رؤوف عبيد
الشرطة في مواجهة بقايا ميراث الثأر
الساعات الماضية، شهدت حالة من الحزن في محافظة المنيا، وتحديدًا في مدينة ملوي، بسبب مقتل ثلاثة في حقل بمحافظة المنيا، بدافع بقايا ميراث الثأر، حيث اشتبكت عائلتان، بسبب سقي الأرض، مات على إثرها ثلاثة أشخاص، والحقيقة هنا لا نكتب عن تفاصيل الواقعة، وإنما عما تبقى من ثقافة الثأر وآثارها السلبية على مجتمعنا، ولعل المتابع لتلك الأحداث يكتشف أن العائلتين كانتا على خلاف، وتربطهما علاقة ثأرية منذ 70 عامًا أي ما يقرب من قرن من الزمان، ومازال يتربص بعضهم البعض، إلى أن عادت تلك العلاقة بأفكارها القديمة ووجهها القبيح، لنقرأ عن خسائر فادحة في المال والأرواح لكلا الطرفين.
وحول هذا الموضوع، قرأت دراسة للدكتور سيد معوض عن الثأر قائلا، إن أبناء الصعيد يرددون أن "الثأر تجارة خسرانة دائماً، وعفا الله عما سلف، ويا بخت من قدر وعفا"، حيث يؤمن الصعايدة بالمسؤولية تجاه هذه العادة القبيحة التي يرفضها الغالبية العظمى، لما تسببت فيه من دماء ودمار لعائلات كاملة في عقود سابقة، مؤمنين بأن الدمار يحل عليهم ماداموا قرروا القتل والانتقام، مؤكدا أن الثأر مرتبط بخراب البيوت وعدم الاستقرار، وعدم إعطاء الإنسان الفرصة للنجاح أو التقدم؛ بسبب حالة التربص بين المتخاصمين، مؤكدا أن حق الأخذ بالثأر هو أول أساس قام عليه حق العقاب على جريمة القتل في العصور البدائية، وكان هذا العقاب يأخذ طابع الانتقام الفردي، إلا أنه مع تطور المجتمع الإنساني بقيام نظام العائلة، أصبح توقيع العقاب راجعاً إلى رب العائلة، وعندما تحالفت العشائر وانضمت إلى بعضها البعض وتكونت القبائل أصبح توقيع العقاب يأخذ طابع الانتقام الجماعي، فأي اعتداء على فرد يعد اعتداءً على جميع أفراد القبيلة التي ينتمي إليها هذا الفرد، وكثيراً ما كان الطرف المنتقم يتجاوز حدود الاعتداء، فيكون ذلك سبباً لانتقام جديد من القبيلة الأخرى، وهكذا يتتابع الانتقام والثأر من الجانبين فيما يشبه الحلقة المفرغة.
ومع تطور المجتمع الإنساني، بقيام نظام الدولة، حيث تقضي الدول على الفوضى ومظاهر عدم النظام الذي يحقق فيه الجميع أهدافهم، ومن ثم فإنهم يتركون لها مسؤولية ضبط المجتمع وتنفيذ العقاب، وبنشأة الدولة أصبح توقيع العقاب يقع على عائق الدولة من خلال أجهزتها المختلفة، إلا أنه على الرغم من ظهور الدولة، وعلى الرغم من اتفاق كل الأديان السماوية على أحقية ولي الأمر في القيام بعملية القصاص من القاتل، في ضوء القوانين التي تتفق مع الديانة الرسمية لها، إلا أن ظاهرة الأخذ بالثأر مازالت سائدة في المجتمع المصري بالصعيد تحت تأثير سيطرة قيم العصبية القبلية، والطقوس والعادات، والتقاليد المتعلقة بالثأر والانتقام، والتي كانت سائدة قبل نشأة الدولة.
