغة ساخرة ينتهي بها الفيلم إلى نهاية مبهجة سعيدة، وإن لم يستطع أن يكون عمقيًا في رؤيته لأسباب كره المحبة.
ليس عميقًا وواضحًا وجادًا مثل معالجة نجيب محفوظ وعاطف الطيب في الحب فوق هضبة الهرم (1986).
إذ إن محفوظ قدم علاقة زوجية شرعية غير قادرة على التحقق. أما السرداب الخاص بالحب في تلك الحفلة السرية فهو ضحك أسود، لكنه يتوجه لذلك المتفرج العالمي، أما المتفرج المصري والعربي فهو يدرك الإشارة الصحيحة لندرة إعلان علاقات الحب، لأن الإعلان لا يعترف به المجتمع.
الفيلم لا يسأل عن الأسباب، إلا أنه لا يلحظ كل هؤلاء العشاق في الحدائق العامة وعلى كباري القاهرة العامرة، لا يلحظ أن الجيل الجديد لا يحتفل بحبه في الشارع مثل جيل الثمانينيات، لكنه حقًا لا يزال يحب.
وإن بقي لي أن أتفق مع عالم بشارة الساحر في ضرورة دعم الحب، لأن الوطن حقًا يجب أن يكون مساحة حاضنة للحب والزواج والسعادة.
وتبقى فكرة الحب والحياة فكرة مبتكرة تستحق المشاهدة، ويبقى العالم الإلكتروني أفقًا جديدًا يعيد تشكيل الإنتاج الإبداعي والتلقي، مما يحتاج لتفكير نقدي مختلف.
إنها ليست أفلامًا قصيرة عادية، إنها حقًا أفلام قصيرة سيبرانية جدًا.