د. حسام عطا
وهج الإتقان وارتكاز الإجادة.. قراءة في ماجدة الرومي ونادر عباسي
في علم الدلالة وهو أحد مناهج النقد المعاصرة، توجد إشارة معرفية إلى ما يسمى "نقاط الارتكاز في إنتاج واستقبال الأعمال الفنية". وقد كان حفل الفنانة اللبنانية العاشقة لمصر ماجدة الرومي في ختام مهرجان الموسيقى العربية في دورته الثلاثين في الهواء الطلق بمسرح النافورة بدار الأوبرا المصرية، وكانت ليلة الاثنين الخامس عشر من ليالي نوفمبر 2021 نقطة ارتكاز يجب البناء عليها وتفسيرها وإضاءتها.
كنت مدعوًا لحضور الحفل، ولاحظت صعوبة الحصول على مقعد، كان مقعدًا نادرًا أهداني إياه صديق العمر السفير د. بدر عبد العاطي كي نستمتع معًا بالأغنية التي كنا نرددها في باكر الأيام، والتي أحبها جيلنا كله، فمن أجل أغنية مفترق الطرق ذهبنا إلى هناك.
إنها الأغنية الأشهر من فيلم يوسف شاهين عودة الابن الضال إنتاج عام 1975.
كيف كتب صلاح جاهين بكل العمق والحزن والبساطة:
لسه الطيور بتفن والنحليات بتطن والطفل ضحكه يرن
مع إن مش كل البشر فرحانين
كان هدفي في حضور الحفل هو المتعة والبهجة، وقد حصلت عليهما، إلا أن ما دفعني للكتابة، هو الإجابة عن أسئلة ضرورية طاردتني بعد نشوة الاحتفال.
أولها: ما هذا الزحام والاهتمام الواضح من أجل الحصول على مقعد، وما هذا الجمهور المختلف من نخب إعلامية وثقافية واجتماعية متعددة؟
هو زحام على فن شديد الرقي، بعض منه غناء فصيح لأشعار نزار قباني.
إن الحضور الكثيف المبهج يؤكد اشتياقا ودعما لهذا النوع رفيع المستوى من الغناء، ما يدفعنا للاطمئنان لحقيقة واضحة، وهي وجود الجمهور الكبير المعبر عن الذائقة المصرية السليمة.
وظللت أتأمل الجمهور متعدد الأوجه ولاحظت وجودا كثيفا لفتيات مصريات من سن العشرين حتى الثلاثين، وسيدات من أجيال أكبر، وحضورا رجاليا متحمسا ووقورا.
إن ماجدة الرومي بتاريخها وسمعتها المهنية وملابسها الأنيقة المحتشمة واختياراتها الفنية، هي نقطة ارتكاز يمكن فهمها على أنها تمثل صوت الفتاة الشرقية الحر صاحبة المشاعر الرقيقة.
ولذلك كان الحضور الواضح للمرأة، وحضور الرجل المؤمن بمشاعر الحرية الأنثوية المتزنة، وبالغناء عندما يكون فنًا رفيع المستوى، إلا أن الاحتفال الأنثوي كان أوضح في عملية التلقي التي تأملتها.
إنهن يغنين معها كلمة بكلمة في توحد إيهامي انفعالي بنجمتهن
فهي تنشد بلسان الجماعة الأنثوية من أنت؟
كالضوء مررت كخفق العطر كهزج أغان شعبية
ومضيت شراعًا يحملني كقصيدة شمس بحرية
لوعود راحت ترسمها أحلام فتاة شرقية
أطلت ماجدة بمقدمة بسيطة تبدو عفوية، إلا أن كلماتها تبدو مدروسة للغاية، تحدثت فيها عن مصر، وقالت أنها الحضن الذي ترتاح فيه واللبنانيون من الحرب الطويلة.
جدير بالذكر أن ماجدة الرومي وقبلها الرمز العربي الكبير السيدة فيروز لم تغادرا لبنان إلا للغناء، والعودة للإقامة الدائمة في بيروت، رغم الحرب الأهلية الطويلة التي انتهت ورغم تبعات التوتر اليومي في لبنان وأزماته المتكررة، إلا أنهما هناك ولا تتوقفان عن الإبداع.
إنها الروح اللبنانية المحبة للحياة والتي ستنتصر على كل الأزمات المتتالية كما انتصرت من قبل.
كيف إذن يحمل هذا الصوت الجبلي القوي للسيدة ماجدة الرومي كل هذا الدفع العاطفي؟
إنها الإجادة والإتقان والتدريب والجاهزية فبعد اختيار الكلمات واللحن لكبار المبدعين يأتي العمل الشاق.
وبعد إهداء الحفل لروح الموسيقار الكبير الراحل جمال سلامة الذي وزع لها أغنيتها التاريخية مفترق الطرق من ألحان الكبير الملحن الراحل كمال الطويل، في تعبير عن مشاعر الوفاء الراقية.
لا يمكن لعين خبير تجاهل قدرة ماجدة الرومي على ضبط وزنها، واختيار فستانها الأزرق البسيط المحتشم الذي تبدو فيه مثل أي سيدة مصرية أو لبنانية أو عربية ترعى التقاليد وتحترم صورتها الذهنية.
ماجدة تستخدم الإيماءة الملهمة لترفع يدها وتجعل الحفل يركز مع أصبعها الوحيد الذي يرقص ليشع بهجة خاصة.
وعندما يأخذها وجد الموسيقى تكاد ترفع جسدها لتضعه على الأرض مرة وراء مرة، وكأن هذا هو أول وآخر المسموح به حركة أثناء الغناء النبيل.
وتستطيع أن تلحظ الحضور الجذاب لهذه الأنيقة الشرقية التي تحافظ على طهر وبراءة واكتمال الغناء.
تدفق وذاكرة حية وانسجام مع الأوركسترا وقائده نادر العباسي.
ونادر العباسي القائد الموسيقي للأوركسترا السيمفوني الغربي، يدخل في هذا الحفل بعدد من الآلات الشرقية ليمزجها بالأوركسترا في صياغة مدهشة ولافتة للنظر مثل نور مصري هارب من كتاب الإتقان ومتون الجودة والاحتراف.
وفي إتقان خاص عزفت الأوركسترا أغنية حي على الفلاح، لتشدو بها ماجدة مصحوبة بأداء مسرحي بسيط، فقد استلمت العلم المصري من صالة الجمهور.
ثم وضعت ماجدة العلم المصري بين يديها بحب وتقدير، قبلت العلم ثم أعطته للمايسترو نادر العباسي، ثم وقف الجمهور احترامًا للعلم المصري، وغنى مع ماجدة الأغنية وقوفًا.
الملاحظة التي تحتاج لتجديد الذكرى أن الأغنية من تأليف الأخوين رحباني بالعامية المصرية ومن ألحان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، في تعبير عن عمق الامتداد المصري في لبنان وعمق الحضور اللبناني في مصر.
وهي أغنية من أغاني المقاومة الكبيرة للشعب العربي قبل انتصار أكتوبر العظيم 1973.
هكذا تعرف ماجدة كيف تنعش مشاعر الجماهير والذاكرة الوطنية، ليس جديدًا الحضور المشع المبهج للنجمة الكبيرة ماجدة الرومي، لكن المبهج حقًا هو ذلك الإتقان والاختلاف لقائد أوركسترا مصري محترف.
لذا فمن الضروري الابتهاج لوجود تلك الطاقة الإبداعية من الإتقان والجودة في مصر، لنادر العباسي كل الاحترام والتقدير، ولماجدة الرومي من قلبي سلام.