ولعلها تلك الأحداث التي شهدتها محافظة المنيا الأيام الماضية تؤكد لنا أن هناك قلة محدودة مازالت تتمسك بتلك العادات والأفكار القديمة القائمة على الثأر متناسيا أنه أصبح هناك دولة هي المعنية بأخذ الحقوق والقصاص وتنفيذ القانون لا الأشخاص والقبائل، وإلا أصبحنا في غابة تحكمها الفوضى، وهو ما لا يسمح به المجتمع وقبله الدولة الآن، والمراقب الجيد يعرف أن وزارة الداخلية تتعامل مع هذا الأمر بحرفية شديدة لا لكثرة الأحداث المشابهة فقط، ولكن أيضا للخبرات المتراكمة لدى جهاز الشرطة.
وتصادف وجودي وقت الحدث بمدينة المنيا، وترقبت الأمر ولاحظت حالة تشبه حالات الطوارئ في مديرية آمن المنيا وقت الحدث، وعلمت بالواقعة المؤسفة ورجال الأمن يتحركون وكأنهم يرفعون شعار لا للثأر، لا لفوضى حمل السلاح، لا لنزيف الدم، وفي دقائق معدودة أمر اللواء محمد عبد التواب مساعد الوزير لأمن المنيا بانتقال فريق البحث الجنائي وسيارات الإسعاف إلى مسرح الأحداث، وتبين حدوث مشاجرة تطورت إلى معركة بين الطرفين، بسبب خلافات على أسبقية ري الأرض الزراعية.
لم يكن عمل الأمن مقصورا على مديرية الأمن فقط، بل على وزارة الداخلية بأكملها فكانت تتابع الأمر لحظة بلحظة، وكذا المكتب الإعلامي لديها الذي نقل الأحداث وكأننا نعيش فيها، وبحرفية شديدة ترد على كل التساؤلات حول الواقعة، وكذا مواقع التواصل ترد على الاكاذيب والشائعات كلها في آن واحد، وتنقل كل ذلك للمجتمع، لدرجة أنك لا تحتاج إلى البحث عن تفاصيل أخرى، فما جاء بتلك البيانات كفيل أن ينقل لك الأحداث كما هي، وتشعرك أيضا أن الاهتمام بالصعيد من الناحية الأمنية لا يقل أهمية عن أمن القاهرة.
فوزارة الداخلية تعيش الأحداث بكل ما فيها من وقائع مؤسفة، خاصة حينما تكون هناك حالات دم وتنقلها أيضا إلى المجتمع بحيادية شديدة، بما يحافظ على حقوق الطرفين المتنازعين ودون التحيز لطرف على حساب طرف آخر، خاصة في حالات الشجار والثأر، ورغم أن الأحدث شهدها صعيد مصر، إلا أن الأمن في أرجاء المحروسة لا يتجزأ، ويعد أكبر نعمة أنعم الله بها علينا، وحتى تتحقق الغاية التي من أجلها الله خلق البشر، لا بدَّ من وجود الأمن للفرد خاصة وللمجتمع عامة.
والحقيقة، أن الداخلية بوزيرها اللواء محمود توفيق ومكتبها الإعلامي بقيادة اللواء ناصر محيي، وكذا اللواء محمد عبد التواب مدير أمن المنيا يؤمنون جميعا بأن الأمن هو الحياة، فلا يوجد استقرار للفرد في المجتمع إذا كان هذا المجتمع لا يتوافر به الأمن والأمان، لذلك يقومون بعدد من الإجراءات الأمنية التي يتم اتباعها لحماية الدولة بجميع أجهزتها، وهذا ما شهدناه في تلك الأحداث.
فالدولة تعلم جيدًا أنه إذا لم يتوافر الأمن الداخلي والخارجي لشعبها، فإنها لن تتقدم ولن تنهض ولن تتطور، وسيكون الخوف هو أحد سمات مواطنيها، وسيكون الخوف هو العائق لأي تطلعات مستقبلية لمواطنيها، ولهذا السبب فإنه إذا وجد بدولة ما تكامل في عناصر الأمن لديها، فهذا يدل على وجود مستقبل أفضل في ظل الأمن والأمان.
حفظ الله مصر وشعبها